الدولة في اللغة: قال ابن فارس: الدال والواو واللام أصلان: أحدُهما يدلُّ على تحوُّل شيءٍ من مكان إلى مكان، والآخر يدلُّ على ضَعْفٍ واستِرخاء. والدَّولة والدُّولة لغتان، ويقال: بل الدُّولة في المال والدَّولة في الحرب. وقال الزجاج: الدُّولة اسم الشيء الذي يُتداول، والدَّوْلةُ الفعل والانتقال من حال إِلى حال. وفي «الصحاح في اللغة»: الدُّولَةُ والدَّوْلَةُ لغتان بمعنىً. وأَدالَنا الله من عدوِّنا من الدَوْلَةِ. والإدالَةُ الغلبةُ. يقال: اللهم
أَدِلْني على فلان وانصرني عليه. ودالَتِ الأيامُ؛ أي دارت. والله يُداوِلُها بين الناس. وتَداوَلَتْهُ الأيدي، أي أخذَتْهُ هذه مرةً وهذه مرةً.
الدولة في الاصطلاح: هي الهيئة المكونة من عناصر ثلاثة مجتمعة:
1 - مكان من الأرض يطلَق عليه إقليم.
2 - طائفة من الناس تسكن الإقليم يطلق عليهم شعب.
3 - سلطة يخضع لها الشعب في الإقليم يطلق عليها الحكومة؛ تدبر علاقات الشعب الداخلية في ما بينهم، وتدبر علاقاتهم الخارجية مع الأقاليم الأخرى، وتحمي حدوده ضد الأعداء المحتمَلين.
ويتفق المعنى اللغوي مع المعنى الاصطلاحي في العنصر الثالث عنصر السلطة؛ إذ من المعنى اللغوي للدولة - كما تقدم - الغلبة، والغلبة (القهر والإكراه واحتكار القوة) هي العنصر الفعال في السلطة.
إن تعبير الدولة الدينية والدولة المدنية ليس من مفردات السياسة الشرعية رغم أن الألفاظ المفردة المكوِّنة للتعبير هي ألفاظ عربية؛ يدل على ذلك أنك لو فتشت في ما كتبه العلماء المسلمون في ما مضى لم تجد لهذه التعبيرات أثراً، وهو مما يدل على أن هذه التعبيرات إنما وفدت من خارج البيئة الإسلامية.
لو نظرنا في المعنى اللغوي فقد كان مصطلح الدولة الدينية يعني الدولة التي يكون دين الشعب هو المحرك والمهيمن على كل أنشطتها، والدولة المدنية هي الدولة الحضارية التي فارقت البداوة والتخلف وأخذت بأسباب الرقي، أو الدولة التي تباين الدولة العسكرية. ومن البيِّن أنه في هذه الحالة ليس يمتنع أن تكون الدولة دينية ومدنية في آنٍ واحد إذ لا تعارض بينهما؛ وهو ما يعني أن المعنى اللغوي لكلا المصطلحين لا إشكال فيه وليس في استخدامه لغوياً ما يُحذَر، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فقد شُحِن كلا المصطلحين بمعانٍ وأضيفت له هوامش وشروحات مما جعل استخدام المصطلح في البيئة الإسلامية محفوفاً بكثير من المخاطر والإشكاليات .
وعندما نرجع إلى مصطلح الدولة الدينية (الثيوقراطية) والدولة المدنية في البيئة التي نشأت فيها (البيئة الوثنية والبيئة النصرانية) نجد أن الأمر جِدُّ مختلف؛ فالدولة الدينية في تصورهم هي الدولة التي يكون الحاكم فيها ذا طبيعة إلهية (إله أو ابن إله)، أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الله - تعالى - حسب ما عُرِف بنظرية الحق الإلهي.
ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم في منزلة عالية لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب، وأنه لا يُعتَرض على أقواله أو أفعاله، وليس لأحد قبله حقوق أو التزامات؛ بل عليهم الخضوع التام لإرادة الحاكم؛ حيث لا حق لهم في مقاومته أو الاعتراض عليه، ومن البيِّن أن هذا التصور للحاكم لا وجود له في الفقه السياسي الإسلامي، ولا في التاريخ الإسلامي؛ فالحاكم بشر خالص ليس له علاقة بالله إلا علاقة العبودية والخضوع لبارئه، وللمسلمين الحق في متابعته ومراقبته ومحاسبته، وكذا مقاومته لو خرج عن حدود الشرع الذي يجب عليه التقيد به.
وقد أوجد هذا التصور للدولة الدينية ردَّة فعل عنيفة عند مفكري تلك الأمم وفلاسفتهم؛ جرَّهم إلى اتخاذ موقف مناقض أشد المناقضة؛ فلم يكفهم أن ينفوا المعاني الباطلة المتعلقة بذلك المصطلح؛ بل بالغوا وغالَوا ونفَوا أن يكون للدين أيُّ تدخُّل أو تعلُّق بالدولة، ومن ثَمَّ استعاضوا عن ذلك بوضع الإنسان في موضع الدين، فأصبح الإنسان هو من يضع القوانين وهو الذي ينظم الأمور من غير أن يتقيد في ذلك بشيء من خارجه، والدولة التي يحل فيها الإنسان محل الله - تعالى الله عما يقولون ويتصورون ويصفون - هي الدولة المدنية في تصورهم.
فالدولة المدنية إذن ليست لها مرجعية سوى الإنسان، ومن ثَمَّ فهي مناقضة لتدخُّل الدين في أيٍّ من شؤونها وقضاياها، أي تقوم بفصل الدولة عن الدين، فهي بذلك مرادفة للدولة العَلمانية. وهذا يتضح بجلاء عندما نجد كل الأطياف المعادية للإسلام في بلاد المسلمين على اختلافها وتنوعها تنادي بالدولة المدنية في مقابل دعوات الإسلاميين لتحكيم الشريعة؛ لأن الدولة المدنية في مفهومهم مناقضة للدولة الإسلامية التي لا يمثل الإنسان فيها - على الرغم من تكريم الإسلام له - أية مرجعية تشريعية، بل المرجعية فيها لكتاب الله - تعالى - وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا يتعجب الباحث ويستغرب مما يدعيه بعض الإسلاميين بقولهم: " الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالأساس " ، وهو مجرد كلام مرسَل لم يقم عليه دليل، وهم في سبيل تمرير دعواهم الباطلة - التي لا رصيد لها من النصوص أو الواقع - قاموا بعملية تزوير فاضحة؛ حيث عمدوا إلى بعض التصورات الإسلامية الصحيحة وقاموا بنقلها وإلصاقها بالدولة المدنية دون أدنى برهان أو دليل.
يذكر بعضهم أن الدولة المدنية " تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى، والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة (مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها) أن تحاسبه وتراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن اعوجَّ وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم (بل كل مواطن) أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكراً، أو ضيَّع معروفاً، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأى كفراً بَوَاحاً عنده من الله فيه برهان ".
ويقول آخر: «الدولة الإسلامية هي أول دولة مدنية في التاريخ يخضع فيها الناس لسلطة النظام العام أو القانون، ولا تفتِّش في الضمائر، ولا تملك سلطة حرمان أو غفران».
وهذا الكلام وسابقه لا علاقة له بالدولة المدنية فالتعبيرات أو المفاهيم أو التصورات السابقة كلها إسلامية تجد في النصوص الشرعية دليلها وبرهانها، والدولة المدنية في عرف أصحاب المصطلح ليست الدولة المتحضرة أو الدولة الراقية التي فارقت البداوة وأخذت بكل أسباب الرقي والتمدن، أو التي فارقت الدولة العسكرية؛ بل الدولة المدنية عندهم هي الدولة التي لا يكون للدين فيها أية مرجعية.
ومما يمكن أن يُستَدل به على ذلك كلام الإسلاميين أنفسهم؛ حيث يقولون: نحن نريد دولة مدنية بمرجعية إسلامية فهذا الطلب يدل على أنه ليس من معنى الدولة المدنية تقيدها بدين الشعب؛ ولو كان ذلك داخل في معناها أو جزء من معناها لم تكن هناك حاجة لذلك القيد.
