الحمد لله الذي هدانا لما فيه عزنا ونصرنا وتمكيننا في الأرض، وجعل الإيمان هو خير زاد وخير سلاح، يتزود به المؤمن، ليأمن به الفتن في الدنيا والعذاب يوم القيامة.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين:

سنتناول في هذا المقال .. تأصيل الصراع وحتميته ونماذج من الصراع في ضوء السياق القرآني. وكما يأتي:

تأصيل الصراع وحتميته:
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يخلق في النفس البشرية الشيء ونقيضه، فخلق فيها الخير والشر، قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ – وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } الزلزلة 7و8، وخلق فيها الحب والبغض، قال تعالى: { هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } آل عمران 119، وخلق فيها الرحمة والشدة، قال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ… } الفتح 29 ، كما خلق في هذا الكون من المتناقضات ما يجعل فيه حالة من الصراع الدائم بين هذه التناقضات لتضفي على الكون حالة من التدافع والحركة التي تحول دون فساد هذا الكون، قال تعالى: { … وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }  البقرة 251، ومن ذلك خلق الحق بالباطل، قال تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } الاسراء 81 ، وقد تمثل هذا الحق بشرع الله وما جاء به المرسلون، قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }البقرة 213 ، وتمثل الباطل بكل ما خالف شرع الله عز وجل قال تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا }  الكهف 56.

ويعتبر هذا الصراع قديم بقدم الإنسانية بدأ مع بدء الخليقة، فمنذ خلق الله فيها آدم عليه السلام وأسجد له ملائكته الكرام أعلن إبليس حربه على هذا المخلوق الجديد وعاهد ربه على إغوائه وإضلاله، وهذا الصراع بين الشيطان وحزبه مع المؤمنين باقٍ إلى يوم القيامة، فهو صراع ماض لا مناص منه، إنه سُنَّةٌ من سنن الله الثابتة أبد الدهر.

وقد مارس الشيطان حربه مع آدم بنفسه حين أزله فأكل من الشجرة، ثم تمثل هذا الصراع بين ابني آدم حين تقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر فقتل الآخر أخاه، كما تمثل هذا الصراع بين الحق والباطل على مدى الزمان بالصراع بين الرسل وأتباعهم من جانب، والشيطان وأوليائه من جانب آخر، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }الأنعام 112 . وقد جاءت السنة المطهرة لتؤكد بكل وضوح أن الصراع بين الحق والباطل ماضٍ إلى يوم القيامة، قال – صلى الله عليه وسلم – “لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”.

الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي ببيان نظري بل لا بد من معركة حاسمة يزهق فيها الباطل ويعلو الحق ويزدهر

والصراع بين الحق والباطل لا ينتهي ببيان نظري بل لا بد من معركة حاسمة يزهق فيها الباطل ويعلو الحق ويزدهر، لذا فقد أكرم الله تعالى النبي -صلى الله عليه وسلم -وصحبه بمعركة حاسمة دارت رحاها على أرض بدر، وقد كان المسلمون يتمنونها قافلة يأخذونها بيسر دون قتال وأرادها الله أن تكون حاسمة ذات شوكة، وفي ذلك إشارة أن الباطل لا بد أن تكسر شوكته ويهدم بنيانه ليبقى الباطل ضعيفاً مهيناً، وعندها يزهو الحق ويزدهر وتكون له هيبة في النفوس.

ومن خلال هذا العرض ندرك تأصيل وحتمية حقيقة الصراع بين الحق والباطل، ويتبين لنا أن الحق والباطل في صراع مستمر ولا يمكن أن يلتقيا في منتصف الطريق، فالصراع قائم وكان لزاماً على أهل الحق أن يأخذوا الأمر بكل جد وأن يعدوا للأمر عدته حتى لا تكون فتنة ويكون النصر للحق وأهله مهما علا الباطل وطال زمانه.

نماذج من الصراع في ضوء السياق القرآني:
إن المتدبر لكتاب الله عز وجل يلمس بجلاء أن القرآن قد ذكر نماذج كثيرة ومتعددة للصراع المحتدم بين الحق والباطل على مدار الحياة الإنسانية، وأن هذا الصراع قد أخذ أسباباً وصوراً متعددة، وقد كان الصراع سجالاً بين الحق والباطل، ولكن الحق ينتصر ويعلو في المشهد الأخير من هذا الصراع المحتدم.

ولسنا بصدد الاستطراد في ذكر نماذج هذا الصراع، فالمقام لا يتسع، وحسبنا أن نذكر ثلاثة نماذج بالإشارة والتلميح لهذا الصراع بين الحق والباطل وذلك فيما يلي:

أولاً: صراع ابني آدم عليه السلام:

قال تعالى:  {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ – لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ – إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ – فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . المائدة 26-29.

