هذه أول مرة في حياتي أحس أن هناك من يهتم بي. فأتا أعرف نفسي جيدا، ولكني صرت فجأة حديث الناس، كل الناس، فما أكاد أظهر في مكان، أو أمشي في شارع، حتى تلاحقني النظرات ،وتتمتم الشفاه، ولا أكتمكم أني كنت أشعر بسعادة غامرة.
 ولكن الأمر على ما فيه من الطرافة النادرة، انتهى بي إلى كارثة، نعم كارثة حقيقية .
بدأت الحكاية مع بداية فصل الشتاء هذا، ولي مع الشتاء قصص وحكايات تشيب لهولها الولدان، ولكن لم يسمعها أحد، ولم تصل أخبارها إلى أي شخص، رغم أني كنت أحكي وأقول، وأعرض حالتي في الشوارع والأزقة الضيقة ، حيث تتقاذفني الأرجل، وتلاحقني الشتائم وعبارات الاستهزاء .
فأنا رجل وحيد فقير، لا بيت ولا مأوى ولا ما ل ولا عمل، مع أني في داخلي أحمل كل صفات الإنسان، أو الكائن الحي، ولولا أن الله عز وجل قيض لي شخصا من أهل البر والإحسان سمح لي أن آوي في قسم منفصل من زريبة أغنامه، لضج الشارع من شخيري في الليل، وشكواي في النهار.
لم أهدر ثانية من الوقت، احتضنته كعزيز غال، وهرعت به إلى النهر القريب، وفيوض من السعادة تداعب خيالي، غسلته بعناية فائقة، غسلت كل خيط فيه، وأعدت غسله سبع مرات، كي ينظف ويطهر أيضا، فما أدراني لعل شيئا من النجاسة لحقته، وهكذا منيت النفس بارتدائه عما قليل، فما هي إلا ساعات ويجف تماما، وأتيه به بين الناس دون خوف من برد أو سواه، فإنه إلى جانب الدفء الذي يمنحني إياه، يرد عني أيضا وقع الضربات والهجمات التي كنت أتعرض لها، عندما أقع بين أيدي الأطفال الصغار، فهو سميك ويتحمل ( الدعك)
كنت أنظر إليه وهو ممدد أمامي على الأرض، تحت أشعة الشمس التي لا زالت ترسل أشعته الحارقة، رغم قدوم فصل الشتاء، وأخاف أن أفقده فتتلاشى أحلامي التي أبنيها وأداعبها مع هذا المعطف، لذا كنت أجلس فوقه عندما ألمح أي شخص يقترب منا نحن الاثنين، كي لا يراه فيطمع به، ويأخذه دون أن أتمكن من الدفاع عنه .
أما عندما كنا نخلو باطمئنان فقد كانت يدي بأصابع كفي الخمسة تمسح فروه، وتلمع أزراره، وتداعب جيوبه وياقته، بينما ينطلق خيالي مهرولا ليرسم أمامي صورتي وأنا أرتديه وأسير
به بين الناس، بسعادة لا تعدلها سعادة .
 والحقيقة أن هذا المعطف الكنز رغم جور الأيام عليه كما جارت علي كانت تبدو عليه سيما النبالة والعراقة، لذلك فقد صحت توقعاتي، وصدق حدسي مرة أخرى ،فما أن ظهرت به بين الناس وأنا أتعمد أتعمد أن يظهر فروه الجميل من الداخل، حتى كانت النظرات تلاحقني، نعم لقد نجحت لحد ما في لفت أنظار الكثيرين من أهل البلدة إلي، كما كان الكثير من أصحاب المحلات الذين يعرفونني جيدا ينظرون إلي باستغراب ودهشة وهم يتهامسون ويضحكون ، وأنا أسبح في بحار النشوة والسعادة، وألحظهم بطرف عيني متباهيا بهذا المعطف وأحدث نفسي :" لايحتاج إلا إلى لمسة أناقة ليكون ملوكيا ".
 يا الله كم من أناس يخفون خبثهم ولؤمهم داخل ملابسهم الأنيقة، فينحني لهم الناس احتراما مأخوذين بما يرون لا بما يعرفون ... هكذا انطلق لساني يتمتم بهذه الكلمات دون أن أدري سببا لذلك، إلى أن سمعت الفران ( أبو جميل)ينديني بعد أن ابتعدت بضعة أمتار عن باب الفرن .
 بيني وبين ( أبو جميل ) علاقة حميمة أحرص أشد الحرص على بقائها وتطويرها ، فقد كنت آوي إلى الفرن في أشد ساعات البرد والمطر ، فأجد الدفء والراحة ، وأكثر من ذلك فإن ( أبو جميل ) لم يبخل علي يوما برغيف من الخبز الساخن وربما معه كأس من الشاي أيضا ، ولا أنكر أنه يعاملني معاملة حسنة ، ويعطف علي بصدق .
