الجفاف , القحط , اليباس ضرب تلك البراري الشاسعة , هجرتها حيواناتها , واخرى نفقت , فجاعت الذئاب وهزلت , لكنها استمرت بالبحث عن طرائد بلا ملل او كلل , لابد لها ان تسكت صوت المعدة , وتوقف الم الجوع .
غادر الرعاة مراعيهم وتوجهوا نحو المدينة , لترعى وترتع وتلعب قطعانهم في اماكن القمامة , بدلا من تلك المروج الخضراء .
انتشر قطيع الذئاب في البوادي المجاورة , بحثا عن طرائد , او مكان اخر , فيه كل ما يؤمل , انطلق كل ذئب في جهة , واختار الذئب جبر الاعور جهة خاصة , يسابق الرياح تارة , ويمشي تارة اخرى , يستنشق ذرات الهواء , يحللها , لعلها تحمل روائحا لمكان لا زال خصبا , او لعل فيها روائح لفرائس كثيرة , تقيه وتقي افراد القطيع من الموت المحتوم , امتعض واستاء كثيرا عندما لم يجد فيها بغيته , لكنها كانت محملة بروائح المدينة , وما يصدر منها من دخان وابخرة , فأشمئز من ذلك , وغيّر طريقه , لكنه توقف فجأة , واقترح على نفسه ان يقف على مشارفها , ليستطلع الامر , ويتأمل الحياة فيها ! .
اقترب اكثر واكثر , بحذر تام , وانتباه عال , حتى تبادر الى اسماعه ثغاء اغنام , فملئ رئتيه بنسيم عطرها , شد العزم وهرول نحوها , حتى كمن في مكان قريب , يحدق فيها متأملا , يسيل اللعاب من جانبي فكيه , فقرر الهجوم , لكنه توقف , حين لاحظ عدم وجود كلابا تحرس القطيع كما ينبغي ويفترض , ولاحظ ايضا غياب الراعي :
- لا يمكنني الهجوم حتى اعرف مكان الراعي ... وسبب اختفاء الكلاب ! .
حام حول المكان بالحذر المعهود , حتى سمع قهقهات ضعيفة , مترددة , خافتة , تصدر من مكان قريب , استطلع الامر , فوجد ان الراعي يلهو مع عشيقته في مكان منخفض , أدرك عندها ان القطيع بلا حامي , ثم استدار نحو قطيع الاغنام , لينقض عليها انقضاض ذئب الصحراء , هجوما سريعا مباغتا , فغرس انيابه في عنق حمل صغير , ثم اطلق ساقيه للريح .
ما ان وصل الى مكان امن , حتى شرع بالتهامه , ثم عاد الى جحر الذئاب شبعا مسرورا , واخفى الامر عن رفاقه , واخبرهم انه لم يجد شيئا , وكذلك كانت تقارير ذئاب الاستطلاع الاخرى .
في الليلة الاخرى , وقف على مشارف المدينة , يستطلع ويفكر , فلاحظ حركة المارة , سيارات , راجلة , انتظر حتى انعدمت الحركة , فقرر الدخول , لكنه لاحظ انوار المدينة , التي يخشى ان تكشف وجوده , فولج من مكان مظلم , لا يراه فيه احد , واخذ يتنقل في الازقة المدلهمة , لم يعثر على شيء ذو بال , لكنه شمّ رائحة الدجاج , عدة دجاجات في قن داخل احد البيوت , قفز السياج , تابعا اريج عطرهن , لحسن حظه كان باب القن مفتوحا , القى التحية , وشرع بالتهامهن جميعا .
استمر على هذا المنوال عدة ليال , وذات ليلة بينما كان مختبئا في زاوية مظلمة , سمع صوت رجال الشرطة :
- يجب ان نفرض حضر التجوال لدواعي امنية ! .
- حسنا ! .
انبهر وسرّ لسماع الكلمة ( حضر التجوال ) , حيث سيبقى الجميع في بيوتهم , وسوف تخلو الشوارع من المارة , وعاد ليسترق المزيد :
- كم الساعة يبدأ الحضر ومتى سينتهي ... سيدي ؟ .
- من الحادية عشرة وحتى الشروق ! .
لم يتمالك نفسه فصدرت منه قهقهة كادت تكشف عن مكانه , كتم انفاسه وعقب عليهما مقترحا مستهزئا :
- كلا ... كلا ... فليكن الحضر من الغروب حتى الشروق ... ليكون عندي متسع من الوقت ! .
