\" قال علي – رضي الله عنه - : حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله \" .
المشاهد لما يدور في الساحة الفكرية يرى أربع تيارات تشكّل المجتمع , تيارين متصارعين ظاهراً وباطناً وتيار منتمٍ ظاهراً لفئة وباطناً لفئة أخرى وتيار لا يدري القاتل فيما قـَتل ولا المقتول فيما قـُتل وهم :
• تيار ينطلقون من مستند ويركنون إلى ركن , يقبلون ما قبل , ويردون ما رد , وما سكت َ عنه , إن بحثوه ردوه إلى أصله , وإن تركوه فهو في عداد المسكوت عنه , فلا يثربون على فاعله , ولا يرفعون تاركه , وهؤلاء ذكرهم التاريخ وسطرهم مع الأعلام النبلاء .
• وتيار أُعطي الإعلام والقلم , لا مستند يستندون إليه , ولا عقل يركنون إليه , إن قال الغرب قالوا , وإن سكتَ سكتوا , وإن أنكرَ أنكروا , وإن أشادَ أشادوا , وهم قلة قليلة كثرهم الإعلام , وهؤلاء إن ذكرهم التاريخ فيذكرهم مع أصحاب الفتن والضلالات .
وهؤلاء الصراع بينهم على أشده على مر التاريخ .
• وفئة ظاهرهم إلى الأولى أقرب وميلهم إلى الثانية أظهر , فهم تبع لتبع , وهم الحماة لمتبوعيهم بسلاح من يعتبرونهم أعداء , إن أشتد الخناق على من يتبعون جاءوا بما يحاولون به توسيع مجرى الهواء مما يعتمده من ينتسبون لهم في الظاهر , وإن تكالب من يتبعون على بني جلدتهم , خنسوا وسكتوا إن لم يقوموا معهم , وهؤلاء لا يخلوا تاريخ من ذكرهم ولكن باللعنة .
• وفئة رابعة وهم العامة والرعاع يميلون مع هؤلاء مرة ومع أولئك مرة , وهؤلاء لم يذكرهم التاريخ ولم يسطر لهم شيئا فلا حاجة لذكرهم ولكن لتوثيق حال المجتمعات .
بعد هذه المقدمة أريد أن أدلف إلى أمر شرعي بحت لا كلام لأحد فيه إلا بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم , وتـُرمى فيه ( أرأيت في اليمن ) كما قال ابن عمر – رضي الله عنه – .
مسألة لاكها الصغير والكبير , العالم والجاهل , طالب الحق والمبطل .
حتى جعلها بعض المفتونين أنها قول أهل السنة كلهم ولا يخالف فيها أحد ليضرب أهل السنة بأهل السنة
وهي مسألة إرضاع الكبير وهل تثبت به المحرمية أم لا ؟؟؟
وسأجعل الكلام هنا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وللسادة العلماء , وسأختصر إختصاراً أسأل الله أن لا يكون مخلا , وإلا بسطه يحتاج إلى كراريس وكراريس .
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال مدارها على حديث عائشة – رضي الله عنها - قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم , فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- « أرضعيه » , قالت وكيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال « قد علمت أنه رجل كبير » .
أخرجه مسلم 4/168 .
فالأقوال :
• أن رضاع الكبير لا ينشر المحرمية مطلقا .
• أن رضاع الكبير ينشر المحرمية مطلقا .
• التفصيل فمن كان حاله كحال سالم نشر المحرمية وإلا فلا .
وإليكم أدلة أصحاب القول الأول :
قال الله تعالى \" وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ \" الآية
قال ابن كثير – رحمه الله - :\" هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ..\"
تفسير ابن كثير 1/350 .
وقال ابن بطال – رحمه الله - :\" فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان ، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع ، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين \" .
شرح صحيح البخاري 7/197 .
وفي الآية دليل ( مفهوم ) على أن ما بعد الحولين ليس برضاعة وشاهده في قوله تعالى \" لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ \" والتمام ليس بعده شيء , وأنظر إلى لفظ التمام فهو لم يرد في القرآن على أن له بقية .
