أيمن عويضه

 كان على يقينٍ بأنّ "شهرزاد كورساكوف" تستحق المجيء مبكراً، ليستمع إليها بمفرده، واقفاً خلف زجاج النافذة الرحب، يمسك بأطراف أصابعه، حواف كأس الليمون المذهبة، ويتأمل زرقة البحر المتلألئة، يود لو يبرق لها بعضاً من قلقه، ويتساءل فيما إذا كانت تلك السفن، ستَخذِل يوماً التوت الأرضيّ والزهور، التي تتأهب لشحنها إلى موانئ أوروبا، وهؤلاء الصيادين، الذاهبين لجني أطنان الأسماك، هل يَجدر بهم الإعداد منذ اليوم لسنين عِجاف ؟، لكنه عندما أشاح برأسه يساراً، شعر بأن منصة استخراج الغاز المهيبة تطمئنه، وتلك الطائرة التي تستعد للهبوط، تَعِده برحلاتٍ يملّ من تنظيمها مطار غزة الدولي .

   داهم سعيد أفكاره بفتحهِ باب القاعة، وصاح في وجهه مغتبطاً :

-أيها الملعون، كنت متأكداً أنك ستستبقنا جميعاً، أخبرني كيف يعمل دماغ أستاذ الاستراتيجيات اليوم ؟

-كيفما اتفق !

   ضحِك الرجلان إزاءَ تواطىءٍ جمعهما طويلاً، ثم انضم سعيد إلى جانبه، وبعد صمتٍ قصيرٍ بينهما، التفت إليه :

-أقّدر هواجسك جيداً، لكن لا ترهق نفسك بتطرف، فنحن هنا اليوم بفضلك، لا تنسى ما وعدنا به أنفسنا ذاك الشتاء، وإلا قذفتُ بك من فوق هذه الطوابق الخمسين !

 ابتسم تيّم، وكان لا يزال ينظر عبر النافذة عندما قال:

-نايا لا ترد على هاتفها المحمول، هل تحدثتَ معها قريبا ؟

-تلك اللثغاء !، لا تذكرني بها، يكفي حصارها لي شهور متواصلة، اُتركني أنعم بفترة النقاهة، ثم لِمَ العجلة، ما هي إلا دقائق وتهجم علينا بعربات الوثائق، وأفلام النمذجة، وإن كنتَ تسأل عن نتائج مسربة فهذا محض وهم، لقد انتهى عمل لجنتنا منذ وقت طويل .

 إذاك عبر ميشيل ذو الشعر المنسدل على كتفيه، باب القاعة :

-مساء الخير أيها الكلاسيكيون، ماذا يفعل "ريمسكي" اللعين هنا، لقد اصطحبتُ معي ملحمة موسيقية من "التِكنو"، أنتجها "كونسيرفتوار" الهلال الأحمر مؤخراً، سنستمع إليها نخب انتهاء اجتماعاتنا اليوم .

-دَع حقل الإعلام إذن، طالما أنك خبيرٌ في الحداثة الموسيقية إلى هذه الدرجة .

تنّهد ذو الشعر المنسدل، جالساً على الكرسي الجلدي الضخم بجوار الرجلين الواقفين :

-آه يا صديقي العزيز تيّم، أتعتقد أني لم أفكر في هذا الأمر؟ إذا نحينا جانباً كلّ أسباب التحول، ستبقى نايا وحدها سبباً كافياً، أقسم لك أني لم أنعَمَ بنوم هانئ، طيلة فترة الحملة، لقد ندمتُ على تقديم ذلك الخطاب، الذي جعلها تنقض عليّ طوال شهرين، حقاً إنها نحلة لا تهدأ أبدا..

-أتعتقدُ أني من السذاجة لأأتمنَ غير تلك النحلة على مجهود ثلاث سنين ؟

-قطعاً لا، فقد أيقنتُ في النهاية أن هذه النحلة من ذاك الأسد !

