أهمية علم الهندسة تبرز أهمية علم الهندسة أو منفعته - كما يذكر القونجي - في الاطلاع على الأحوال المذكورة من الموجودات، وأن يكسب الذهن حدة ونفاذا، ويُروض بها الفكر رياضة قوية؛ لما اتفقوا على أن أقوى العلوم برهانا هي العلوم الهندسية. ومن جملة منافعها: العلاج عن الجهل المركب؛ لما أنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم؛ فيعتاد الذهن على تسخير الوهم، والجهل المركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل" (2).وفي ذلك أيضا يقول ابن خلدون: واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَة الانتظام، جليّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق). وقد زعموا - كما يذكر ابن خلدون - أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون: "من لم يكن مهندسا فلا يدخل منزلنا". قال: وكان شيوخنا - رحمهم الله - يقولون: "ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينفيه من الأوصار والأردان"؛ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه (3). فلا عجب - إذا - في حق الأمة التي ينظر علماؤها إلى الهندسة كنور للعقل، ومُطهِّر للفكر من أدران العشوائية والفوضى.. أن تبرع في شتى التطبيقات الهندسية المتنوعة، على نحو ما سنراه في هذا البحث وغيره. إضافات المسلمين.. وعلم الحيل النافعة كماأنه لا ضير في أن نقر بأن المسلمين اعتمدوا على من سبقهم في قيام نهضتهم وحضارتهم في علم الهندسة، فإنا لا نستطيع أن نقر وجهة النظر التي تقول: "إن اليونان لم يتركوا في الهندسة القديمة زيادة لمستزيد، ولم يستطع أحد بعد إقليدس الذي دون علم الهندسة (330 - 320 ق.م) أن يزيد على هذا العلم شيئًا أساسيًا، أعظم أفضال العرب على الهندسة أنهم اهتموا بها حينما أهملتها الشعوب ثم حفظوها من الضياع، وناولوها للأوربيين في زمن باكر، فلقد أخذ الأوروبيون الهندسة اليونانية عن العرب لا عن اليونان، ونقلوها إلى اللغة اليونانية" (9). فهذا الرأي لا يستقيم لا منطقيًا ولا علميًا، يشهد بذلك علماء الغرب أنفسهم على نحو ما سنورده في هذا البحث وفي هذا الموضوع بالذات، ولا أدري كيف نعت صاحب هذا الرأي الهندسة بـ(القديمة)؟ ألأجل أن يكون ذلك علم خاص فقط باليونان، ومن ثم فلا يستطيع أحد أن يجاريه أو يزيد عليه؛ مما يتسنى له بعد ذلك أن يطلق هذا الحكم؟ وإذا كان الأمر كذلك فهذه تعد مثلبة وليست منقبة لليونان أصحاب الهندسة (القديمة)، ومفخرة لأصحاب الهندسة الحديثة. فمن المسلم به تاريخيًا وعلميًا أن المسلمين أضافوا إضافات جوهرية كثيرة، وأدخلوا أمورًا جديدة على هندسة من سبقهم، وكان من ذلك: تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية وكذلك الدائرة، وقد ألف الكندي الرسائل المختلفة في تقسيم المثلث والمربع واستخرج سمت القبلة، وكان يرجع إلى مؤلفاته المعماريون عند القيام بحفر الأقنية والجداول بين دجلة والفرات، وأدخل المسلمون أيضا المماس والقواطع، واستخدموا فن الزخرفة الذي يعتمد على قواعد هندسية في رسم المغلقات، وترتيب الخطوط، وأوراق النبات، وجمع المسلمون بين الهندسة والجبر، ولذلك يُعتبرون واضعي الهندسة التحليلية (10). ولقد ذكر صاحب الرأي السابق أن اهتمام العرب (المسلمين) بالناحية العملية من الهندسة كان أكثر من اهتمامهم بالناحية النظرية، تشهد بذلك المباني والقصور التي نهضت في المشرق والمغرب.. (11). ولا تعليق وإحقاقا للحق فقد ظل المسلمون يبدعون ويضيفون الكثير والكثير مستلهمين ذلك من أمور دينهم ودنياهم، حتى ظهر علم الهندسة وتبلور على أيديهم، وبدت معالمه الكلية واضحة جلية، وازدهرت تقنيات الهندسة الميكانيكية في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي), واستمر عطاء المسلمين فيها حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). وكانت