قال تعالى \" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا \" وقوله تعالى \" ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ... \" وقوله تعالى \" فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ... \" وقوله تعالى \" وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... \" وغيرها من الآيات .
ومن السنة أحاديث كثيرة نقتصر على ما صح سنده
* عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قال يا عائشة من هذا قلت أخي من الرضاعة قال :\" يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة \"
أخرجه البخاري 6/554 .
* وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :\" لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام \"
اخرجه الترمذي 3/458 ثم قال حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا .
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة وقلن لعائشة : والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا . أخرجه مسلم 2/1078 .
وأما القول الثاني فمداره على عموم حديث عائشة – رضي الله عنها – ولا دليل لهم غيره وسيأتي رده في الرد على القول الثالث .
وأما القول الثالث فجعلوا أدلة القول الأول مستند لهم , وحديث عائشة – رضي الله عنها – واقع على من كان حاله كحال سالم مولى أبي حذيفة – رضي الله عنهما - .
وقد أجاب عن كلا القولين الأخيرين ( القول بأن رضاع الكبير ينشر المحرمية مطلقاً والقول بالتفصيل ) كثير من الأئمة الأعلام .
وسأختصر في النقول هنا على المنصوص صريحا دون تتبع لأقوالهم – رحمهم الله – وقد وقعت على أكثر من 100 نقل في هذه المسألة .
قال القرطبي - رحمه الله - :\" حكى الوليد بن مسلم عن مالك – رحمه الله - أنه قال : ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين ، وما كان بعد ذلك فهو عبث .
ثم ساق – رحمه الله – الأقوال ثم قال : وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم ، وهو قول عائشة رضي الله عنها ، وروي عن أبي موسى الأشعري ، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك \"
ثم قال قلت : وهذا الخبر مع الآية والمعنى ، ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له .
تفسير القرطبي 3/163 .
وقال ابن بطال – رحمه الله - :\" اتفق أئمة الأمصار على أن رضاع الكبير لا يحرم ، وشذ الليث وأهل الظاهر عن الجماعة ، وقالوا : إنه يحرم ، وذهبوا إلى قول عائشة في رضاعة سالم مولى أبي حذيفة ، وحجة الجماعة قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) [البقرة : 233] ، فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان ، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع ، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين \"
شرح صحيح البخاري 7/197 .
وقال ابن العراقي – رحمه الله - :\" أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه خاص بسالم ، وامرأة أبي حذيفة كما اقتضاه كلام أمهات المؤمنين سوى عائشة رضي الله عنهن ، وروى الشافعي رحمه الله عن أم سلمة أنها قالت في الحديث \" كان رخصة لسالم خاصة \" قال الشافعي \" فأخذنا به يقينا لا ظنا \" حكاه عنه البيهقي في المعرفة ، وقال ما معناه إنما قال هذا لأن الذي في غير هذه الرواية أن أمهات المؤمنين قلن ذلك بالظن ، ورواه ( أي الشافعي ) عن أم سلمة بالقطع .
\" وقال ابن المنذر ليست تخلو قصة سالم من أن تكون منسوخة أو خاصة لسالم \"
\" وحكى الخطابي عن عامة أهل العلم أنهم حملوا الأمر في ذلك على أحد وجهين إما على الخصوص ، وإما على النسخ \"
طرح التثريب 7/346 .
وقال العيني – رحمه الله - :\" وعند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن لا تثبت إلا برضاع من له دون سنتين .... وأجابوا عن حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم وقيل إنه منسوخ والله أعلم \"
عمدة القاري 9/218 .
وقال ابن حجر – رحمه الله - :\" ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة ، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة ، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة ، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة ، وهذا فيه نظر لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية ويثبت مذهب المخالف ، لكن يفيد الاحتجاج \"
فتح الباري 14/346 .
وقال في موضع آخر يقول :\" وادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير \"
فتح الباري 4/69 .
ونقل صاحب العناية اتفاق الصحابة على عدم محرمية رضاع الكبير , غير ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها .
العناية شرح الهداية 5/134 .