ونحن عندما نراجع تعاريف العلماء في كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية لتعريف الخلافة التي تقابل السلطة أو الحكومة في الدولة نجد أن من أركانها متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بالشريعة وسياسة الدنيا بها، وهذا ينفي ما يدَّعيه بعضهم بقولهم: «الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالأساس»، ولو كانوا يريدون من ذلك الكلام التأكيد على أن الدولة في الإسلام ليست دولة متخلفة أو يغلب عليها البداوة؛ بل تأخذ بكل أسباب التمدن والتحضر والرقي لكان الصواب أن يستخدموا بدلاً منها عبارة (دولة متحضرة) مثلاً؛ وذلك لصدق هذا اللفظ عليها، ولكونه غير محمَّل بمعاني فاسدة كلفظ المدنية الذي يستخدَم في كلا المعنيين (الصحيح والفاسد).
ولعل الحرص الشديد على تسويق مصطلح الدولة المدنية، والضغط على الحركة الإسلامية كي تستخدمه؛ إنما ذلك بغرض إدخال الأفكار والتصورات العَلمانية والتمكين لها بين المصطلحات الإسلامية بعيداً عن مصطلح العَلمانية الذي افتُضِح أمره وملَّتْه النفوس السليمة.
والمصطلح الذي ينبغي التمسك به والدعوة إليه في وصف دولتنا هو أن نَصِفَها بالإسلامية، والإسلام أحكامه معروفة معلومة دلَّ عليها الكتاب والسُّنة، فيكفي أن نقول: الدولة الإسلامية، حتى يُفهَم المراد منها.
وهذا المسلك الذي يحاول أصحابه أن ينتزعوا المعاني الإسلامية ويكسو بها مصطلحات غير إسلامية، مسلك غير راشد لعدة أمور:
1 - وَضْع المصطلح الدخيل في منزلة أعلى من المعاني التي دلت عليها الشريعة بدليل الركون إليه وتقديمه عما عداه.
2 - التأسيس للمصطلح الدخيل والتمكين له بزي شرعي، وهو ما يمثل احتلالاً فكرياً.
3 - نسبة أحكام شريعتنا لغيرها من المصطلحات الدخيلة.
وكل هذا يعني انهزام القائلين به أمام المصطلحات الدخيلة، وهو ما يجعلها تنزل منزلة الأصل؛ بينما تكون المصطلحات الشرعية في منزلة التابع.
وقد يستغرب الباحث حرص كثير من الدعاة على تغييب المصطلح الإسلامي والخجل من الجهر به والدعوة إليه في الوقت الذي يتبجح فيه بعض دعاة مصطلح الدولة المدنية ولا يخجلون من بيان عَلمانية المدلول.
يقول أحدهم في صراحة: «الخيار بين الدولة المدنية والدولة الدينية هو خيار بين الحداثة وبين العودة للماضي: الدولة المدنية هي الدولة العَلمانية الديمقراطية الليبرالية، وهي تُعتَبَر بحق نقيضاً للتيار الرجعي السلفي، وتفضي للخلاص النهائي من النعرات الدينية والطائفية والمذهبية بحكم موقفها المحايد من كل المعتقدات.
الدولة المدنية هي التي تحد من تسخير الدين لمصلحة الحاكمين، وهي الدولة التي تسير مع ركب العالم المتمدن متخطية القيود تاركة وراءها ثقافة التمسك بالماضي والتقليد السلفي.
إن الدولة المدنية العَلمانية باختصار تهدف إلى إبعاد الدين عن السياسة » " طلال أحمد سعيد موقع الحوار المتمدن " .
وهو ما يعنـي تعـارض مدلـول الدول المدنيـة مع ما هو مقرر ثابت في شرعنا، ومن ثَمَّ فلا تصلح تلك المحاولات التي يحاولها بعض الناس من إضفاء مسحة إسلامية على هذا المصطلح وعليهم أن يقلعوا عن تلك المحاولة التي لا يستفيد الدين منها شيئاً.
المراجع
ياله من دين
التصانيف
عقيدة العلوم الاجتماعية
|