تروي كتب التفسير (أن صراعاً نشأ بين ابني آدم عليه السلام لصُلْبه، نتيجة خلاف على جارية أرادها كل واحد منهما زوجة لنفسه)، روح المعاني في تفسير القران محمود الألوسي م2ج6ص111، (وقد بلغ الأمر بينهما مبلغه، فقربا قرباناً، فمن قبل الله قربانه حسم هذا الصراع لصالحه، وكانت الجارية زوجاً له، فلما كان الأمر على غير ما يريد صاحب الباطل هاجت نفسه وقتل أخاه ليمضي إرادته). ابن كثير تفسير القرآن ج2 ص42.

تأتي هذه القصة كنموذج لطبيعة الشر والعدوان الصارخ الذي لا مبرر له سوى الحسد والجري وراء حظ النفس بغير حق، صراع بين صاحب حق وصاحب باطل، أراد فيه الباطل أن ينتصر لنفسه ولو بجريمة نكراء يكون فيها اعتداء على حرمة الدم، وأي دم؟ إنه دم أخيه! كما ترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر، والعدوان الصارخ الذي تشمئز منه النفس.

ومن الجانب الآخر تقدم لنا نموذجاً لطبيعة الخير والسماحة والطيبة والوداعة، التي تجلت فيها رغبة المؤمن الصادق التقي الذي يستمسك بحقه، فلم يساوم على شرع الله، وفي ذات الوقت يقدم دمه طمعاً في تكفير الذنب، والنجاة من غضب الله، وينأى بنفسه أن يمس دم أخيه ولو كلفه ذلك الحياة، طمعاً بما عند الله تعالى من المغفرة والثواب، وتجنباً لصراع نصب الشيطان رايته، ويطمح في جني ثماره ليحقق غاياته الدنيئة.

ويأتي هذا النموذج للدلالة على قدم الصراع بين الحق والباطل، وليظهر أن الباطل يعتدي على شرع الله وحقوق الآخرين، وأن مصيره الندم والخيبة والخسران وإن بدا لصاحبه أنه ظفر بما أراد، وأن الحق هو الذي يسمو إلى الفضائل والقيم، وإن بدا للبعض أنه خسر الجولة في الدنيا، إلا أنه في حقيقة الأمر هو المنتصر على لترفعه عن الشهوات والأهواء والرغبات وحب الذات، وذلك بفضل ما يملك من قوة إيمانية تدفعه للتضحية بأغلى ما يملك طمعاً بالجنة والرضوان، ورضا الواحد الديان، قال تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } الأنعام 32.

ثانياً. الصراع بين موسى وفرعون:

وردت قصة موسى عليه السلام مع فرعون في القرآن الكريم في أكثر من أربع وعشرين سورة، بعضها مفصل والآخر بشيء من الإجمال، وتمثل هذه القصة نموذجاً رائعاً للصراع بين الحق والباطل، الحق الذي جاء به موسى – عليه السلام – والباطل الذي تجسد في جبروت فرعون، الذي أصبح مثلاً يضرب لكل صاحب باطل متكبر عنيد، ومن عجيب حكمة الله تعالى أن موسى – عليه السلام – وبني إسرائيل كانوا مستعبدين لفرعون وقومه، وقد أرسله الله تعالى ليكون معلماً وداعياً وهادياً لفرعون وملأه، فقابلوا هذه الدعوة بالعلو والطغيان، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ – فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } . المؤمنون 45 – 47.

وقد مكث موسى عليه السلام يدعو فرعون وقومه سنوات طوال، توعد فرعون خلالها كل من يؤمن برب موسى أصنافاً من العذاب الأليم.

وقد كانت دعوة موسى عليه السلام تتركز على قضية أساسية هي عقيدة التوحيد، القائمة على أن للكون إله واحد هو الله رب العالمين، المتصرف فيه بحكمته، ولعل الآيات التي أخذ بها فرعون وقومه من القحط والجفاف والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، كانت تهدف بيان ضعف فرعون وعجزه عن دفع الشر أو جلب المنفعة له أو لقومه، لذا فقد كان القوم رغم وثنيتهم وخوفهم من فرعون يهرعون إلى موسى عليه السلام متوسلين له أن يدعو ربه لكشف البلاء، ومع ذلك فلم يزدهم كشف البلاء إلا عناداً وتكذيباً، وإصراراً على الكفر والشرك بالله، قال تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ } الأعراق 135 .