قال صاحب بدائع الصنائع :\" وأما عمل عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها ما يدل على رجوعها فإنه روي عنها أنها قالت :\" لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم \" وروي أنها كانت تأمر بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا على أن عملها معارض بعمل سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن كن لا يرين أن يدخل ( يُدخلن ) عليهن بتلك الرضاعة أحد من الرجال والمعارض لا يكون حجة وإذا ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم ورضاع الصغير يحرم .
بدائع الصنائع 4/6 .
وقال الزيلعي – رحمه الله - :\" ولنا أن إرضاع الكبير منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام \"
تبيين الحقائق 2/182 .
وقال ابن رشد – رحمه الله - :\" واختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء : لا يحرم رضاع الكبير ، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم ، وهو مذهب عائشة ، ومذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام \"
بداية المجتهد 2/30 .
وقال الوزير ابن هبيرة – رحمه الله - :\" واتفقوا على أن رضاع الكبير غير محرم \" .
اختلاف الأئمة العلماء 2/204 .
وقال الطاهر بن عاشور – رحمه الله - :
\" والأصحّ هو القول الأوّل ( أي في العامين ) ؛ ولا اعتداد برضاع فيما فوق ذلك ، وما روي أنّ النبي أمر سَهْلَة بنتَ سُهيل زوجةَ أبي حُذيفة أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة لمّا نزلت آية { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [الأحزاب : 4] إذ كان يدخل عليها كما يدخل الأبناء على أمّهاتهم ، فتلك خصوصيّة لها ، وكانت عائشة أمّ المؤمنين إذا أرادت أن يدخل عليها أحد الحجابَ أرضعتْه ، تأوّلت ذلك من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لِسَهْلة زوج أبي حذيفة ، وهو رأي لم يوافقها عليه أمّهات المؤمنين ، وأبَيْن أن يدخل أحد عليهنّ بذلك ، وقال به الليث بن سعد ، بإعمال رضاع الكبير . وقد رجع عنه أبو موسى الأشعري بعد أن أفتى به .
التحرير والتنوير3/451 .
وقال ابن إبراهيم – رحمه الله - :\" وأما رضاع الكبير الذي قد تجاوز الحولين فلا يؤثر ولا ينشر الحرمة ، وهذا هو قول الجماهير من الصحابة والتابعين والفقهاء ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وهو الصواب \"
فتاوى ابن إبراهيم 11/154 .
ونقل ابن عبد البر – رحمه الله - : \" أنَّ هذا القول ( أي عدم إنتشار الحرمة برضاع الكبير ) هو مذهب جماعة فقهاء الأمصار ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، والطبري . وقال به من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وابن عباس ، وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة ، وجمهور التابعين \"
التمهيد 3/616 .
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله - :\" والرضاع إذا حرم لكونه ينبت اللحم وينشر العظم فيصير نباته به كنباته من الأبوين وإنما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ولهذا لم يحرم رضاع الكبير لأنه بمنزلة الطعام والشراب ... \" الفتاوى 3/167 .
وهو أحد القولين له وإن كان القول بالتفصيل هو الأرجح فقد نقله عنه أئمة أعلام كابن القيم والشوكاني وغيرهم – رحمهم الله - .
المرجحات والقرائن على أن رضاع الكبير لا تنتشر به المحرمية غير ما سبق ذكره من النصوص والنقول :
المرجحات :
• أن راوية الحديث وهي عائشة – رضي الله عنها – هي التي روت لنا حديث \" إنما الرضاعة من المجاعة \" والقاعدة الأصولية تقول :
( العبرة بما روى الراوي لا بما رأى ) .
• أن عمل الصحابة جميعهم على خلاف عمل عائشة – رضي الله عن الجميع – كما نقل البابرتي – صاحب كتاب العناية – ولا يتفق في سُنةٍ أن لا يعمل بها أحد من الصحابة سوى واحد فقط مع بلوغها لهم ( وفرق هنا بين الرواية والعمل ) .
