يتناول هذا البحث قضية الاحتجاج في النحو العربي و الاختلاف في الشاهد النحوي من ناحية اختلاف النحاة في الإطار الزمني والمكاني ، اختلافهم في مصدر الشاهد من القرآن وحديث وشعر ونثر .
وتأتي أهمية هذه الدراسة من أهمية الشواهد في اللغة العربية ، لكي لا ينسب إليها ما ليس فيها في أي من المجالات { النحو والصرف والدلالة والأصوات } فيؤدي إلى فساد لغوي يترتب عليه فساد في تفسير الأحكام الدينية في القرآن الكريم والحديث الشريف .
العلماء ومادة اللغة :
إن الناظر في الدراسات اللغوية العربية القديمة يرى أن النحاة و اللغويين قد وقفوا عند فترة زمنية معينة ، روى فيها العلماء ما استطاعوا روايته عن الأعراب في البوادي وما حمله أهل البادية معهم إلى المدن العلمية ، وكانت هذه المادة اللغوية تمثل _ في معظمها _ الواقع اللغوي في عصر الرواية والذي قبله ، فنرى فيها الألفاظ والأساليب الشعرية الدالة على تلك الفترة .
ويرى أن النحاة واللغويين قد تشددوا في عدم الأخذ مما أطلقوا عليه عصور الاحتجاج بأطره المختلفة ، فتركوا مادة ثرة ، كان من الأولى عليهم روايتها على الأقل إن لم يريدوا الاستشهاد بها ، وأخذ النحاة و اللغويين يستنبطون القواعد ولأحكام من مادتهم اللغوية التي أجمعوا وحكموا بالشاذ والنادر والقليل وحتى بالخطأ على ما لم ينطبق على هذه القواعد والأحكام .
ونسأل أنفسنا السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن كل من له اهتمام في مجال الدراسات اللغوية القديمة : هل نقتصر في دراستنا على عصر الرواية وعلى ما استطاع القدماء استنباطه من قواعد وأحكام ، ونغفل التطور اللغوي منذ عصر الرواية عبر العصور المتلاحقة إلى عصرنا هذا ؟ أم أننا ندرس هذه المرحلة دراسة وصفية كما ندرس غيرها من المراحل ولا نتقيد بعصور الاحتجاج ، فتكون هذه المرحلة مرحلة من مراحل التطور اللغوي الدائم المستمر .
وليست الإجابة على هذا السؤال بالسهلة ، فإن عصر الرواية عصر اللغة اكتمالها لا نظير له ثم بدأت بالتهاوي في العصور اللاحقة -إلا بعض العصور التي ازدهرت فيها – ولذلك فإن التحديد يوجب أن تتخذ لغة ذلك العصر نموذجا يحتذى على مر الزمن . وحتى لا يطمع في التوفيق من لا يستحق ، وحتى لا تفتح أبواب من البلاء وتمضي بها إلى الفناء .1. أما الاتجاه الثاني فهو يرى أن اللغة في تطور فهي ظاهرة اجتماعية و التطور أمر طبيعي فيها ، وأن لكل عصر لغته المثالية التي تعد مخالفتها في ذلك العصر مخالفة للمألوف من منطوقة أم مكتوبة .2.
العلماء ومصادر الاستشهاد:
ذهب النحاة واللغويون إلى البداية ليلتقطوا ما تبقى في أفواه الأعراب الضاربين في أوساط الجزيرة العربية وأطرافها .فأفرغوا ما حملوا من حبر وصحف وأتخموا ذاكرتهم بما حفظوا ، فمنهم من أمضى أربعين سنة في البوادي يشافه الأعراب ويدون ويلاحظ ما شاء له أن يلاحظ قبل أن يعود إلى بلده .
وتقول بعض الروايات بأن بيت أبي عمرو بن العلاء وصلت فيه الصحف حتى السقف وكلها عن الأعراب ،أما المصادر الأخرى كالقرآن الكريم والحديث الشريف فكانت كما يبدو للوهلة الأولى أنهم وضعوها نصب أعينهم واستقوا منها مادة درسهم . ولكن الذي حدث فعلا أنهم فرقوا بينها من حيث الاستخدام ، فكان اعتمادهم على القرآن والحديث .
