ابن عز يشتهي قطعة خبز
عصام أبو فرحه
esamquu@yahoo.com
قرأت قصة للأديبة الرائعة ( سهام البيابضة ) تتحدث عن نظرة الفلاح البسيط (
لخبز الكماج ) فخطر لي أن أكتب عن نظرة ابن العز ( لخبز الصاج ) , كل التحية
للأديبة سهام.
على
أحد أطراف طاولة السفرة الفاخرة جلس شاهين لتناول طعام العشاء , تناول المنديل
وربطه حول عنقه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة, فمنذ زمن لم يشعر بهذه
القابلية للأكل , أمر بإحضار الطعام وكل ملامحه وحركاته تحدث عن نفس مفتوحة وشهية
لم يسبق لها مثيل, ظل يقترب من الطاولة حتى التصق صدره بحافتها, مد يده وتناول
طبقاً فارغاً ووضعه أمامه ثم تناول سكيناً وشوكة ووضعهما في الطبق, فرك يداً بيد
ونظر صوب المطبخ وقد بدأ صبره بالنفاذ,
أمام ذهول الخدم والحشم دخل ( السفرجي ) يحمل وجبة العشاء يتبعه الطباخ , وكل منهما
أيضاً لا تخلو ملامحه من الذهول والحيرة , كان الطباخ وحاشيته ينظرون بين مصدقين
ومكذبين , أيعقل أن تكون هذه مائدة شاهين ؟ شاهين الذي اعتاد أن يجلس على أحد أطراف
طاولة سفرته فيعجز بصره عن رؤية آخرها , مائدة شاهين التي طالما جمعت أصنافاً
معروفة وغير معروفة , وكميات تكفي لإطعام مدينة بأكملها , ماذا جرى ؟ ما الذي حصل
؟ هل جن الرجل ؟ أسئلة كانت تدور في النفوس من غير جواب أو تفسير , أيعقل أن تكون
هذه وجبة عشاء على سفرة شاهين؟ قطعة من خبز الصاج البلدي ( الشراك ) وقطعة من الجبن
الفلاحي الأبيض ؟
أين
الديوك الرومية المحشية التي كان يأكل بضع لقيمات من طرفها ثم يتركها ؟؟
أين
الأسماك المشوية المحمرة واللحوم المقمرة ؟ أين الجمبري والكافيار وفواكه البحار ؟؟
موائد كأنها من عالم آخر كان ينظر إليها بطرف عينه فيصيبه شعور بالشبع قبل أن يشرع
في الأكل , يجبر نفسه على تناول القليل منها ثم ينهض ويتركها غير مكترث بمصيرها ,
إن كانت ستؤول إلى سلال القمامة أم إلى بطون عمال قصره ,
واليوم يراه الجميع يجلس أمام قطعة من خبز الصاج وقطعة من الجبن الأبيض , ينظر إلى
طعامه بشهية فيخال لناظره أنه لم يذق طعاماً طوال حياته ,
في
تلك الأثناء حضر سعيد صديق شاهين الحميم , دخل البيت وسط ذهول الجميع قاطعاً على
شاهين استعداداته للانقضاض على وجبته الشهية , اقترب سعيد من المائدة واتخذ له
مقعداً , نظر إلى شاهين وإلى طعامه فابتسم ولم ترتسم على وجهه علامات ذهول أو حيرة
, فهو من يعرف شاهين أكثر من نفسه , شاهين ذلك الرجل الأربعيني الأعزب الذي يعيش
في قصر ورثه عن والده , وورث معه عمارات وأراضٍ وأطيان لا تعد ولا تحصى , ولد ليجد
في فمه ملعقة من الذهب , نشأ في نعيم وعاش في نعيم ولم يزل في النعيم مقيم ,
نظر
سعيد إلى شاهين وإلى طعامه وقال مبتسماً : أخيراً ستأكل خبز الشراك والجبن البلدي ؟
-
نعم يا سعيد , لم أشعر طيلة حياتي بجوع وبشهية كما أشعر الآن , هل تشاركني ؟
-
لا يا صديقي , لا أستطيع , كل أنت , صحة وعافية ,
بدأ
شاهين بتناول طعامه بينما غرق سعيد في تفكيره عائداً إلى أيام قليلة مرت , استذكر
يوم الجمعة الماضي عندما زاره شاهين في بيته في الساعات الأولى من الصباح , يومها
كان شاهين في حالة نفسية سيئة , شاحب اللون مترنح الخطوات مضطرب الحركات , سأله
سعيد حينها :
ما
بك يا شاهين ؟
-
أنا لست سعيداً يا سعيد ,
-
ماذا تقول يا رجل ؟ أخالك والله أسعد الناس , شباب ومال وجاه وحاضر ومستقبل وعز
وطعام وشراب , لديك سيارات أكثر من سيارات الحكومة , ولديك أموال أكثر من أموال
البنك المركزي , ولديك حاشية من الخدم والحشم تفوق حاشية أمير خليجي , ما الذي ينقص