• أن الخلاف عند أهل العلم قائم على عمل الصحابي الذي لم يوجد له مخالف من الصحابة هل يعتبر حجة أم لا ؟ فما بالك بعمل لم ينقل عن أحدهم العمل به سوى عائشة – رضي الله عن الجميع – بل نقل مخالفتهم له , مع ورود الدليل وعلمهم به , كما هو الحال مع أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن - .
• أن القول بالإطلاق ينسبه القائلون به إلى حديث عائشة – رضي الله عنها – والقائلون بالتفصيل ينسبونه لحديث عائشة أيضا , فهنا يقع اضطراب في المآخذ والقاعدة الأصولية تقول
\" إذا طرق الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال \" .
ولعلي أكتفي بهذه المرجحات أما القرائن على أن رضاع الكبير خاص بسالم مولى أبي حذيفة – رضي الله عنهما - :
القرائن
• أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا لسهلة زوجة أبي حذيفة , ولم يقله لغيرهم مع أن أسامة بن زيد – رضي الله عنه وعن أبيه – هو أبن زيد بن حارثة والذي ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يدخل عليه في كل وقت وكان بالمنزلة العظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان حِبه وأبن حِبه , ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة , وأوضح من ذلك أنس بن مالك – رضي الله عنه – خادمه الذي يخدمه في بيته ويطلع على بعض الأمور التي لا يطلع عليها غيره كحال الخادم مع مخدومه ولم يثبت هذا في حقه .
• أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة امرأة أبي حذيفة في إرضاع سالم كان بينه وبينها ولم يكن مشهورا حتى بلغته عائشة – رضي الله عن الجميع – ولو كان عاماً لكان إنتشاره أظهر من هذا.
• يحتج بعضهم بأنه لو كان خاصاً بسالم لكان في لفظ الحديث ما يدل على أنه خاص كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بن نيار – رضي الله عنه – في التضحية بالعناق \" نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك \" , فذكر هنا أنها خاصة به دون غيره وفي حديث سهلة لم يذكر هذا , والرد على هذا أن قول النبي صلى عليه وسلم لأبي بردة كان من على المنبر كما في الصحيحين وهذا أمر عام ولو لم يبين أنه خاص بأبي بردة لبقي العموم على عمومه , أما حديث رضاع سالم فكان خاصاً بينه صلى الله عليه وسلم وبين سهلة ويبقى الخصوص على خصوصه .
• يستدل أصحاب القول بالتفصيل بجواز الإرضاع في حال المشقة كحال سالم وسهلة – رضي الله عنهما – وهذا التخصيص يحتاج إلى دليل والحال ليس دليلا يحتج به , وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان فيه مشقة ربما تزيد على المشقة الواقعة على سهلة وسالم ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم \" إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال الحمو الموت \" . مع أن بعض أخوة الزوج من ليس لديه مسكن إلا مع أخيه , ومعلوم حال الصحابة في ذلك الوقت , وقلة ذات أيديهم , وصغر بيوتهم وحاجة أخو الزوج للدخول بيت أخيه في غيابه ظاهرة , فلو كان رضاع الكبير جائزاً بإطلاق أو حتى جائزاً بوجود المشقة , لرخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولم يكن من هذا شيء .
( والقرينة الأخيرة أفدتها من كلام الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - ) .
وفيما سبق من الأدلة والنقول والقرائن والمرجحات يترجح القول بعدم جواز رضاع الكبير وأن واقعة سالم مولى أبي حذيفة ( واقعة عين ) وهي خاصة به – رضي الله عن أصحاب رسول الله - .
ذكر حافظ حكمي – رحمه الله –
من أوجه ترجيح الأقوال أن تتعارض الأقوال فقال :\" ومن ذلك كون الراوي لأحدهما قد روى عنه خلافه فيتعارض روايتاه ويبقى الآخر سليماً عن المعارضة : كحديث أم سلمة : \" لا يحرم من الرضاع غلاما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام\" مع حديث عائشة في \"الصحيحين\" : \"أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم محتجة بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي ( امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً وكان يدخل عليها بتلك الرضاعة\" فتعارض الحديثان لكن ثبت عن عائشة في \"الصحيحين\" أن رسول الله ( قال لها : \"انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة\" فتعارض روايتا عائشة وبقى حديث أم سلمة سليماً من المعارضة فرجح ، وهذا هو مذهب الجمهور وهم الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة والأكابر من الصحابة وسائر أزواج النبي ( سوى عائشة رضي الله عنهن ورأوا حديث سالم المتقدم من الخصائص ومن ذلك تقديم الخاص على العام ، والمطلق على المقيد ، والمنطوق على المفهوم ، وغير ذلك .