وبالرغم من اعتراف النحاة والعلماء بأن القرآن هو أوثق نص وأنه سيد الحجج لكنهم حادوا عنه . فكان من المفروض أن يبحث عن أصل القاعدة أو الحكم النحوي في القرآن الكريم ، فإن لم يوجد فبالحديث الشريف ، وكان حظ الحديث من الاستشهاد أقل من القرآن ، فلم يعدل إلى الحديث إلا في مواضع محدودة ، بل أن بعض النحاة منع الاحتجاج بالحديث كما سيأتي .
الاختلاف في الانتظار الزمني للاحتجاج .
كان مما يحمد للنحاة أنهم وضعوا أطراً أسموها بأطر الاحتجاج ، فكانت هذه كالسياج الذي لا يجوز أن يتعدى إلى غيره ، فحفظت حمى الاحتجاج من أن يداس .. ولم يأخذ النحاة عن أي وارد أو شارد من الإعراب ، لكنهم أخذوا ممن يوثق بفصاحته ووضعوا شروطاً لهذه الفصاحة وهي أن يكون القائل عربياً فلا يؤخذ عن أعجمي ، وأن يكون من قبيلة محددة ، ثم كون القائل من عصر زمني ينتهي عند حد معين 010 .
___________________________________________________
1- نظر عصور الاحتجاج 216
2- السابق 220، 282 وكذلك الاحتجاج بالشعر 104
وكان على علماء اللغة أن يحددوا فترة ينتهي بها الأخذ ، وبالفعل كان هناك تحديد لهذه الفترة ، ولوجود ميزات خاصة ومفاصل يتعرف العالم على الشعر ، كان هناك تقسيم للشعراء إلى ما قبل الإسلام أو الجاهليين ، ثم إلى من عاشوا الجاهلية والإسلام وهم المخضرمون ، ثم إلى الإسلاميين الذين ولدوا وعاشوا في الإسلام . ولظهور اللحن على السنة الناس ، وتأثير الثقافات في الشعر العربي، كان لزاماً على علماء اللغة أن يتعدوا طبقة رابعة هي طبقة المحدثين أو المولدين .
ولشعور العلماء بأن لغة الآباء ولأجداد هي اللغة المثالية فإن هذا دفع بعض العلماء إلى أن يقلل فترة الاحتجاج ، فكان أبو عمرو بن العلاء يعد الطبقة الثالثة التي تشمل جريراً والفرزدق والأخطل طبقةً مولدةً لا يحتاج بشعرها فهو يقول [لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته 020] فمع إعجابه بهذا الشعر إلا أن الشعور بالكامل لما هو قديم منعه من الرواية ،ثم جاء الأصمعي وآخر فترة الاحتجاج ، فشملت جريراً والفرزدق والأخطل وحكماً الخضري إلى إبراهيم بن هرمه ( ت 150 ه ) واستقر الأمر على هذا النحو وعد ابن هرمة ساقة الشعراء وبشار بن برد { ت 167 ه } أول الشعراء المحدثين 030 .
وكما كان عند أبي عمرو بن العلاء من شعور واعتزاز بلغة الآباء والأجداد كان عند الأصمعي ، فموقفه حين أنشده الموصلي شعراً فقال الأصمعي : لمن تنشدني . فقال : لبعض الأعراب ، فقال والله هذا هو الديباج الخسرواني ! فقال : فإنهما لليلتهما فقال : لا جرم والله أن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما 040
الاختلاف في الإطار المكاني :
وكان أيضاً على اللغة أن يتنبهوا إلى القبائل المجاورة للأم الأخرى من حيث فساد ألسنتها ، وبالفعل كان ذلك فلم يأخذ العلماء عن القبائل المترامية في أطراف الجزيرة العربية وذلك لمخالطتها غيرها من الأمم عن طريق المعاهدات أو التجارة أو الحماية أو غيرها من المعاملات ؛ فلم بجد عن قبائل لخم وجذام وقضاعة وغسان وإياد وتغلب واليمن وبكر وعبد القيس وازدعمان ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف ولا من ولا من حاضرة الحجاز ، وكان الفارابي قد عد هذه القبائل التي لم يؤخذ عنها ، وذلك لأسباب المخالطة وذكرها في كتابه الألفاظ والحروف ونقلها عنه السيوطي في الاقتراح والمزهر وكذلك نقلها أبو حيان في تذكرة النحاة 050 .