هذه التقنيات تعرف عند المسلمين باسم "الحيل النافعة", وهي آلات وتجهيزات يعتمد البحث فيها على حركة الهواء (الإيروديناميكا)، أو حركة السوائل واتزانها (الهيدروديناميكا و(الهيدروستاتيكا). وإذا كان أعلام الحضارة الإسلامية قد اطلعوا على بعض ما خلفه قدماء المصريين والفرس والهنود والصينيون والإغريق في "علم الحيل" أو الهندسة الميكانيكية - بلغة العلم المعاصرة - إلا أن ما ورثوه عن الحضارات السابقة كان محدودًا من الناحيتين النظرية والتطبيقية على حد سواء، فطوروه وأضافوا له القواعد العلمية، وصنفوا فيه كتبًا رائدة، لا يزال الكثير منها مجهولاً أو مفقودًا. ويمثل علم "الحيل النافعة" الجانب التقني المتقدم في علوم الحضارة الإسلامية، حيث كان المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية للإفادة منها في كل ما يخدم الدين، ويحقق مظاهر المدنية والإعمار. وقد جعلوا الغاية من هذا العلم هي: "الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير"، ويقصد به استعمال الحيلة مكان القوة, والعقل مكان العضلات, والآلة بدل البدن(12). وهي نزعة حضارية تتسم بها الأمم التي قطعت أشواطا في مجالات العلم والحضارة، كما أنها المحور الذي تدور حوله فلسفة أي اختراع تفرزه عقول العلماء يوميا؛ سعيا وراء تحسين حياة الإنسان، ورفع المشقة عنه قدر الإمكان.ولعل من الأبعاد الأخلاقية التي قادت العقل الإسلامي في اتجاه الإبداع والتفرد في مجال الحيل النافعة أن الشعوب السابقة على المسلمين كانت تعتمد على العبيد، وتلجأ إلى نظام السُّخرة في إنجاز الأعمال التي تحتاج إلى مجهود جسماني كبير، دون النظر إلى طاقة تحمّل أولئك العبيد.. فلما جاء الإسلام نهى عن السخرة وكرّم العبيد، فمنع إرهاقهم بما لا يطيقون من العمل، فضلا عن تحريم إرهاق الحيوانات - كما بينا ذلك في عنوانه - وتحميلها فوق طاقاتها.. إذا عرفنا ذلك وأضفنا إليه ضرورات التعمير والبناء - بكل أشكالها - التي صاحبت اتساع الحضارة الإسلامية.. فسوف ندرك جانبا هاما من دوافع هذا السبق الفريد في مجال التكنولوجيا عند المسلمين، أو قل: "الحيل النافعة" فبعد أن كانت غاية السابقين من علم الحيل لا تتعدى استعماله في التأثير الديني والروحي على أتباع مذاهبهم، مثل استعمال التماثيل المتحركة أو الناطقة بواسطة الكهان، واستعمال الأرغن الموسيقى وغيره من الآلات المصوتة في المعابد، فقد جاء الإسلام وجعل الصلة بين العبد وربه بغير حاجة إلى وسائل وسيطة أو خداع بصري، وأصبح التأثير على الإنسان باستعمال آلات متحركة (ميكانيكية) هو الهدف الجديد لتقنية "الحيل النافعة" (13). ولعل من أهم إنجازات الهندسة الميكانيكية (أو علم الحيل النافعة) ما ظهر واضحًا في الإمكانيات التي استخدمها المسلمون في رفع الأحجار ومواد البناء لإتمام الأبنية العالية من مساجد ومآذن وقناطر وسدود.. فيكفيك أن ترى الارتفاعات الشاهقة لمعالم العمارة الإسلامية في عصور غابت عنها الروافع الآلية المعروفة في زماننا.. لتعلم براعة المهندسين المسلمين في التوصل لآلات رفع ساعدت - ولا شك - على إنجاز تلك الأعمال الخالدة.. وإلا فكيف يمكن أن ترفع مئذنة فوق سطح مسجد سبعين مترا.. أي ما يزيد على عشرين طابقا..؟ ولا ننسى في هذا السياق "سور مجرى العيون" في القاهرة أيام صلاح الدين الأيوبي، والذي كان ينقل الماء من فم الخليج على النيل إلى القلعة فوق جبل المقطم، وكانت هناك ساقية تدار بالحيوانات ترفع المياه لعشرة أمتار ليتدفق في القناة فوق السور وتسير بطريقة الأواني المستطرقة حتى تصل إلى القلعةومن هنا تتجلى عظمة المسلمين في هذا الفن، ولا يستطيع أن ينكر دورهم في ذلك إلا جاحد، يقول محمد كرد علي: وللعرب (المسلمين) في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلي في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم ثياب من ثياب الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها، كما قال أحد العارفين من الإفرنج الهندسة كعلم للفضاء لقد تراكمت معلومات كثيرة عن الأشكال في الفضاء، وكان التعليم التقليدي يتمثل أساسا في تلقين جزءا من هذه المعلومات المتنافرة مع تأكيد فائدتها. ولكن هل نحن على يقين بأن حفظ قاعدة مساحة مثلث مثلا هي أهم من تدريب التلميذ على تقدير مساحة ما بتقسيمها إلى أجزاء بسيطة وإعادة تركيبها بطريقة مختلفة؟ ألا نساهم في تطوير الحس الجمالي عند التلاميذ لما نساعدهم على اكتشاف مساحة مثلث عرفت أطواله: (القاعدة التي تنسب إلى هير: ¼(ا + ب + ج-CQ
OQ-ا + ب – ج-CQOQ-ب + ج – ا)(ج + ا – ب) ؟ ألا نلهب حماسهم عندما نقول لهم بأن هذه القاعدة قد أكتشفها أرخميدس من قبل، وفي عصر لم يكن يعرف بعد لغة الجبر؟ الهندسة كنموذج للدقة إن اتباع المنهج الهندسي (وكذلك المنهج التحليلي أو الجبري) يسمح باكتساب عادات معينة في مجال التفكير الرياضي وقدرة معينة في مجال التجريد والتعميم. وهذا كله يؤدي إلى تنمية الدقة الرياضية. الهندسة كمنشط للقدرة على الاستدلال إن إعداد مجموعة من المواقف التعليمية والأنشطة المناسبة لممارسة البرهان الرياضي يعطي للهندسة مكانة أساسية لا بصفتها نموذج للدقة فحسب، بل كذلك تعتبر وسيلة لتنمية القدرات الاستدلالية. إن الهندسة أداة تربوية لا تجارى لتنمية الوعي لما تتميز به البراهين من طبيعة مفيدة ومنتجة. لكن لابد من جعل التلميذ على حذر من البداهة الهندسية وذلك باستعداد الدائم إلى إخضاع فكره لقواعد التفكير الرياضي المنطقي. الهندسة كلغة للكشف والاستنباط من الواضح أن العمل مع الحاسبات يشكل باعثا قويا لإضفاء الطابع الشكلي على التفكير. إلا أن أهمية الهندسة قد تكمن فيما تحتوي من معلومات وفي كونها أكثر لغات التعلم عن طريق الاستكشاف مما يستوجب تعلمها. إن تنمية التفكير الحدسي تزداد عند تحليلنا لموقف معقد عن طريق الشكل التشخيصي أو الرمزي. كما أن استخدام لغة الهندسة في مجالات رياضية يسمح بالتوصل إلى استنباطات مدهشة. كذلك تنبع فعالية الهندسة على تعلم الاستنباط من الفرص التي تتيحها لتمثيل مفاهيم رمزية بشكل دقيق وواضح قد يتعذر الوصول إليها إذا كتبت بطرق أخرى. الهندسة كفن للتحويل لقد أصبحت الهندسة منذ القرن 19 علم التحويلات لأنها تدرس تعديلات الأشكال الهندسية أو ما يمثلها، مع ما يصحبها من ثوابت. فكثير من خواص الأشكال الهندسية المألوفة مثلا يمكن إثباتها عن طريق التناظر مما يجنبنا استعمال البرهان عليها بطريقة سقيمة. ويمكن الحصول على كثير من الخواص الهندسية عن طريق تحويل شكل عام إلى شكل معياري (من خلال المنظور يمكن تحويل المضلع الرباعي إلى مربع والقطاع المخروطي إلى دائرة...). وهذا يتطلب مستوى من التفكير الهندسي الذي يعطي أهمية لشكل عملية التحويل أكثر من الأشكال المحولة نفسها. ان استغلال فائدة الهندسة كأسلوب أساسي لمعالجة الرياضيات، وكذلك تقديم المفاهيم الهندسية التي تفيد وتثير الاهتمام، واستثمار تجارب التلاميذ واهتماماتهم، واستخدام المشاكل التي تستحوذ على خيال الحال،ستولد لدى التلاميذ عدد من المهارات منها مهارات تطبيقية (القدرة على استخدام النماذج الهندسية في حل المشاكل). مهارات بصرية (القدرة على التعرف على مختلف الأشكال المستوية والفضائية وتحديد العلاقات بينها). مهارات لفظية (القدرة على وصف الأشكال وصياغة التعاريف والتعرف على البنى المنطقية شفهيا). مهارات الرسم (القدرة على رسم الأشكال والتعرف على دورها ومميزاتها). مهارات منطقية (القدرة على البرهان بمختلف أنماطه ومعرفة دور المنهج الاستنتاجي)

المراجع

www.sef.ps/vb/multka235341/موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث