محمد بن عبد الله البقمي

 
إنّ المتأمّل للحراك الثقافي ، والثورة المعلوماتية الحديثة ، والتغيرات الحضارية المتسارعة التي تشهدها ساحتنا المجتمعية ؛ ليكاد يموت قلبه غيظاً وكمداً من هول ما يرى من تلك الفتن التي قد أخذ بعضها بخطام بعض "يرقّق بعضها بعضاً" (كما جاء بذلك الوصف في الحديث) .
 
هذا الأمر إلى غيره ، مما يطول المقام عند سرده ، وتحبير السواد على البياض لبيانه ، وإيضاح كنهه ؛ ليضع دعاة الهدى ، وحملة الرسالة الحقّة أمام مسؤوليّاتهم العظيمة ، ويحمّلهم أمانتهم التي حمّلهم إيّاها ربّ العالمين: {لتبيننّه للنّاس ولا تكتمونه} .. فذا ميثاق ربّنا الذي اسوثقه من ورّاث الأنبياء ، وخُزّان علم الشريعة ..
 
ولهذا الحقّ تجبُ حقوقٌ لا تغيب عن المدرك الحصيف ، إلا إنّني أجد نفسي مضطراً للتّذكير بأهمّها في زماننا - في تقديري الخاصّ - ؛ حيث غاب القدوة إلا من نفرٍ قليل قد هُضم حقّه في زمن "ثورة الإعلام" ، بحسن ديانة ونيّة ، أو خبث سريرةٍ وطويّة ..
ذلكم الحقّ العظيم: هو الاعتزاز بالمنهج الحقّ ، والفخر بالانتساب إلى قافلة دعاة الخلق ، وما يستلزمه هذا الاعتزاز من " الصدع بالحقّ " بلا مواربة ، وبيان المحجّة الواضحة للنّاس ، وترك السكوت عمّا عمّ وطمّ من المنكرات ، أو شاع وذاع من المخالفات ..
 
فلقد أوشك بعضٌ من حملة علم الشريعة أن يكونوا كساسةٍ لا منهج لهم ، يلقون خطباً فارغة ، أو محاضراتٍ باردة ، لا لون ولا طعم ولا رائحة لها ، في هذا الزّمان الممتلئ بالفتن ، متلاطم الإحن ..
يلقي الواحد منهم حديثاً في مسجدٍ أو مؤتمر ، أو عبر صحيفة أو قناة أو إذاعة ، فلا يكاد يعرف معروفاً أو ينكر منكراً ؛ سوى تلك التي تلتقي فيها أمم الأرض من المشتركات الفكرية والقيميّة – زعموا - .. حتى لكأنّك تستمع لخطاب دبلوماسيّ ، أو حديثٍ سياسي لقنصل الواق واق في جزر الماو ماو
 
إنّ الله تعالى أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وحفظ الشريعة ، وأبقى للأنبياء في أمّتنا ورّاثاً يحملون العلم ، وينيرون الدجى ، ويوضّحون معالم الحق ، ويزيلون عن الطريق بنيّاتها .. فلا يسوغ لأولئك التضعضع لأهل الباطل ، والاستضعاف لأهل الدّنيا ، فإنّ أهل العلم وطلاّبه هم أعرف الناس بزوالها ، وأصرف الخلق للطمع عمّا فيها من الزخارف والشخوص.
 
يقول المناوي رحمه الله حول هذا المعنى (فيض القدير 290/4) : " ... فعلى العالم تناول ما يحتاجه من الدنيا على الوجه المعتدل من القناعة لا الطمع ، وأقل درجاته ؛ أن يستقذر التعلق بالدنيا ، ولا يبالي بفوتها ؛ فإنه أعلم الناس بخستها ، وسرعة زوالها ، وحقارتها ، وكثرة عنائها ، وقلة غنائها ".
 