وكان الأخذ عن قبائل هي قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانه وبعض الطائيين .
وإذا نظرنا إلى قائمة القبائل تلك وجدنا سيبويه قد خالفها فاستشهد بشعراء من ثقيف وعبد القيس وتغلب وقضاعة وبكر ، فمن ثقيف أمية أبي الصلت وأبو محجن الثقفي ومن عبد القيس : المفضل النكري وزياد الأعجم والأعور الشني والصلتان العبدي .
ومن تغلب الأخطل وكعب بن جعيل والقطامي ومن قضاعة عدي بن الرقاع ومن بكر : المسيب بن علس ونهار بن توسعه …
ثم يأتي ابن مالك ويعنى في كتبه بنقل لغة وخزاعة وقضاعة وغيرهم ويعترض عليه أبو حيان 060
( 1) انظر الاحتجاج بالشعر ، الحاشية 69 ( 2 ) انظر السابق 79 وكذلك عصور الاحتجاج 193
( 3 ) نظر الاحتجاج بالشعر 79 وكذلك عصور الاحتجاج 1
195 .
( 4 ) انظر عصور الاحتجاج 1 | 23
( 5 ) انظر الاقتراح 56 والمزهر 1 | 233
الاختلاف في الإطار الحضري :
كان المجتمع العربي مكوناً من طبقة البدو وهم أهل الفصاحة والبيان ، وطبقة الحضر والقرويين وهؤلاء يتميزون بهبوط مستوى الفصاحة لديهم فقصد العلماء البوادي لأخذ اللغة عن أهلها ، فكانت البداوة معياراً للأخذ فقال الفارابي : وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط 010
وتدخل هذا الإطار فمنع الأخذ عن بعض الشعراء الذين كانوا داخل الإطار الزمني بحجة الإقامة في المدن ومنهم الكميت ، والطرحاح وعدي بن زيد وعبد الله بن قيس الرقيات .
وبعد هذا فهل كان العلماء على حق في رفض الاحتجاج بكلام المولدين المحدثين وعدم الأخذ عن قبائل بأسرها والاقتصار على كلام العرب القدماء ومن وثقوا فيهم بالحضر والبادية من المعاصرين لهم ؟
(( إن تلك التحديدات القبلية المكانية تمثل جانباً من الضوابط الجافية التي تحكمت في جمع اللغة وأدت إلى إغفال الكثير من مفرداتها واستعمالاتها . إذ أن ترك الأخذ عن قبيلة بأسرها أو عن أهل منطقة بأسرها فيه ما لا يخفى من الجزافية ، وإهدار ما يمكن أن يكون هؤلاء وهؤلاء استعملوه من التراكيب والصيغ والأساليب الصحيحة الفصيحة .. ولو استبدل بهذا { الحَظر العام } حظر اٌنتقالي يستبعد من الأداء اللغوي لتلك القبائل والمناطق ما يشذ عن طبيعة الصيغ والاستعمالات والأساليب العربية فحسب لاستدرك الكثير من فوات المعاجم مما كان يدعم القياسية والاطراد في القواعد اللغوية بمختلف مستوياتها _ بالإضافة إلى قيمة الثروة اللغوية 020 .
نعم هذا الخطر الانتقالي يخفف ما وقع فيه النحاة القدماء ولكن ما الأساس الانتقالي ؟ وكيف ننتقي دون مستويات صوابيه ودون قواعد نقيس عليها حيث أننا مازلنا في مرحلة الجمع ولا نعرف ما القاعدة التي تجمع هذا الجم الكثير .
وامتنع النحاة عندما أحسوا بفرق بين لغة البدو والحضر ، فرفضوا الأخذ عنهم بصفة عامة ، واعتبروا مجرد الإقامة في الحضر مفسدة للغة ، ولكن هل مجرد الإقامة في الحضر تفسد اللغة ؟ أم للمخالطة أثر في الفساد ، وما مدى هذا الفساد ، هل يصل إلى عدم الاحتجاج بالشاعر ؟ وكم المدة التي يقضيها الشاعر في الحضر حتى يعد حضرياً ؟
كل ذلك لم يجب عليه القدماء أو لم يضعوا له مقاييس يحددونها علميا .
الاختلاف في الاستشهاد بالقرآن الكريم :
يمثل القرآن الكريم أوثق نص لغوي في العربية ، فقد نال الحظوة العالية من العناية والضبط والدقة في الأداء من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده أصحابه ويمثل القرآن اللغة المثالية الرفيعة التي فهمها الأسدي والتميمي والقرشي و الأسدي وكل القبائل العربية الضاربة في أطراف الجزيرة العربية ، فتعارفت عليها الألسن في المحافل الأدبية .
ويقول صاحب الخزانة : (( فكلامه – عزاسمه – أفصح كلام وأبلغه ويجوز الاستشهاد بمتواتره وشاذه ، كما بينه ابن جتي في أول كتابه { المحتسب } وأجاد القول فيه 030 )) .
ومن إعجاز القرآن إنه نزل بقراءات متواتره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهنا اختلف وجهات نظر النحويين في النظر إلى القراءات القرآنية ، فذب بعضهم إلى قبول القراءة واخضع القاعدة للنص القرآني وذهب فريق إلى قبول القراءة في ذلك الحرف مع مخالفاتها للقياس ولكن لا يقاس عليها ، وذهب فريق ثالث إلى تخطيء القراء الثقات واتهامهم باللحن ما لم تستقر قراءاتهم مع قاعدتهم وقياسهم .
وقد فسر بعض الباحثين قلة استشهاد بالقرآن من قبيل الانصراف عن الاستشهاد بالقرآن وفُسِّرَ هذا الانصراف بسبب [التحــرز الديني] فذهب الدكتور محمد عيد في كتابة الرواية ولاستشهاد باللغة إلى ذلك فقال { إن الذي يفسر كل ذلك سبب واحد هو التحرز الديني ومع هذا السبب لم يستطع أحد من علماء اللغة الذين تحدثوا عن الاستشهاد بنص القرآن أن ينكر ‘حجبته ، ثم يعلن هذا في أدائه أمام أحد } ويتابع قوله في سبب التحرز الديني وذلك أن طبيعة التفكير الذي فرض نفسه على دارسي اللغة يحمل بين طياته تعدد الآراء وأعمال الذهن في النص اللغوي – كما هو واضح في كتب النحـو – والـنص القرآني لا يتحـمل ذلـك ولا يطيقه 040 .
1- الاقتراح 56 . 2- الاحتجاج بالشعر 77 ، 78
3- خزانة الأدب 1 | 9 4- الرواية ولاستشهاد في اللغة 126 ، 127
والرد على الدكتور عيد يتمثل بأن النحاة البصريين القدماء كان معظمهم من القراء فكيف يكون القارئ غير عالم بالآيات ومؤداها فهو عالم القرآن فمن أين يأتيه التحرز الديني ، ولا نستطيع أن نتصور أن القارئ عدل عن الاستشهاد بالقرآن إلى الاستشهاد بالشعر وغيره وهو قارئ وليس رواية للشعر .
وأرى أنه لا يوجد انصراف من النحاة عن القرآن الكريم ، وإنما كان لكثرة الشعر وسرعة تناوله وحفظه أثر في زيادة نسبة الاستشهاد بالشعر على نسبة الاستشهاد بالقرآن في كتب النحو ، والدليل على ذلك أن نسبة الآيات القرآنية كتاب سيبويه إلى آيات القرآن الكريم ككل ونسبة الشعر في كتابه سيبويه إلى نسبة الشعر الجاهلي والإسلامي ، تكون نسبة الآيات إلى الشعر أكثر إذاً فليس هناك حياد عن الاستشهاد بالقرآن .