وقد لاقى موسى وقومه أصنافاً من الأذى والعذاب على يد فرعون وملئه، قال تعالى على لسان بني إسرائيل: { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } الأعراف 129 ،  فلما بلغ إيمان السحرة من القوة والثبات مبلغه، فوقفوا في وجه فرعون وصبروا على الصلب وقطع الأطراف، قال تعالى:  {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ – قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} الشعراء 49- 50 . واليقين المطلق برب العالمين، قال تعالى مخبراً عن يقينهم: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} الشعراء 51، انتقم الله من فرعون وجنده فأغرقهم أجمعين، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} القصص 40، واستخلف المؤمنين وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى:

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} العراف 137.

وتمثل هذه القصة نموذجاً للصراع بين الحق متمثلاً بعقيدة التوحيد التي جاء بها موسى -عليه السلام -، والباطل ممثلاً بالكفر والإلحاد الذي تزعمه فرعون وقومه، استمر فترة من الزمان، وأخذ جانب الحجة والبرهان، والحوار والمناظرة والتحدي، ولما تمادى الباطل وأمعن في المؤمنين وسامهم قتلاً وتعذيباً، قصم الله الباطل وجنده، وكانت نتيجة هذا الصراع نصر قريب للحق، بقدرة الله تعالى دون قتال أو لقاء عسكري.

وهكذا يحسم الإيمان القوي والعقيدة الصالحة المعركة مع الباطل.  {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} آل عمران 126، إنه النصر الذي وعد الله به الإيمان على الكفر، وإنها هزيمة الباطل الذي أصر على العداء للمؤمنين، فيتولى الحق عز وجل حسم هذا الصراع بهذه النتيجة التي يفرح بها المؤمنون بنصر الله، ويعتبر بها الناس أجمعون.

يعتبر الصراع الذي مرت به دعوة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – مع الباطل مدرسةً يجدر بكل باحث يريد أن يقف على حقيقة الصراع بين الحق و الباطل أن يدرس ويتدبر هذا النموذج

ثالثاً. الصراع بين النبي محمد -صلى الله عليه وسلم -وقومه من قريش:

ويعتبر الصراع الذي مرت به دعوة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – مع الباطل مدرسةً يجدر بكل باحث يريد أن يقف على حقيقة الصراع بين الحق و الباطل أن يدرس ويتدبر هذا النموذج الذي تجلت فيه كل مراحل الصراع الذي بدأ من أول يوم وقف فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – على جبل الصفا يدعو قومه للإيمان، وقد ذكر الترمذي في سننه بسنده عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَعِدَ – صلى الله عليه وسلم – ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الصَّفَا فَنَادَى يَا صَبَاحَاهُ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: [إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُمَسِّيكُمْ أَوْ مُصَبِّحُكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي] رواه الترمذي في سننه رقم الحديث (3363) فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا تَبًّا لَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } المسد 1 .

وقد أخذ هذا النموذج من الصراع أشكالاً متعددة من تكذيب، قال تعالى: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }  ص 4، وتعذيب، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } البقرة 214، ومحاولة القتل والسجن الإبعاد، قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } الأنفال 30، ومقاطعة وتجويع، كما بينت ذلك السُنَّة النبوية،  ( أَن ّقُرَيْشاً َلَمّا رَأَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا وأَصَابُوا فيهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، اجْتَمَعُوا وَائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ عَلَى أَنْ لا يُنْكِحُوا إلَيْهِمْ وَلا يُنْكَحُوهُمْ وَلا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا، وَلا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ فَلَمّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ ثُمّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ عَلّقُوا الصّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ) تهذيب سيرة بني هشام ، عبد السلام هارون ص82  ،  وقد لاقى النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة رضي الله عنهم من جراء هذه المقاطعة التي استمرت ثلاث سنوات أصنافاً من الجوع والحرمان.

وقد واجه النبي وصحبه هذه المحن بكل صبر وثبات ويقين بنصر الله تعالى، وتنوعت مواجهة الباطل بأساليب عدة كالصبر وتحمل الأذى قال تعالى: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } يونس 109  ، وقال تعالى: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا }  المزمل 10،  ثم رد الظلم والعدوان، قال تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } البقرة 190 .

حتى غدا دين الله عزيزاً منيعاً بفضل ما بذلوا من صبر وثبات على مدي بضع وعشرين عاماً من الصراع ما لانت لهم قناة، فكسرت شوكة الكفر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وغدا أشد الناس عداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم -جنداً مخلصين لله ولرسوله ولدينه، فأي نصر هذا الذي حازه أصحاب رسول الله، إنها قوة الإيمان والثقة.

نريد القول أن الباطل مهما قوى وتجبر فإن مصيره الزوال ويرفع الراية البيضاء مستسلماً للحق وأهله مهما عانوا.

د. إبراهيم السلامي


المراجع

albasaernewspaper.com

التصانيف

أدب  مجتمع