   اخترق ضحكاتهم الودودة رنين هاتف محمول آت من جهة البوابة، فالتفتَ جميعهم باتجاهه :

-ها قد أتى العراب أخيراً، لقد تأخرتَ دقيقتين ونصف أيها العجوز. صاح سعيد ساخراً .

-وكيف لا أتأخر، و"كورنيش" البحر ذو الست حارات، لم يعد مناسباً للوصل من رفح إلى الشيخ عجلين خلال خمس دقائق، لم أعُد أحتمل هذه المدينة المتطلِبة أكثر .

   رفع ميشيل راحتيه المفتوحتين إلى مستوى كتفيه، وقال متحفزاً :

-انظروا ما لدينا هنا، رجل الظلّ يشكو من تطلب مدينته، ناسياً أنه العقل المدبر لسياسات الانفتاح الاقتصادي، والمدن السكانية الجديدة .

-أيها الميشيل المشاكس، أراهن أنك ستكفّ عن مرحك هذا عندما تجلس في مقعدي يوماً، لكن تعالوا هنا أيها الأوغاد، كيف لكم أن تتضاحكوا وأنتم على شفير أزمة قومية ؟. تساءل العجوز بجدية يعرف رجاله قدر الافتعال فيها، فانبرى سعيد بلكنة متهكمة:

-أرجوك، كُفّ عن هذه السوداوية في الحال، فبالكاد استطعتُ أن أقنع تيّم العاشق، بالعدول عن تجربة أداء في قصر المسارح ، عن دور خارق لمأساة شكسبيرية بنكهة غزية !

-حسناً، أعِدك بذلك أيها المتفاءل، لكن ماذا يفعل سكرتيري البدين في الخارج حتى هذه اللحظة ؟

لم يكد ينتهي العجوز من إكمال سؤاله، حتى دخل ظافر محملاً بملفات دسمة، وآلة عرض سينمائي، وهو يحرك عضلات وجهه بطريقة بهلوانية .

-هيئتكَ هذه لها معنىً واحد، لقد اكتمل نصاب الوليمة المقدسة، استعدوا لأداء الطقوس الأسطورية، فنايا المجتباة أتتكم بأسرارها السحرية ! . قال ميشيل ساخراً وهو يدور حول الطاولة البيضاوية، محركاً أطرافه بطريقة المتوحشين الأوائل، فردّت نايا أثناء عبورها للقاعة مسرعةً ولا تنظر إلى أحد :

-لا أريد سماع نشاز آتٍ من الحِقَب الحجرية، يكفي تلك الكاميرا اللعينة التي سجلت بحقي مخالفة في شارع الثلاثيني .

جلس الجمع وهم يتضاحكون، كلّ في مكانه المخصص، وثبّت العجوز نظارته، متسيداً رأس الطاولة، وقال بصوته الأبوي:

-أُرحب بكم جميعاً، تفضلي نايا.

-أشكرك زين، هدفت الأبحاث كما تعلمون إلى إيجاد قرائن علمية، تؤيّد نظرية دوغماتية الشعوب، حسب المفهوم الموسع القائم على تعدي النظرة اللاشكية في المعتقد الديني، لتشمل جميع المعتقدات الفردية، والذي قدمه تيّم سلفاً مدعوماً بالمؤشرات، التي رصدها وأقام المقاربات بينها بشكلٍ يدعو للاحترام، وعلى هذا الأساس، بدأ البحث بوضع أسس لحملة إعلامية، بالتعاون مع سعيد وميشيل، تهدف لاستقطاب الفئة موضوع البحث، وعند هذه النقطة سأعطي المجال لميشيل، ليتحدث عن حيثيات الحملة والنتائج المتعلقة بالإجابات .