الاختلاف في الاستشهاد بالحديث الشريف :
اتسعت دائرة الخلاف حول الاستشهاد بالحديث الشريف ، وتضاربت الآراء واحتدم النقاش بين النحاة ، وكان سبب الخلاف أن بعض النحاة نظروا إلى الحديث على أنه روى بالمعنى وأن الرواة دخلهم الاعجام ، وأن منهم نشأ في بيئة مولدة ولم ينشأ على النطق بالعربية الصحيحة . واتخذ هؤلاء دلـيلا على أن الحديث روى بالمعنى : أنه يوجد أحاديث اختلف ألفاظها واحتفظت بمعانيها ))؛ فترى الحديث الوارد في وقعة معنية قد اختلفت ألفاظه في الرواية ، ومن هذه الألفاظ ما يكون جارياً على المعروف في كلام لعرب ومنها ما يكون مخالفا ، وتصرف الرواة في الأحاديث هذا التصرف لأنهم كانوا يوجهون همهم إلى ما أودعه الحديث من أحكام وآداب فمتى عرف الراوي أن عبارته أحاطت بالمعنى وأخذته من جوانبه ، أطلقها غير ملتزم الألفاظ التي نلقى فيها المعنى أولاً 010 ))
وموقف المعارضين يتمثل في ابن الضائع وأبي حيان وسندهما أمران :-
الأول : أن الأحاديث رويت بالمعنى ، والثاني : أن أئمة النحو المتقدمين من المصرين لم يحتجوا بشيء منه ، ويرد هذان الأمران بأن النقل كان في عصر الاحتجاج حيث لم تفسد اللغة ، والتبديل كان تبديل لفظ بلفظ أي أن التبديل وقع وحدث في عصر الاحتجاج . ويرد الأمر الثاني بأن عدم احتجاج المتقدمين بالحديث ليس دليلاً على عدم صحة الاستدلال به 020 .
أما موقف المجيزين للاحتجاج مطلقا وعلى رأسهم ابن هشام وابن مالك حيث أكثر الأول من الاستشهاد بالحديث كثرة فاقت استشهاد ابن مالك به ، وكانت حجتهما وحجة أمثلهما ممن أجازوا الاحتجاج بالحديث ، ما رد به الدماميني في[شرح التسهيل] على أبي حيان بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب إنما المطلوب غلبة الظن الذي هو الذي هو مناط الأحكام الشرعية .. ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولم يكتب وأما مادون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بنهم 030 ، ومن العلماء من وقف موقف الوسط فأجاز الاستشهاد بالحديث الذي اعتني بنقل ألفاظه ، ويمثل هذا الاتجاه العلم الشاطبي فهو لم يوافق أبا حيان وأصحابه في منهجهم ، ولم يرض بموقف ابن مالك ، ولم يكن الوحيد في هذا وإنما وقف معه السيوطي ، فقال في الاقتراح : وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروى وذلك نادر جداً ، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضاً فإن غالب الأحاديث مروى بالمعنى وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها بما أدت إليه عباراتهم فزادوا وانقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ 040 )) .
إن فهم المتأخرين لموقف المتقدمين في قلة الاستشهاد ، وأنهم وقفوا منه موقفاً مريباً فهم خاطئ وكان من اهتمام علماء الحديث برواية الأحاديث أن وضعوا علماً يدرسون السند والمتن وأدخلوا علم الجرح والتعديل ، حتى لا يدخل في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس منها . قال e {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار 050 } ولذلك استبعد أن يكون الرواة قد قصروا في حفظ الأحاديث أو آثروا الوضع والتبديل في الحديث النبوي مع علمهم المسبق بما يؤدي إليه التكذيب أو الوضع أو التبديل . ولم يكن الرواة بدرجة عدم معرفتهم أن التبديل قد يقلب المعنى ولذلك أستطيع أن أخرج تعدد الروايات على أنها حوادث متكررة متشابهة قال فيها صلى الله عليه وسلم أقوالاً مختلفة . وما المانع من تكرر الحوادث وتغير الأشخاص ؟ فهذا أمر طبيعي . وذهب الدكتور عيـد في الاستشهاد بالأحاديث إلى (( السبب نفسه الذي لم يعتمدوا على القرآن من أجله وهو [التــحرز الديــني] إذ وقف الإحساس الشديد بتنزيه السنة مانعاً لهم عن الاتجاه إلى نصوصها بالتحليل والدراسة واستنباط القواعد 060 ))
وذهب الدكتور محمد عبادة إلى أن العناية بالحديث وتوثيقه لم تكن قد احتلت المكانة التي تضعه بين يدي النحويين كمصدر يعتمدون عليه . وبعد أن اكتمل علم الحديث من رواية ودراية وأصبحت مقاييسه وموازينه التي تميز صحيحه من زائفه ، يـأتـي ابن مالـك فيتوسع في الاحتجاج بالحديث 010 .___________________________________________
1_ القياس في اللغة العربية 33 2_ خزانة الأدب 1 | 1111 6_الرواية والاستشهاد 135 ، 136 .