دليل أرباب الفلاح 41 .
وختاما من هذه النقول نخلص إلى أن
القائلين بالجواز هم :
عائشة – رضي الله عنها - .
وروي عن عروة بن الزبير
الليث بن سعد
ابن حزم
داود الظاهري .
القائلين بالتفصيل هم :
شيخ الإسلام
ابن القيم
الشوكاني
الصنعاني
محمد صديق حسن خان
عبد الرحمن بن قاسم
الألباني
وبعض المعاصرين .
القائلين بالمنع مطلقا :
عمر بن الخطاب
علي بن أبي طالب
أبو هريرة
عبد الله بن عباس
عبد الله بن مسعود
عبد الله بن عمر
أبو موسى الأشعري
أمهات المؤمنين سوى عائشة
( ونـُقل إتفاق الصحابة على ذلك كما تقدم )
أبو حنيفة
مالك بن أنس
الشافعي
أحمد بن حنبل
الترمذي
الأوزاعي
سفيان الثوري
ابن أبي ليلى
إسحاق بن راهويه
أبو ثور
أبو عبيد
الطبري
القرطبي
البيهقي
ابن المنذر
الخطابي
ابن العراقي
الكاساني
الزيلعي
ابن رشد
ابن كثير
ابن الصباغ
ابن هبيرة
البابرتي
العيني
ابن حجر
ابن بطال
شيخ الإسلام على قول
ابن عاشور
ابن إبراهيم
حافظ حكمي
ابن باز
ابن عثيمين
( وهو قول الجماهير من التابعين والمعمول به في الأمصار الإسلامية في عهد السلف بدون مخالف في العمل )
( \" رحم الله الجميع ورضي عنهم وأسكنهم فسيح جنانه \" )
ومما تقدم يظهر أن القول الراجح ما رجحه أعلام السنة ومشاعل الهداية في كل عصر ومصر , أن رضاع الكبير لا تثبت به محرمية مطلقاً وأن واقعة سالم – رضي الله عنه – واقعة عين خاصة به دون سواه .
والله تعالى أعلم وأحكم .
موسى الغنامي
(2)
بحث عن :
رضـاع الـكـبـير
وبيان الخلاف وأسبابه في المسألة
جمع وتقديم الفقير إلى الله
عبد الملك بن حسن السني
مقدمة :
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين ، إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .. أما بعد :
انتشرت في الآونة الأخيرة بعد الفتاوى الشاذة من بعض طلبة العلم هداهم الله والمشكلة أن بعض المسائل الخلافية والأقوال الشاذة تحدث بلبلة بين عامة الناس فليس كل شيء يستطيع أن يفهمه عامة الناس لذلك أحببت أن أجمع لكم أقوال السلف حول ما انتشر من مسألة رضاع الكبير وقد اقتصرت على قول العلماء في المسألة فأقول وبلله التوفيق :
انقسمت الارآء في مسألة رضاع الكبير إلى ثلاث أقوال :
1- منهم من رأي أن الأمر كان خاص بسهلة فقط (أم سالم من الرضاعة) وهذا رأي سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول جمهور العلماء وهو الراجح .
2- منهم من رأي إن الأمر كان لمن كان له مثل حالها وبهذا القول يقول بعض العلماء .
3- منهم من رأي أن الأمر مطلق (إلى هذا ذهبت ام المؤمنين عائشة) وهو قول ضعيف.
