مصطفى حمزة
abbad1999@hotmail.com
الأستاذ مُنير جاري في غرفة المدرسين هنا في الخليج، عمره سبعٌ وخمسون سنة منها
ثمان وعشرون غربةً في دول الخليج . في بلده بنى عمارة كاملة تدرّ عليه من الإيجار
مبلغاً ضخماً كل سنة ، ويملك أيضاً هناك محلاً تجاريّاً رائجاً جداً بحسب ما
يتناوله أهلُ بلده الذين يعرفونه هنا.
يحمل الأستاذ مُنير من الأمراض عشراً منوّعةً ! السّكّر والضغط، والروماتيزم في
الركبتين وانقراصَ الرقبة والقرحة المعويّة، هذا ما نعرفه أنا وزملائي، ولكن
يبدو مِنْ وَهَنِهِ أنه يحمل أنواعاً أخرى من الأمراض لا يُفصِح عنها !
يُشارك زميلاً لنا السكنَ في بيت عربيّ بضاحية المدينة . وسيارته صغيرة قديمة
متهالكة من ثمانينات القرن الماضي !
وهو
لا يُسافر إلى بلده وزوجته وأولاده في عطلة نصف العام الدراسي، بحجة أنه لو سافر
إليهم – كما يقول – لقضى الإجازة في " استقبل وودّع " من كثرة الضيوف والزائرين !
لذلك يكتفي بمرة واحدة فقط في نهاية العام ..
اشتكى لي مرة عقبَ عودتنا من الإجازة الصيفيّة قائلاً :
-
تصوّر يا أستاذ كريم ؛ ابني الصغير لا يُناديني " بابا " بل يقول لي " يا خالو " !
وبناتي الثلاث اللواتي في الجامعة لا أعرف أين يذهبن خارجَ البيت حتى منتصف الليل !
أمهنّ تعرف ... وهي التي تأذن لهن ّ ! أجد نفسي غريباً بينهم يا أستاذ كريم !!
والأستاذ مُنير، بكل صراحة وأسف ، حرامي ! نعم حرامي ، ولا يشعر بأي حرج في ذلك !
الأمر عنده عادي جداً ! مُجرّد عادة قديمة يُمارسها بكل أريحيّة وهدوء !! يتناول
بكل بساطة قلماً لزميله نسيه على الطاولة ويودعه حقيبته ! دبّاسة المدير : في
الحقيبة ! ثقّابة الوكيل: في الحقيبة ! فأرة الحاسوب – حاسوبي أنا للأسف – قفزتْ
حين خرجتُ من الغرفة لدقائق واختفت في الحقيبة ! شاهده أحدهم لكنه خجل فسكت !! بعد
كل حصّة له يفتقد الطلابُ من أشيائهم : أقلاماً ، آلاتٍ حاسبة علبَ الهندسة !
ويتسوّل من الطلاب بكلّ دناءة ! يطلب منهم الفواكه والخضارَ فيجلبونها له من
عِزَبِهِمْ ؛ ولايُبالي حين يراه الجميع في نهاية الدوام يحمل أكياساً مليئة
ومختلفة الأحجام ، ويودعها سيارته !
والأغرب - الذي لم أكن لأصدقه لو لم يُحدّثْنا به شريكُه في السكن – أنّه بين
الفترة والأخرى يجوب المدينة يجمع قطعَ الخشب الصغيرة من أمام المباني التي تكون
قيدَ الإنشاء ، ويملأ بها صندوقَ سيارته ، ثم ينقلها إلى سكنه ليستخدمها وَقوداً
يطبخ به فوقَ أحجارِ موقدٍ صنعه بيده ... توفيراً لثمن الغاز!!
ونحن – المدرسين - يَطيبُ لنا أن نصطبح بالقرآن الكريم في غرفتنا فهو يشرح صدورنا
قبل أن نلج غرفَ التعذيب أقصد التعليم !! أمّا هو فيصطبح بـ " حكم علينا الهوى " و
" بتلوموني ليه " و " لا تكذبي " وأمثالِها من الأغاني !
هو
الآن – ومنذ بضعة أيام - يرقد في غرفة الإنعاش بالمستشفى، يُعالَجُ من آثارِ نوبةٍ
قلبيةٍ حادّةٍ أصابته عقبَ اتصالٍ من زوجته ؛ طلبت فيه الطلاق !!