فجأة غيّر الضابط رأيه , فقال :
- كلا ... فليكن من الغروب حتى الشروق ! .
- حاضر سيدي ! .
استغرب الذئب جبر الاعور واندهش من ذلك , ورحب كثيرا بقرار الضابط :
- احسنت ايها الضابط ... عندها يمكنني التجول في المدينة كيفما اشاء ... لا اخشى ان يراني احد ! .
استمر الحضر عدة ليالي , يسرح الذئب جبر الاعور ويمرح , يلهو ويلعب , يسرق ويأكل كل طال فكيه , حتى سمن وترهل , ومن جانب اخر , كثرت الشكاوى المقدمة من الاهالي لفقدان ماشيتهم وحيواناتهم الاليفة والداجنة , مطالبين الشرطة بوضع حدا لذلك والقاء القبض على الفاعل , فقرر قائد الشرطة ان ينشر رجاله في كل انحاء المدينة , شرطيا على الاقل في كل شارع , لكن ذلك لم يمنع الذئب جبر الاعور من سرقاته , فقد خبر المدينة ودهاليزها جيدا .
ذات ليلة , لمحه احدهم , فصرخ ( ذئب ... ذئب ) , تجاهله في بادئ الامر , لكنه فكر مليّا وخشي ان يكشف امره للسكان , فعاد لينقض عليه , فقتله , في الصباح الباكر , تجمهر الناس حول جثة القتيل , وحضر محققي الشرطة , فقرروا ان الفاعل ( ذئبا ) , لكن هل يعقل ان ذئابا تدخل المدينة ليلا ؟ ! .
قدم كثير من الناس بلاغات بمشاهدة ذئابا في شوارع المدينة , اغلبها من اطفال , لذا لم يعبأ بها اباءهم , ففرضت الشرطة طوقا امنيا حول المدينة , وبمساهمة الجيش والاهالي .
اجتمع قطيع الذئاب في وكرهم , ليتباحثوا في امر الجدب والقحط , فقال احدهم :
- اننا نزداد وهنا وهزالا بينما يزداد جبر الاعور سمنة وقوة ! .
- وايضا انه لا يحضر اجتماعاتنا الدورية والمغلقة ! .
هزّ الزعيم رأسه وقال :
- الامر كذلك ... هذا مما كنت اود ان اطرحه في هذا الاجتماع .
- لابد انه قد عثر على مكان فيه الكثير من الفرائس ... ولا ينوي اخبارنا عنه ! .
- لذا قررت ان نراقبه الليلة ... وان اكتشفنا انه يخفي شيئا عنا سنقضي عليه ! .
حالما ارخى الليل سدوله , انطلق جبر الاعور نحو المدينة , فرحا , محبورا , طربا , ينشد اناشيد النصر , فيهون عليه بعد المسافة , حالما وصل مشارف المدينة , لاحظ عدة تغييرات قد اجريت , فأقترب بحذر تام , كان الهدوء مطبقا , اخذ شهيقا عميقا , ليحلل ذرات الهواء , فوجدها تزخر بروائح البارود وبني البشر , لا يقع عليهم نظره , لكن روائحهم ازكمت انفه , ادرك انهم قد اكتشفوا امره , واستعدوا لعودته , فقال نادما :
- لقد كان خطئي ... ما كان يجب ان اقتل ذلك الشخص ! .
لكنه لم ييأس , حام حول المدينة لعله يجد ثغرة يلج منها , لكن دون جدوى , اثناء ذلك , انتبه لوجود روائح اخرى تملئ الافاق , فأدرك ان افراد قطيع الذئاب كانوا خلفه , يلاحقونه , يتبعونه , يراقبونه , فشعر انه بين فكي كماشة , حراس المدينة من جهة , وافراد القطيع من جهة اخرى , ان لم يقض عليه اولئك سيقضي عليه هؤلاء .
قرر اللجوء الى حيلة لتخلصه من هذا المأزق , فأقترب من مكان تجمع القمامة , وتوارى جيدا , واقترب قطيع الذئاب اكثر واكثر , بحثا عنه , فأطلق عواءا تردد صداه في الفضاء , وما هي الا لحظات , حتى فتح الشرطة والجيش والاهالي النيران نحو القمامة , فتحصن جبر الاعور جيدا , بينما ترك افراد قطيع الذئاب فريسة للرصاص!.
المراجع
رابطة أدباء الشام
التصانيف
ادب قصص