أولاً : قصة سالم مولى أبي حذيفة :
وبيان القصة أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالماً وزوجه وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله {ادعوهم لآبائهم} كان من له أب معروف نسب إلى أبيه ومن لا أب له معروف كان مولى وأخاً في الدين؛ فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ما نصه الحديث في الكتاب ، وقد اختلف السلف في هذا الحكم فذهبت عائشة رضي الله عنها إلى ثبوت حكم التحريم وإن كان الراضع بالغاً عاقلاً.
فالذي حدث أن زوجة ابي حذيفة ربت إبنا من يوم أن كان صغيرا أو ربما رضيعا و عاش معها في الجاهلية سنين طويلة بصفته ابنها بالتبني فهو ينظر إليها على أنها أمه الحقيقية و هي تنظر إليه على أنه إبنها و لما جاء الاسلام و أبطل التبني كان أبو حذيفة و زوجته من المسلمين الصادقين الوقافين عند حكم الله فأبطلوا التبني فأصبح بذلك سالم ابنهم غريب فاستفتت الزوجة رسول الله فقال لها أرضعيه فاستغربت كيف ترضعه و هو رجل بل و عقبت وقالت انه له لحية والاستغراب منها هنا مرده إلى فائدة الرضاعة لرجل كبير فقال لها رسول الله قد علمت أن رجل كبير و العجب ان اباحذيفة كان يكره دخول سالم على إمرأته قبل الرضاعة واصبح بعدها في غاية الارتياح والاطمئنان ؟ فكيف يحدث هذا لو كان هنا ولو مقدار ضئيل من الريبة او الشك في هذه القضية فسالم ابنه وزوجته أمه و من يتصور أن علاقة سيئة يمكن أن تنشأ بين أم وابن إلا من كان شاذا مريضا .
ثانياً : مذهب جمهور الصحابة والسلف والعلماء :
مذهب جمهور الصحابة والعلماء أنه لا تحل رضاعة الكبير الآن و الدليل انها لا تحل بعد الحولين ما قاله : علي ابن ابي طالب وابن عباس وابن مسعود وجابر وابن عمر وابي هريرة وام سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والشافعي ومالك ( رغم انه اخرج الحديث في الموطأ ) احمد بن حنبل واسحاق وسفيان الثوري اما ابو حنيفة فخالف و رده تلامذته ( ابو يوسف و محمد ) و علي رأي ابو يوسف و محمد الذي هو التحريم يدور مذهب الاحناف .
قال أبو بكر: قد كان بين السلف اختلاف في رضاعة الكبير، فروي عن عائشة أنها كانت ترى رضاع الكبير موجبا للتحريم كرضاع الصغير، وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة: أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك} وكانت عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها رجل أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه خمس رضعات ثم يدخل عليها بعد ذلك; وأبى سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقلن: لعل هذه كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. وقد روي {أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة} . فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما خص أبا زياد بن دينار بالجذعة في الأضحية وأخبر أنها لا تجزي عن أحد بعده. فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغر وهي الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفي في غذائه به. وقد روي عن أبي موسى أنه كان يرى رضاع الكبير; وروي عنه ما يدل على رجوعه ، وهو ما روى أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة، فوضعت فتورم ثديها، فجعل يمجه ويصبه، فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال: (بانت منك) فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل، فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري فقال: (أرضيعا ترى هذا الأشمط إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم) فقال الأشعري: (لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم); وهذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول إلى قول ابن مسعود; إذ لولا ذلك لم يقل (لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم) وكان باقيا على مخالفته وأن ما أفتى به حق. وقد روي عن علي وابن عباس وعبد الله وأم سلمة وجابر بن عبد الله وابن عمر (أن رضاع الكبير لا يحرم) ولا نعلم أحدا من الفقهاء قال برضاع الكبير إلا شيء يروى عن الليث بن سعد يرويه عنه أبو صالح (أن رضاع الكبير يحرم) وهو قول شاذ; لأنه قد روي عن عائشة ما يدل على أنه لا يحرم، وهو ما روى الحجاج عن الحكم عن أبي الشعثاء عن عائشة قالت: (يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم) وقد روى حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي قدمناه: {إنما الرضاعة من المجاعة} ، وفي حديث آخر: {ما أنبت اللحم وأنشز العظم} وهذا ينفي كون الرضاع في الكبير. وقد روي حديث عائشة الذي قدمناه في رضاع الكبير على وجه آخر، وهو ما روى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة كانت تأمر بنت عبد الرحمن بن أبي بكر أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا. فإذا ثبت شذوذ قول من أوجب رضاع الكبير، فحصل الاتفاق على أن رضاع الكبير غير محرم وبالله التوفيق ، وقد ثبت عندنا وعند الشافعي نسخ رضاع الكبير (المصدر : أحكام القرآن للجصاص) .