◄ إلى الجزء التالي
1- وبعد هذا الاختلاف فقد لخص مجمع اللغة العربية بالقاهرة الأحاديث التي يصح الاستشهاد بها فأصدر قراراً بهذا الشأن :-
1- لا يحتج في العربية بحديث لا يوجد في الكتب المدونة في الصدر الأول كالكتب الصحاح في السنة النبوية فما قبلها .
2- يحتج بالحديث المدون في هذه الكتب الآنفة الذكر على الوجه الآتي :-
أ-الأحاديث المتواترة المشهورة .
ب-الأحاديث التي تستعمل ألفاظها في العبادات .
ج-الأحاديث التي تعد من جوامع الكلم.
د-كتب النبي صلى الله عليه وسلم .
هـ-الأحاديث المروية لبيان أنه صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم .
و-الأحاديث التي عرف من حال روايتها أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى مثل القاسم ابن محمد ورجاء بن حيوه وابن سيرين .
ز-الأحاديث التي دونها من نشأ بين العرب الفصحاء .
ح-الأحاديث المروية من طرق متعدد وألفاظها واحدة .
الاختلاف في الاحتجاج بالشعر العربي
أنس النحويون إلى الشعر وأحسوا أنه يمثل لغة العرب ، فمادته خصيبة وفيرة مع سهولة الحفظ والرواية فاعتمدوا عليه . والملاحظ أن الاحتجاج بالشعر أفشى وأشيع كثيراً من الاحتجاج بكلام العرب النثري ، ولعل هذا سببه شيوع حفظ الشعر لأن إيقاعاتـه تساعد على ذلك وحظوره الدائم في ذاكرة الأئمة ،ونتيجة الإيقاع كان الحفظ وبذلك نال الشعر عنصر الضبط الذي جعله حرياً بأن يتصدر ويصل إلى مرتبة عليا من الاحتجاج .
واحتلت الشواهد الشعرية اهتمام النحاة منذ القديم ، فشواهد سيبويه قامت حولها دراسات لشرحها وتحليلها وظهرت بذلك مؤلفات وفي مقدمتها شرح أبيات سيبويه لأبي جعفر النحاس ، وشرح أبيات سيبويه لابن السيرا في وغيرهما .
ولكن الشعر له أسلوبه وله ألفاظه وله إيقاعاته وله قيوده من وزن وقافية ، ويتناول موضوعات خاصة تفرض على الشاعر قيوداً لا تفرض عليه أثناء كلامه العادي . وقد تضر هذه القيود الشاعر إلى الضرورة ويقف الشاعر حيرانا بين القاعدة النحوية والموسيقى الشعرية . وهذا قد يؤدي إلى تأثير اللغة التي يضطرون إليها فتجري على ألسنتهم في غير الشعر أيضاً ، والأخطر من ذلك أن يستنبط قاعدة نحوية من بيت خطأ . فإلى أي مدى يمكن اعتبار صلاحية الأساليب الشعرية لبناء القاعدة النحوية ؟
إن القدماءأحسوا بهذا الأمر ولم يغفلوه فتحدثوا عن الضرورات الشعرية فنهم من عدها خطأ يقع فيه الشاعر وعليه إصلاح الخطأ ومنهم من عدها أن لا مندوحة للشاعر عنها 020 وعلى هذا فهل كان العلماء القدماء على حق حين عدوا الشعر هو الطبقة العليا من كلامهم فوضعوا قواعدهم في ضوئه ؟ أم أنهم أخطأوا؟ |
الاختلاف في الاحتجاج بالنثر العربي :
الذي يبدو للمتصور والناظر في علوم العربية أن النثر العربي أقرب إلى تصوير واقع اللغة ، فالنثر يمثل الأسلوب العام لاستعمال اللغة دون ضرورات أو قيود تفرض على القائل كما هي في الشعر . والنثر كما ( هو معروف ) يقسم عادة في الدراسات الأدبية إلى قسمين ، الأول : النثر الفتي ويشمل الخطب والرسائل والحكم والأمثال . والثاني : النثر العادي ويتمثل في لغة الحديث والتخاطب اليومي .
أولاً : الـنـثــر الــفــنـي :
أ- الخطب
اشتهر العرب بالخطابة ، حيث كانـت الوسيلة الإعلامية الأولى لهم ، فكان الحاكم أو رئيس القبيلة يصعد منبره ويلقي بخطبته على الملأ ويوصل ما أراد بهذه الطريقة .
1- عصور الاحتجاج 1 | 166 .
2- انظر عصور الاحتجاج 1 | 187 _ 190 .
3- وكان كثير من الخطباء اشتهروا بالفصاحة وحسن الأداء حتى إنه ضرب فيهم المثل ، ومع شهرة الخطابة عند العرب لم يعد إليها الباحثون القدماء لابراز القواعد النحوية والوقوف على الأساليب العربية من خلالها . بل تركوا مع ما فيها من قيمة عظيمة .
4- ولكن لماذا ترك النحاة الخطابة ولم يحفلوا بها ؟ وهل كــانوا عـلى صواب فـي هـذا ؟
5- إن الذي دفعهم إلى ذلك هو عدم الوثوق بالنص الخطابي ، فقد كانوا يتحررون الدقة في النصوص التي يعتمدون عليه . فالخطب لم تعلق بالأذهان تعلق الشعر ، فلم يعد هنا اطمئنان كامل بأن هذه الخطب تمثل البيئة التي يريدون ، ذلك لأن الخطب جمعت في وقت متأخر واعتمد في ضبطها على القاعدة النحوية ولم تعتمد لتقرير القاعدة النحوية 010 .
6- ب: الرسائل .
7- لم تكن الرسائل بشهرة الخطب ولم تكن لها أهمية كما كانت للخطب . لكنها تتميز عنها بميزة التدوين ، فرسائل الرسول صلى الله عليه وسلم ورسائل الخلفاء والقادة والولاة كلها تمثل نموذجاً يمكن الاعتماد عليه في تقرير القواعد النحوية . والذي حدث أننا لا نجد العلماء ـ التفتوا إليها مع أنها وثائق مكتوبة 020 فهل كان هناك أسباب جعلتهم يحجمون عن ذلك ؟ وما هي ؟ .
ج: الحكم والأمثال .
أما الحكم والأمثال فهي كثيرة في كتبهم ولا يخلو كتاب منها ، وأخذت حظاً من الاستشهاد أكثر من الخطب والرسائل ، وذلك لقصرها وسهولة حفظها ، غير أن للأمثال تجاوزات ومخالفات للقاعدة النحوية كما نرى في كثير من الأمثال التي أحصيت مخالفة الاستعمال ، كما يقال (( أعط القوس باريها )) وغير ذلك .
والذي يظهر أن النحاة تعاملوا مع الشعر فتسامحوا فيها كما تسامحوا في الشعر وضروراته 030 .
ثانياً : النثر العادي { لغة التخاطب } .
يحمد للنحاة أنهم التفتوا إلى لغة الحديث اليومي ، إلى لغة الحديث اليومي ، حيث إنها تحمل في طياتها كثيرا من الاستعمالات اللغوية والأساليب العربية . ونجد النحاة استشهدوا في كتبهم بلغة الحديث اليومي معتمدين في ذلك على المشافهة مع الإعراب أو السماع عن الرواة الثقات ، فنجد عبارات في كتاب سيبويه تشير إلى تلك الظاهرة كأن يقول : سمعنا من بعض الموثوق بهم ، أو عربي أثق بعربيته ، والعرب تقول ، والعرب الموثوق بعربيتهم وغير ذلك . ونهج هذا المنهج أيضا الفراء في معاني القرآن الكريم فيقول : سمعت بعض الأعراب ، أو يقول ، والعرب تقول 040 ..واعتمد النحاة بعدهم على هذه العبارات وعدوها حجة قاطعة . والأمر الذي يؤخذ على العلماء في نقلوه ، إنهم نقلوا هذه الأقوال ولم يحددوا أو ينسبوا ذلك للبيئة اللهجية التي نقلوا عنها ، فجاءت بعض العبارات مخالفة لما قرروا من قواعد ، وكذلك أدى ذلك إلى تضخم المعاجم اللغوية .
وبعد هذا نجد أن العلماء قد تركوا أشياء لم يعتمدوا عليها في تقرير القاعدة النحوية واعتمدوا أشياء لم يكونوا ليعتمدوا عليها . فما موقفنا نحن من هذا ؟ لابد أن أردنا دراسة نحونا والنظر في قواعده أن ننظر إلى التطابق الـتام بين لغة الشعر ولغة النثر . وإذا رأينا ذلك مستحيلا فإنه لابد أن نحث عن الحال التي يكون فيها لغة النثر ولغة الشعر شيئا واحدا ، والتي فيها تعتبر اللغتان معا نواة اللغة مشتركة ، دون أن نفرض سلطان أسلوب الشعر على أسلوب النثر 050.
