رقية القضاة
منذ أرسل الله جل شأنه رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق تعهد له ولأمته من بعده ببقائها وديمومتها واستمراريتها إلى يوم الدين ولو كره الكافرون وذلك بقوله النافذ بلا شك الحق بلا جدال (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )).
ومنذ انطلاقة هذه الرسالة الإلهية السامية حملت في ثناياها العدالة المطلقة والتسامح البين والاحترام الجلي للعقل البشري مع الوضوح التام في المعتقدات والشرائع فجاءت سامية المبادىء شاملة البيان سهلة التكيف مرنة الإندماج مع المتغيرات البشرية والحياتية متناغمة بتآلف ودود مع الفطرة والطبيعة الإنسانية.
محملة بالوصايا الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لكل من ولي أمراً لبني البشربالتزام الرفق وإحقاق الحق ومحاربة الظلم ورفع العنت والإصر والأغلال عن رقاب طالما ناءت بحملها الثقيل وأنَت تحت نير الجهل والقهر والاستعباد من الإنسان لأخيه الإنسان.
ولأن هذه الرسالة بكل أحكامها وتفاصيلها ومبادئها منزلة من الله على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فقد جاءت خالصة النقاء العقائدي عادلة التشريع نابضة بالعطاء، والحث على البحث والتفكير واضحة كل الوضوح في بيان ثوابتها وأدلتها براء من الجمود والتقوقع.
صريحة كل الصراحة في مناقشة وإيضاح دقائق المشكلات الأصيلة والطارئة في حياة البشرمقنعة غاية الإقناع حاسمة غاية الحسم في اعتبار ثوابتها غير قابلة للتغيير والزوال؛ لأنها الحق وليس بعد الحق الا الضلال.
ولأن لكل خير وحق أعداء يحاولون طمسه وإضعافه فإن الاسلام وهو أصدق الحقائق وأجلاها له أعداؤه الكثر ابتداء من كفار قريش مرورا بكل حملات التشكيك القديمة والمعاصرة وإلى قيام الساعة ولذلك بات من المألوف أن لاتهدأ وتيرة الغمز الخفي أو الحرب المعلنة ترتفع هنا أوهناك على كافة الصعد وفي مختلف الميادين.
ومنها تلك التهمة التي تصور " بقاء الإسلام كفكر قوي ومؤثرمحتفظا بكل قوته وكيانه بانه نتاج تقوقعه وعزلته وانفراده " بحسب قول احد أعمدة التبشير وهو " شاتلييه " ويقصد بقوله كما يقصد أمثاله أن الإسلام حظر التفاعل والحوارمع الآخر، وهي فرية كبرى فندتها وما تزال تلك الحضارة الماثلة بشواهدها العلمية والفكرية والعمرانية حتى في قلب في وعمق حضارة الآخر.
وكذلك المبشر " زويمر " الذي دعا الى اعتماد أسلوب التشكيك بشريعة الإسلام وتغذية وتعميق الميل بل الاتباع لتلك الأفكار المفككة كما يقول لعقائد الاسلام ومبادئه الخلقية " وفق مزيتي الهدم والبناء للارساليات التبشيرية ".
وهم يرون أن المسلمين متعصبين وأن تعصبهم يحول بينهم وبين محبة وتقبل الآخر.
يقول المبشر " رايد " ( إن ذلك الحاجز العظيم الذي يدعى عادة بالتعصب وهو ذلك الجدار الشاهق من الشك والاعتزاز بالذات ومن الكره قد بناه الإسلام حول اتباعه ليحميهم من داخله ويترك المبشر خارجه ) إلى أن يقول: (من الصعب أن تحب مسلماً؛ لأن المسلم ليس محبباً إلى النفس، ولأنه هو عادة يشمئز من اللذين يحاولون الاقتراب منه إذا نالوا ثقته ).
