للفرح غنّى, للفرح شدى, وبالفرح أسعد الناس..حتّى صار للفرح عنوانا..وجه بشوش, لسان رطب, وثغر باسم ضاحك,
أحبّ النّاس فأحبّوه, حدّثوه بالوجع فحدّثهم بالصبروالإيمان,
شكوه الألم فشكاهم الأمل, ثمّ شتموه وقالوا عنه متشدّد رجعي,
فقال لهم"لله.. حسبي الله ونعم الوكيل"..
كتبواعنه التقارير؟.
وتتالت التقارير وتوالت وكبر الملف..
وشدّدوا المراقبة وبثّوا الرّعب والخوف وداهموا المنزل في كلّ الأوقات دون إستثناء.. وبدون رحمة..هاجمواالمنزل فجرا وأهله في سكون وأمن, فكسّروا الأبواب وأرعبوا الوالد والوالدة ..وجدوه نائما أيقضوه, طوقوا المنزل وطوّقوه بالرّجال المدجّجين بالسلاح وحملوه معهم.. تركوا الوالد في ذهول وحيرة, وتركوا الوالدة مغمى عليها, وتركوا المنزل في سكون شابت له الرؤوس و تهاوت له القلوب..لم يمهلوه قال لهم:
- أريد أمّي..أريد أن أراها لحظة؟.
فقال له أحدهم:
- لا أمّك و لا باباك .. ثمّ أهوى عليه لكما دون شفقة أو رحمة..
- أريد أمّي..أمّي..
وراح يصرخ ويصرخ والدموع تتساقط من عينيه غزيرة مدرارة.. أدخلوه السيّارة بل حشروه وزادوا وضيّقوا عليه وكتموا أنفاسه حتّى لايسمع الجيران ...
...غيّبوه هناك في الظلمات وضعوه في زنزانة منفردة أيّاما لا يرى فيها نورا, ولا بصيصا من ضياء.. لا يسمع شيئا ولا يرى شمسا...ثمّ أنزلوه إلى الغرفة الحمراء قالوا له:
- اليوم سنلعب ؟..
فأجابهم بسكينة الإيمان:
- والله غالب على أمره ..
فوجّه له أحدهم لكمة ثمّ أتبعه بأخرى وتهالت عليه اللّكمات والرّكلات من كلّ جهة تصيبه في كلّ موضع من جسده, فلمّا أغمي عليه حملوه وألقوه في بركة موحلة, منتنة, ثمّ سكبوا الماء المثلّج على رأسه....
... وإنتشر الخبر في البلدة ..
..لقدمات فلان ... لقد قتلوه..
...ومرّت الأيّام وتوالت اللّيالي وتعاقبت الشهور وهو مغيّب في خنادق السجون لا يدري أحد أين؟آحيّ هو أم ميّت؟..
لم يتركوا فيه شيئا سليما.. حطّموه, هدموه, وأسكنوا جسده أمراضا كثيرة على صغره, ثمّ جاؤا عشاء إلى منزل والديه وسلّموه إلى أهله جثّة لا تكاد تتحرّك..فلمّا رآه والده بكى بكاء شديدا مرّا حتّى خرّ على ركبتيه جاثيامقبلا جبين إبنه, أمّاوالدته فقد أصابها الذهول وفقدت لسانها ليّالي طويلة... وبقي على تلك الحال أيّاما وهو بين الحياة والموت لا يعلم شيئا, ولا يدري على شيء,عيناه كأنّهماالعدم, في عالم آخريراه قريبا ونراه بعيدا,وجسد كشمعة تذوب وتذوب لكنّه كان يردّد:
"بحسبي أنّي عشت أذكرربّي ..بحسبي أنّ الله مطّلع على قلبي"
كان للفرح في قلبه بقيّة, وكان في نفسه من الأمل فسحة..
كان في بعض الأحيان يشعر بشيء من القوّة فيحاول أن يصنع شيئا, فكان ينقش على ألواح الجبس نقوشا بسيطة.. وكان أحيانا أخرى يحاول كتابة بعض الخواطربيد مرتعشة وأنامل بدأت تجفّ, كان يكتب أشياءفي ظاهرها الحياة وفي باطنهانعي لها.. كانت روحه طيّبة عفيفة ,كان محبّا لمعالي الأمور, عاشقا للسموّ والرّفعة ..
لم يتركوه ولم يكفهم مافعلوه به, فتوالت مداهماتهم للمنزل في أواخر ليالي الشتاء الباردة ..يقولون له:
- جئنا لنأخذك معنا ..
- أتينا لنلعب قليلا ..
ثمّ يعبثون بكلّ شيء يجدوه في طريقهم وهم يشتمون ويسبّون ويتفوّهون بكلام فاحش بذيء.. وكبر ذلك عليه, فاشتدّ به المرض وذاب الجسد, وذوت العيون, وغارت الوجنات.. حتّى أسلم الرّوح إلى بارئها مطمئنّا راضيا...
في ليلة إجتمع فيها البرد القارص والظلام الدامس والحزن الأخرس.. حملوه بصمت وساروا خلفه بخوف وأسى, وبعيون باكية وقلوب دامية لكنّها صابرة..
دفنوه ليلا في صمت رهيب جثم على القرية, وسكون كئيب تغلغل في منازل البلدة.. دفنوه تحت حراسة مرعبة, لم تشهد القرية مثلها.. مئات من رجال الأمن بمختلف تشكيلاتهم وأشكالهم وتنوّع أسلحتهم ,وعشرات الجنود المدجّجين ببنادقهم الرشّاشة ورجال المخابرات و"القوّادة".. انتشروا في كلّ زاوية وركن ,وفي كلّ زنقة وحيّ,أغلقوا مداخل البلدة ومخارجها خنقوهاولم يغادروها إلاّ صباحا..
التقرير الأخير..
دفن في مقبرة القرية وحظر الجنازة كثيرمن النّاس الكثير, أغلب سكّان البلدة كانوا متواجدين..
كتبه العون يوم .../../....19 العاشرة ليلا...
أرجو إغلاق الملف..
المراجع
odabasham.net
التصانيف
ادب قصص مجتمع الآداب قصة