مآخذ عـلى مــواقـف النحاة :
لقد أبدع علماؤنا القدماء في فرز اللغة وعرفوا ما يروون وما يتركون . فوضعوا المقاييس لذلك، ولم يـخل عملهم هذا من بعض السقطات التي وقعوا فيها ، وعلينا الاستفادة مما وقعوا فيه .
1 - إن إيقاف الاحتجاج على لغة عصر الاحتجاج يعني الحكم بإيقاف نمو اللغة عند الحد الذي وقفت عنده في تلك الحقبة ، وذلك شيء يضاد طبيعة اللغة 010 . 2 - التعميم ، فكان الامتناع عن الأخذ عن قبيلة بأسرها مع إغفال العلماء أن هناك فروقا فردية بين أبنا القبيلة .
3- التشدد ، ويظهر ذلك في التبكير في تحديد الإطار الزمني وهذا حرم اللغة من بعض الأساليب والمفردات بعض الصيغ ، وكذلك التشدد في رد بعض القراءات .
4-لم ينسبوا اللغات وتعدداتها إلى قبائلها فتجد في استعمالهم كلاما من قبيلة أسد ومن تميم ومن كلام قريـش وهكذا ، فقـام النحو على خليط من اللهجات لا نظام له ولذلك ظهر الشذوذ في القواعد .
___________________________________________________
1- انظر عصور الاحتجاج 1 | 172
3-انظر عصور الاحتجاج 1 | 190 ، 181
5-لم يولَ الرواة أهمية من حيث دراسـة أحوالهم ومن حيث الثقة والضبط أو الوضع والخلط ،فلم نعرف عن الرواة ما عرفنا عن المحدثين غير القليل .
6- وكذلك النصـوص لم يحققوا لها سـندا ولا متنا ، أما الـسند فكثيرا ما تجد الشاهـد فـي كتبهم منسوبـا إلى غيــر
قائله ، وأما المتـن فكثيرا ما تجده مرويا عندهم على غير الصـحيح ويبنون قاعدتهم علـى موضـع الخطأ منه 020 .
7 – دخول الأهواء والأمزجة في أطر الاحتجاج فنــجد العلمـاء تركـوا الاحتجاج بــشعراء داخـل الأطـر لاشيء وإنمـا لا هوائهم ، وظهر على الشعراء الذين شغلوا أنفسهم بالشراب والمجون مثل ابـن قـيـس الرقيات والأحوص وأبي نواس .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-انظر الاحتجاج بالشعر 104 .
2- انظر في أصول النحو 70 – 75 .
المـراجــع
1- الاحتجاج بالشعر في اللغة ، محمد حسن حبل ، دار الفكر العربي - القاهرة 1986 .
2- أصول النحو العربي ، محمد خير الحلواني ، جامعة تشرين 1979 .
8- الاقتراح في علم أصول النحو ، السيوطي تحقيق أحمد محمد قاسم ، القاهرة 1976 .
9- خزانة الأدب عبد القادر البغدادي ، تحقيق عبد السلام هارون ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثانية ، 1979 .
10- دراسات في كتـاب سيبويه ، د . خديجة الحديثي ، وكالة المطبوعات – الكويت .
11- الرواية والاستشهاد في اللغة ، د . محمد عيد ، عالم الكتب القاهرة 1976 .
12- ظاهرة الشذوذ في النحو العربي ، د . فتحي الدجني ، وكالة المطبوعات – الكويت الطبعة الأولى 1974 .
13- عصور الاحتجاج في النحوي العربي ، د . محمد عباده دار المعارف 1980 .
14- القياس في اللغة العربية ، محمد الخضر حسين دار الحداثة ، الطبعة الثانية 1983 .
15- في أصول النحو ، سعيد الأفغاني ، الطبعة الثالثة مطبعة جامعة دمشـق 1964 .
محمود إبراهيم
arabicme@yahoo.com
alnamrout@yahoo.com
alnamrout@hotmail.com
" "▲
للأعلى الســــابق
المراجع
www.zahra1.com/BHOOTH/BO-ehtegag2.html موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث
|