-شكراً نايا، كانت صيغة الخطاب كما تعلمون هي:

"هل اعتقدتَ ولو لمرة واحدة في حياتك، أنك متصلب الرأي ؟ إن إجابتك بنعم أو لا، وقطرة من دمك، كفيلٌ بأن يضع غزة في موقع أكثر تقدماً، على قائمة المدن المزدهرة في العالم"

قمنا في البداية بحصر الفئة المستهدفة من هذا الخطاب، في الشريحة العمرية من 18-55 سنة، وهي الفئة الأكثر تأثيراً في نشاطات المجتمع حسب رأي الخبراء، وطبقاً لذلك، تم تجنيدُ جميع محطات التلفاز والإذاعات والصحف ومواقع الانترنت المحلية العاملة، لضمان وصول هذا الخطاب لأكبر عددٍ ممكن من الجمهور المستهدف، حتى أن فِرَقاً كشفية مدرسية، وتجمعات شبابية جامعية قامت بدورها في هذا المجال .

بعد ذلك تم إعداد مراكز تدوين الإجابات وسحب عينات الدم، حسب التوزيع الجغرافيّ للأماكن الأساسية، بالتعاون مع الجهات المعنية، وعند الانتهاء من العملية، تمثلت النتائج الإحصائية في أن عدد الزوار شكل ما نسبته 80% من الفئة المستهدفة، وأن الإجابات كانت "نعم" بنسبة 100% .

-شكراً ميشيل، أرجو عدم التوجس من هذه الأرقام، فالبحث لم ينته إلى هنا، سعيد، هل لك أن تضعَ تفسيرك الذي قدمتَه مسبقاً في خلاصة تقريرك إليّ، والمتعلق بشكل الخطاب وتحليل إجابات الزوار ؟

-بكلّ تأكيد نايا، لقد امتلك ميشيل حساً نفسياً عالياً في صياغة هذا الخطاب، فالامتثالُ للنداء الوارد فيه، يقتضي تحقق بعض المظاهر النفسية المتسلسلة عند الفرد، تبدأ أولا بأخذ ذاك النداء ذو الطابع الوطني على محمل الجد، انطلاقاً من حس ناضج بالمسؤولية الجماعية، هذه الجدية تؤدي إلى طرحه السؤال المحوري على ذاته تلقائياً، والإجابة عليه بشفافية، بكلمة "نعم" فقط، فكلمة "نعم" نفسياً، تعني أن القضية بالنسبة إليه كانت هاجساً لا أكثر فيما مضى، وذلك ببساطة لأن هذا الهاجس لا وجود له مطلقاً في وعي متصلب الرأي، من جهة أخرى، فإنّ الفلسفة الأخلاقية السابقة لغير المتصلب، لا تمنعه من الذهاب إلى المركز وتدوين إجابته "السلبية" كما تبدو إليه، لأنه اكتشف للمرة الأولى أنّ المكاشفة العلنية لهذه الزلة الشخصية، لها أثر جماعي خلاق .

-شكراً سعيد، اُعتِبرت النتيجة السابقة قرينة علمية أولى، لكن، كان لا بد من بحث عن قرينة إضافية، ترسّخ نظرية تيّم بشكلٍ قاطع، وتركّز هذا البحث فيما أسماه "ولتر جيلبرت" ذات يوم: "الكأس المقدسة لوراثة الإنسان"، أي الجينوم البشري.

تقدمت نايا باتجاه آلة العرض السينمائي وأدارتها، وبدأت بشرح نتائج عملها:

-بعد تجميع عينات الدم من المراكز، قام الفريق والأجهزة الدقيقة، في دائرة الهندسة الجينية، التي أرأسها في معهد التقنيات المتطورة بدير البلح، بتسجيل وترميز جميع الخرائط الجينية للزوار. تعرض الشاشة الآن نموذجاً جميعكم يعرفه، أليس كذلك ؟

-بلا، إنه الحمض النووي DNA، ذو السلسلة اللولبية المزدوجة . قال تيّم .

-حسناً، وكما ترَون في النموذج الثاني، هذه حوامل مواد الوراثة التي تحويها السلسلة السابقة، والتي تعرف "بالكروموسومات". يحمل كل كروموسوم منها آلاف عوامل الوراثة، وهي "الجينات"، وما يُهمنا بالتحديد هو أحد الجينات المحمولة على الكروموسوم رقم 23، كما ترَونه في النموذج الثالث .

-ولماذا هذا الجين بالتحديد ؟ سأل زين .

 -لأنه أحد الجينات التي لم يتم تصنيف طبيعة عملها بعد، من قبل المركز الدولي لتصنيف الجينات، لذا كانت هناك حاجة لدراسته باستفاضة، فهو الجين الوحيد الذي لم يتم تفسير آلية عمله بعد على الكروموسوم 23، ويشترك به جميع الزوار، كونه أحد الجينات المرتبطة بالجنس، وقد أجربنا كثير من التجارب المضنية، لتقديم تصورٍ لآلية عمله، واشتملت على تركيبه الجُزيئي، وطبيعة نشاطه المتوقع في ظروف محددة، وقد حصلنا في النهاية على صورة مبدئية لنشاطه، وتصور لتركيب البروتين المتوقع أن يُكّونه .

-عفواً للمقاطعة نايا، لكن كيف يمكن أن يكون لكل ذلك علاقة بتصلب الرأي ؟ سأل ميشيل مستنكراً .

-إن غرفة أخذ عينات الدم للزوار، تجيبُ على ذلك، فقد زُرِعت أجهزة للتصوير بالرنين المغناطيسيّ، إضافةً إلى أجهزة طبية ملحقة بالخفاء، لاستهداف جزء معين في الدماغ، بعد ذلك قمنا بتحليل صور ذلك الجزء، وهو منطقة الإبداع واتخاذ القرارات، وتم التركيز على التركيب الكيميائيّ للخلايا العصبية التي تشترك في بناء هذا الجزء، وتحليل البروتينات التي تتكون منها هذه الخلايا، ومقارنتها بنشاط الجين سالف الذكر.

-لكن عفواً للمقاطعة مرة أخرى، ما جدوى هذه المقارنة بنشاط الجين ؟ تساءل ظافر .

 -إنّ كل بروتين في جسمك يقفُ وراءَ تكوينه جينٌ محدد أو أكثر، لذا اعتمدت المقارنة السابقة على العديد من المقاربات، والمعادلات الكيميائية المعقدة، التي أكدت ارتباطاً عضوياً بين هذه الخلايا والجين، فتحتَ ظروف محددة وهي في الغالب خارجية نفسية، يتفّعل نشاط الجين أكثر، ويقوم بمضاعفة إنتاج البروتين لتكوين خلايا جديدة، ومن ثم التحامها، وتكوين مسارات جديدة فيما بينها، تسمح بتفعيل نشاطها على المستوى العقلي، والقيام بعمليات يحكمها المنطق بصورة أكبر، في إبداء الرأي وتعدد زوايا الرؤية الخاصة به .

-وهل ثبتَ أنّ هذه الفعالية للجين مشتركة بين جميع الزوار ؟ سأل زين .

-نعم، لقد أظهرت صور الرنين المغناطيسيّ للجميع، تطابقاً مذهلاً .

-إذن، وبعد هذه القرائن، فإن غير المتصلبين في غزة، هم من حضروا جميعاً بالفعل إلى المراكز. استنتج سعيد .

-بكلّ تأكيد، وبياناتهم الشخصية مسجلة لدينا، وكذلك بيانات الذين لم يحضروا، طبقاً للحاسوب الوطني . أجابت نايا مبتسمة .

-نعم، الذين لم يحضروا. وماذا عن هذا التيار المتصاعد، الذي أرق تيم، ونحن من بعده ؟ سألّ ميشيل باستكانة، فخلع العجوز نظارته، وضرب الطاولة براحتيه المغلقتين، وصرخ مُلتفتاً إلى ميشيل:

-انظروا ما لدينا هنا، الرجل المرح يرتجف كالأطفال الآن. يا صغيري، هل يعجز من حقق هذه النتائج، عن التكفلِ بأمر الـ 20% المتبقين ؟!  

 



المراجع

thaqafa.org

التصانيف

أدب  مجتمع   قصة