 جئت إليه ووقفت بعيدا عنه قليلا ، ليس خوفا منه ، بل لأستعرض هذا المعطف أمامه ، ولكي يتمكن من رؤيته على جسمي بشكل أفضل ، ثم حييته وأنا في غاية السعادة وكأنني أقول :انظر أليس جميلا ؟ نظر إلي يتأملني ، ثم أخرج من بيت شفتيه صفرة إعجاب وقال : فعلا القالب غالب ... من أين لك هذا يا برهوم ؟والله كأنك من أبناء الذوات !!تعال .. تعال تقدمت منه ، أجلسني على البسطة بجانبه ومد يده يتحسس المعطف ، يتفحصه من الوجه إلى القفا، أما أنا فقد كانت رائحة الخبز الشهية تفعل بي فعلها ، لذلك اغتنمتها فرصة ومددت يدي دون استئذان ، وتناولت رغيفا وباشرت بقضمه على الفور ، لقد كان يتميز يطعم مختلف هذه المرة وبنكهة جديدة لم أعهدها من قبل ، ولما لاحظ نهمي وانهماكي في الأكل ربت على كتفي ونادى على العامل : هات لبرهوم كأسا من الشاي وهو يقول : صحتين وهنا .. مطرح ما تسري تمري وأن بدوري كنت أهمهم شاكرا ، ولكني لما أمسكت كأس الشاي بيدي وبدأت أرشفها وأنا أتأمل وجه ( أبو جميل ) لمحت ظلالا في قسماته أخذت تحقن الشك في نفسي ، وتدفع بالقلق الشديد إلى أعماقي . ..
 لم يكن (أبو جميل ) هو الوحيد الذي لمعت عينا ه على المعطف ، وسا ل لعابه عليه ،بل هناك الكثيرون ، لدرجة أنهم ألفوا حكايات كثيرة وقصصا في أيام قليلة حول هذا المعطف ، وكنت أزداد انتفاشا وإعجابا وسعادة وأنا داخل هذا المعطف الأسطورة .. وأذكر أن الخياط ( أبو عدنان )أخذ يغريني بكلام معسول ، كي أخلع المعطف بحجة أنه سيصلحه ، ويرفو أزراره ، ويكويه خدمة لي ، وأنا أزداد تمسكا به وعنادا ، بل كنت أنكمش فيه ، وأحاول أن أدخل بين خيوطه .
 لقد ذاع صيت معطفي هذا ، وذاع صيتي معه ،حتى أن النساء في اجتماعاتهن كن يتحدثن عني وعن تاريخ حياتي من خلال الحديث عن المعطف الذي أرتديه ، وربما يقلن لأطفالهن عندما يأوون إلى فراشهم أني لص سارق ، ويحذرونهم مني لا أدري !!.
وفي ضحى أحد الأيام وبينما كنت أتيه بمعطفي هذا بين الدكاكين ، وتحت مظلاتها أحتمي من المطر ، فاجأني ثلاثة شبان بإحدى الأركان المنزوية ، وبدأؤا معي تحقيقا بذيئا مخزيا جعلني استنفر كل خلية من خلايا جسمي استعدادا للدفاع عن معطفي المستهدف وعن كرامتي . وما أن سنحت لي الفرصة حتى وجدتني مثل عفريت انفلت من قمقم وأنا ألوح بذراعي ، وأرفس بقدمي ، وأضرب الشبان الثلاثة بكل ما أوتيت من قوة ، وبكل ما تقع عليه يدي ( علبة ... صفيحة ... حجارة ) ولما انجلت المعركة ، وهدأت الحركة ، كنت أقف منتفشا مثل ديك أعلن انتصاري وأنا أقول : " أوباش ... أوباش " تريدون المعطف هاه !!؟
 لقد هرب منهم اثنان أما الثا لث فقد كان طريحا على الأرض ، فاقد الوعي ، مضرجا بدمائه النازفة ، ولكني لم أكترث...
ولأني لم أكترث ، فقد انتهى بي الأمر إلى هذا الوضع!!في هذا المكان ( النظارة) وكم تمنيت من كل قلبي لو أن الفران ( أبو جميل ) يأتي كي ينقذني مما أنا فيه ، ولو استولى على المعطف المشئوم ثمنا لذلك ، ولكن أحدا لم يسأل عني ، رغم مرور أربعة أيام علي وأنا مرمي فوق بلاط غرفة باردة اسمها ( النظارة ) . كنت أعتقد أني هنا لأني أجريت دم إنسان ، وآذيته أشد الأذى وأنا في غمرة الدفاع عن نفسي وعن هذا المعطف ، ولكني اكتشفت أن سبب وجودي في ( نظارة السجن ) هو المعطف الذي منحني يوما السعادة والإحساس بالحياة حيث وجهت إلي تهمة سرقته ...
بقي سؤال أخير كنت أطرحه على نفسي باستمرار دون أن أحظى بجواب شاف ، هو : هل كنت في هذا الوضع لو لم أكن فقيرا معدما ، لأأهل .. ولا أخوة ... ولا أقرباء ... ولا عشيرة ...؟
 وبعد فشلي في الإجابة قررت أن أتنازل عن هذا المعطف لأحد رجال الأمن لقاء حريتي ، لأني عاجز تماما في الدفاع عن حقي في ارتدائه والاستفادة منه ، في مجتمع تضيع فيه أبسط الحقوق .

المراجع

odabasham.net

التصانيف

ادب  قصص  مجتمع   قصة