ما عنيتُ إيراده هُنا .. هو تقرير ذا المعنى في نفوس طليعة الأمّة ، وروّاد نهضتها ، وجيل الشببة الصاعدين فيها ، فلقد تربّى فئامٌ من الأجيال على مناهج الذلّ والخنوع ، الذي طعّمه بعض الأشياخ بمنهج الإسلام ، والحكمة في الدعوة ، والتزام اليسر والرفق في الخطاب .. فلكأنّهم دعاة السلام الموهوم ( تبع عصبة الأمم المفترقة ! ) .. فاللالتزام بالعقيدة فكراً ومنهجاً وسلوكاً ؛ يستوجب البراءة والمفاصلة ، وتحقيق المعنى الخالص من الشوائب لعقيدة الولاء والبراء ، وتطبيقها العمليّ ، ولا يكون ذا قبل اعتزاز القلب وقناعته بما يحمله من عقيدة ، أو ينطوي عليه من أفكار ..
 
إنّني لا أدعو هنا إلى ثوريّة ، أو حزبية ، أو تنظيم ، إنّما أدعو إلى امتثال الأمر الإلهي العظيم لنبينا الكريم : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } .. وإلى الأمر الآخر الذي كرّره ربّنا – تعالى – على نبيّه في كتابه الكريم ، تأكيداً لعظم مكانته ، وبياناً لأهميّة منزلته ، وتقريراً لعظم موقعه وحاجة الناس إليه ، فقال – جلّ من قائل - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ..
 
قد يرى نفرٌ ممّن يقرأ ذي السطور أنّ كاتبها قد أبعد النّجعة ، وذهب بعيداً عن واقعنا المعاصر ، وتناسى حوادث الأزمان الماضية والحاضرة القريبة ، فيما واجهه علماؤنا المحتسبون ، من أصحاب الصدع بالحق ، وبيان الدين للناس ، مراعين بذلك " منهج السلامة " محتاطين بـ" زمام الأمن والدعة " .. وكما قال بعض الأدعياء " لم التشغيب ونحن في خيرٍ من ديننا ودنيانا ؟ " .. فأقول :
 
إنّ سلامة المنهج ، وسبيل الاحتساب على الباطل المعاصر ، واستبانة سبيل المجرمين ، وفضج جهود التغريب ، ومؤامرات التخريب التي تراد لبلادنا ، ليست درباً مفروشةً بالورد ، ولا محاطةً بالزهور ، بل تكتنفها الأشواك ، ويؤذي سالكها نوائب الدهر ، وصروف الزمان ، وتسلّط الطّغاة ، وجور السياسيّ ، وسلطته الرابعة ..
 
ألم نتأمّل قول الباري – جلّ في علاه – في محكم آي الكتاب : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } ؛ قال شيخ المفسّرين الطبري – رحمه الله – في ( تفسيره 142/20) : [واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يصدّنك عن ذلك ما نالك منهم (إنَّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) يقول: إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزماً منه] .
 
إنّ ما يجدر التنبيه عليه قبل ختم المقال : هو أنّ الوصيّة بهذا الخلق ، وغرس هذا المعنى في النفوس ، يتقرّر ويتأكّد عندما نرى تلكم الغضبات المضريّة ، والثورات العمريّة من قبل أدعياء الفساد ، ودعاة التخريب والتغريب في البلد ؛ عندما تمسّ قيمهم ، أو تهدر كرامتهم ، أو يدعى لتأديبهم وزجرهم ، وقطع شرور إفسادهم عن الناس.
وخروج الفقهاء الجدد ، من حملة الدالات ومناصب الولايات الشرعية ، الذين جاؤوا للناس بما لا يعرفون في دينهم ، وخالفوا نهج أشياخهم من بقايا السلف ، وحملة الرسالة الناصعة – رحم الله الميت وأمتّع بالحيّ - .
 
وبين تشدّق هؤلاء ، واعتزاز أولئك واشمخرارهم ، وخنوع دعاتنا ولبوسهم رداءات الذلّ والتضعضع .. يا تُرى أين سيكون مصير قضايا الأمّة ؟
وما الذي نحنُ مقبلون عليه؟.
أفيقوا يا بني قومي .. فالمكيدة خطيرة ، والأمانة عظيمة ، والموقف صعب ، والموعد الله .. وهو المستعان على ما يصفون وإليه المشتكى والمآب ..

المراجع

ياله من دين

التصانيف

عقيدة   العلوم الاجتماعية