من سعادتك يا صديقي ؟؟
-
لا أدري يا سعيد , ما عادت الأموال تسعدني , وما عادت القصور تريحني , أشعر بالضجر
نهاراً , وأعاني من الأرق ليلاً , أسهر في أفخم الفنادق وأشهر الصالات فلا أجد ما
يسر , أشتاق إلى الضحك فلا أجده , كل الأيام صارت عندي سواء , حتى الطعام يا سعيد ,
الطعام لا أجد له طعماً ولا أشم له رائحة , أشعر بالغثيان والتقزز عند كل وجبة ,
لا أدري ما أصابني , ذهبت إلى أشهر الأطباء وقمت بإجراء كل الفحوصات , وكلهم يجمعون
على رأي واحد , أني لا أعاني من أي مرض , أخيراً قمت بزيارة طبيب أمراضٍ نفسية , هو
الآخر قال بأني لا أشكو من أي شيء , لكنه نصحني بأمر غريب , وأنا عازم على تنفيذه
رغم غرابته , حيث نصحني أن أبتعد بعض الوقت عن كل شيء مألوف في حياتي , عن قصري ,
عن أماكن سهري , عن سياراتي وعماراتي ,
-
نعم يا شاهين , اقتراح رائع , وباستطاعتك السفر إلى أجمل بقاع الدنيا ,
-
لا يا صديقي , لن أسافر , ولن أبيت في الفنادق , ولن آكل في المطاعم , سأذهب إلى
الصحراء , كل شيء جاهز , الطعام والماء والخيمة , كل شيء جاهز وموجود في السيارة
أمام بيتك , وما بقي إلا رفيق الدرب , فهل تقبل صحبتي ؟
بعد
أيام جمعتهما في خيمتهما وسط الصحراء تحسنت حال شاهين , عادت الحمرة إلى وجنتيه ,
وعاد البريق إلى عينيه , عادت إليه ضحكاته , واشتدت خطواته ,
لا
زال سعيد غارقاً في أفكاره , يجلس على طرف الطاولة ينظر إلى شاهين وإلى مائدته ,
وكم اتسعت ابتسامته حينما استذكر آخر يوم في رحلتهما إلى الصحراء , حيث قادهما
المسير حينها إلى بعض بيوت الشعر حيث يقطن بعض البدو الرحل , جلسا هناك بعد إلحاح
صاحب البيت وإصراره على احتساء كوب من الشاي بمعيتهما ,
في
طريق عودتهما إلى الخيمة قال شاهين :
يا
إلهي , أرأيت يا سعيد ذلك الولد الذي كان يجلس قريباً منا ؟ كان يحمل قطعة من الخبز
الساخن الطري وقطعة من الجبن الأبيض , كان يقطع بأسنانه لقمة , فتعلق برغيف الخبز
بعض السوائل التي تسيل من أنفه , وعندما يقوم بإبعاد الرغيف عن فمه كان السائل يصنع
خيطاً يصل بين الرغيف وبين وجه الفتى , حتى إذا ابتعد الرغيف انقطع الخيط , وما أن
ينقطع الخيط حتى يظهر من جديد ليصل بين قطعة الجبن وبين وجهه ,
-
لا تفكر في ذلك المشهد المقزز يا شاهين , واطرده من مخيلتك , كي لا تفقد شهيتك من
جديد ,
-
كيف سيغيب عني ذلك المشهد ؟ أما رأيت كيف كان يأكل بنهم وشهية ؟؟ والله لولا أني
خجلت لطلبت منه أن يطعمني من رغيفه , فلقد أحسست بجوع وبشهية لم أعرفهما طيلة حياتي
, ولا يمنعني من العودة اليهم وطلب الطعام إلا الخجل , ولكن عند عودتي إلى القصر
سأشتري خبزاً كخبزهم وجبناً كجبنهم , وسآكل بنهم وشهية ولدهم ,
وهاهو شاهين يعود إلى القصر , وهاهو يشتري خبز ( الشراك ) والجبن البلدي الأبيض ,
وهاهو سعيد يجلس في مكانه ينظر إليه وإلى طعامه ,
-
أخيراً يا شاهين أكلت خبز الشراك والجبن الأبيض ,
-
نعم يا سعيد إني آكل , لكني لا أجد شهية ذلك الفتى للطعام , ولا أشعر بالمتعة التي
كان يشعر بها , إن كان الخبز هو الخبز , والجبن هو الجبن , فما الذي ينقصني
للاستمتاع بهذه الوجبة ؟؟؟
فجأة رفع شاهين رأسه وشخص ببصره إلى الأعلى وقال محدثاً نفسه :
أتراه ذلك الخيط الذي يمتد بين الرغيف وبين الوجه هو ما ينقصني للاستمتاع والتلذذ
؟؟؟
بعد
ذلك التفت إلى الخدم وقال : اتركوا الطعام في مكانه واخرجوا جميعاً , وأنت يا سعيد
أرجوك اتركني وحدي بعض الوقت ,
خرج
الجميع دون معرفة السبب , أما سعيد فقد خرج مبتسماً وكأنما عرف ما عزم شاهين على
فعله .
(
انتهت )