إن هذه الأقوال التشكيكية المتجنية هي محض افتراء تفنده الحقائق التاريخية وشواهدها وتثبت أن محاولات الآخر التقرب والتآلف مع المجتمعات المسلمة لم يكن بهدف التبادل الحضاري أو الثقافي بل هو تقارب لأجل إقناعنا وإلزامنا بمبادئه هو وفق رؤيته هو دون الأخذ بعين الاعتبار البنية العقائدية والحضارية لنا .
ونحن حين نرفض أيديولوجية االآخر حين يحاول فرضها علينا نصبح في نظره دعاة كراهية ونفوروانعزالية.
إن دعاة الفرنكفونيه ينهجون النهج ذاته وهم مازالوا يحاولون اقتلاع جذور القيم الاسلامية متمثلة بالحجاب والمظهر الاسلامي - كمثال - ويعتبرون قيمنا امر غير مرحب به في بلادهم حيث يقول " ساركوزي " ( إن البرقع الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها أمر غير مرحب به في فرنسا الفرنسيون لا يحبون رؤيته في بلادهم ).
وهل أحب الجزائريون وأهل الشام وغيرهما من بلاد المسلمين احتلال فرنسا لأرضهم وإلغاء لغتهم ومحاربة عقيدتهم وثقافتهم، وهل أحب التونسيون إلغاء الحجاب الذي فرضه الله على المسلمات فحورب على يد تلاميذ قيمكم.
لقد تذكرت وأنا اكتب هذه السطور أنني سألت والدي رحمه الله أثناء حديث دار بيننا حول الاستعمار الفرنسي للجزائرفقال: إن أخطر ما في الاستعمار الفرنسي غير الإبادة المليونية أنه تسلط بكل إمكانياته وقوته على مقومات وجود الأمة؛ عقيدتها ولغتها وقيمها ليسلخ الأجيال التالية عن السابقة فتنقطع حلقة الوصل العقائدية والقيمية بين أجيال الأمة الواحدة فتصبح امعة لا قوام لها. وهذا أخبث أنواع الاستعمار.
إن محاولات طمس الهوية الإسلامية والسعي الى تحجيم انتشار الاسلام ومحاربة وجوده وتجفيف شرايين اتصاله بالآخر بكل وسيلة هو اكبر دليل على انه دين حي متجدد سريع التاثير منفتح القنوات يخشى من انتشاره بسهولة ويسروليس فيه صفة واحدة تدل على الإنعزالية والتقوقع.
ولكي نكون منصفين فان الكثير من أقلام الغرب أنصفت الإسلام لقناعتها بعدالته ورحمته " فارنولد توينبي " يقول: إن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام أبان الفتوحات الإسلامية لبلادها إنما فعلت ذلك باختيار حر وإرادة كاملة وأن العرب المسيحيين يعيشون بين الجماعات المسلمة إلى اليوم وهو شاهد على تسامح الإسلام.
فهل يدرك أولئك الذين يلصقون تهمة الانعزالية بالإسلام ويعتبرونها السبب في ديموميته وبقائه أوالذين يصفونه بالجمود والتخلف وعدم صلاحيته لكل زمان ومكان هل يدركون مدى الخطأ المقصود غالباً وغير المقصود أحياناً وهم يرون ويلمسون حكمة وعملية وسعة افق الحلول الاسلامية لكل مشكلات البشرية قديماً وحديثاً.
أم أنهم يخشون يقظة المارد النائم على حسب تعبيرهم فيوغلون بالاستخفاف بعقول البشر وتفكيرهم مستمرين في محاولات إبقاء الأمم مخدرة غافلة عن الحق وهي تلهث خلف سراب المادية والإباحية محقونة بجرعات متتابعة من الافتراءات على شرع الله (( يريدون ليطفئو نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ).
المراجع
ياله من دين
التصانيف
عقيدة إسلامية عقيدة معاملات إسلامية العلوم الاجتماعية