عن أُمَّ سَلَمَةَ زوجَ النبيِّ كانتْ تقولُ : أَبَى سائرُ أَزْوَاجِ النبيِّ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أحداً بتلكَ الرَّضَاعَةِ، وقلنَ لعائشةَ: والله مَا نَرَى هَذَا إلاَّ رخصةً أَرْخَصَهَا رسولُ الله لسالمٍ خاصةً، فما هو بداخلٍ عَلَيْنَا أحدٌ بهَذِهِ الرَّضَاعَةِ ولا رَائِيْنَا. أخرجه مسلم في الصحيح هَكَذَا.
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله : وإذَا كانَ هَذَا لسالمٍ خاصةً، فالخاصُّ لا يكونُ إلاَّ مُخْرَجاً مِنْ حُكْمُ العامةِ، ولا يجوزُ إلاَّ أَنْ يكونَ رَضَاعُ الكبيرِ لا يُحَرِّمُ (المصدر : سنن البيهقي) .
وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر وإنما اختلفوا في تحديد الصغر فالجمهور قالوا: مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم ولا يحرم ما كان بعدهما مستدلين بقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (المصدر : سبل السلام)
قال ابن القيم : والأكثرون حملوا الحديث إما على الخصوص وإما على النسخ، واستدلوا على النسخ بأن قصة سالم كانت في أول الهجرة، لأنها هاجرت عقب نزول الاَية ، والاَية نزلت في أوائل الهجرة. وأما أحاديث الحكم بأن التحريم يختص بالصغر. فرواها من تأخر إسلامهم من الصحابة نحو أبي هريرة وابن عباس وغيرهم فتكون أولى(تهذيب سنن أبي داود)
وفي الموطأ أن أبا موسى أفتى بجواز رضاع الكبير، فرد ذلك عليه ابن مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني، ما دام هذا الحبر بين أظهركم (المصدر : التمهيد لإبن عبد البر) .
وَقَوْلُ أَبِي مُوسَى لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِ مَا مُصَّ مِنْ ثَدْيِ امْرَأَتِهِ مِنْ اللَّبَنِ مَا أَرَاهَا إلا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْك لَعَلَّهُ مِمَّنْ رَأَى فِي ذَلِكَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ , وَقَدْ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى خِلافِهِ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ رُجُوعِ أَبِي مُوسَى عَنْهُ. وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه اُنْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ عَلَى وَجْهِ الإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَإِبْدَاءِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ فِيهِ عِلْمٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ {الرَّضَاعَةَ مِنْ الْمَجَاعَةِ} أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ مُصِيبًا , وَلَوْ اعْتَقَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ مُخَالِفَهُ مُصِيبٌ لَمَا سَاغَ لَهُ الإِنْكَارُ عَلَيْهِ (المصدر : المنتقى شرح الموطأ)
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال : ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : سألت عبد الرحمن بن مهدي ، عن رضاع الكبير فقال : سمعت مالكا يحدث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : « لا رضاعة إلا لصغير ، ولا رضاعة لكبير » (المصدر : معرفة علوم الحديث) .
وروي عن النبـي أنه قال: «الرَّضاعُ مَا أنبتَ اللحمُ وأنشرَ العظم» ، وذلك هو رضاع الصغير دون الكبير، لأن ارضاعه لا ينبت اللحم ولا ينشر العظم ، وروي عنه أنه قال: «الرَّضاع مَا فَـتَقَ الأمعاء» ، ورضاع الصغير هو الذي يفتق الإمعاء لا رضاع الكبير، لأن إمعاء الصغير تكون ضيقة لا يفتقها إلا اللبن لكونه من ألطف الأغذية كما وصفه الله تعالى في كتابه الكريم بقوله عز وجل: {لَبَناً خالِصاً سائغاً للشاربين} فأما أمعاء الكبير فمنفتقته لا تحتاج إلى الفتق باللبن وروي عنه أنه قال: «لا رِضَاعَ بعدَ فِصَالٍ» (بدائع الصنائع) .
قال الماوردي: وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرضاع الكبير لا يحرم .
وَلاَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فِيْمَا يُرْتَضَعُ بَعْدَ الحَوْلَينِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةِ } فَجُعِلَ تَمَامُ الرَّضَاعِ فِي الحَوْلَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ حُكْمَ لِلرَّضَاعِ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لاَ رَضَاعَ إلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ (المصدر : المهذب) .
وأما رضاع الكبير: فإنه لا يُحرِّم في مذهب الأئمة الأربعة ؛ بل لا يُحرِّم إلا رضاع الصغير، كالذي رضع في الحولين. وفيمن رضع قريباً من الحولين نزاع بين الأئمة؛ لكن مذهب الشافعي وأحمد أنه لا يُحرِّم. فأما الرجل الكبير والمرأة الكبيرة فلا يُحرِّم أحدهما على الآخر برضاع القرايب: مثل أن ترضع زوجته لأخيه من النسب: فهنا لا تحرم عليه زوجته؛ لما تقدم من أنه يجوز له أن يتزوج بالتي هي أخته من الرضاعة لأخيه من النسب؛ إذ ليس بينه وبينها صلة نسب ولا رضاع؛ وإنما حرمت على أخيه لأنها أمه من الرضاع، وليست أم نفسه من الرضاع. وأم المرتضع من الرضاع لا تكون أماً لأخوته من النسب؛ لأنها إنما أرضعت الرضيع ولم ترضع غيره (المصدر : مجموع فتاوي ابن تيمية) .
مسألة : إن قلت: ورد في صحيح مسلم أن النبي أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالماً مولى حذيفة زوجها بعد البلوغ حتى تكون أماً له فلا يحرم نظره إليها، وذلك لأن سهلة ذهبت إلى النبي وقالت له: «يا رسول الله إن سالماً مولى أبي حذيفة مضى في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال وعلم ما يعلم الرجال، فقال: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ»، فهذا صريح في أن رضاع الكبير يوجب التحريم ، والجواب : أن ذلك كان قبل تحديد مدة الرضاع بالحولين وقد ثبت عندنا وعند الشافعي نسخ رضاع الكبير .
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : والخلاصة : بعد انتهاء التبني نقول لا يجوز إرضاع الكبير ، ولا يؤثر إرضاع الكبير بل لا بد إما أن يكون في الحولين وإما أن يكون قبل الفطام وهو الراجح اهـ ، أي أن الرضاعة المحركة لا تكون إلا مع الطفل الذي لم يتجاوز العامين فقط . وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : حديث سالم مولى أبي حذيفة خاص بسالم كما هو قول الجمهور لصحة الأحاديث الدالة على أنه لا رضاع إلا في الحولين وهذا هو الذي نفتي به .
ثالثاً : من حالته مثل حالة سالم :
سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة كان بعد نزول آية الحجاب، وهي مصرحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية، فلا يخص منها غير من استثناه الله تعالى إلاَّ بدليل كقضية سالم وما كان مماثلاً لها في تلك العلة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب، من غير أن يقيد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب، ولا بشخص من الأشخاص، ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم. وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبي صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم: إِنَّ سَالِماً ذُو لِحْيَةٍ فَقَالَ: أَرْضِعِيهِ». وينبغي أن يكون الرضاع خمس رضعات لما تقدم في الباب الأول (المصدر : نيل الأوطار)
وذهب شيخ الإسلام أنه يجوز إذا وجدت الحاجة كما حدث في قصة سهلة وسالم .
" أن من كانت حاله وحاجته مثل حاجة سالم جاز له الأمر " : إن حالة سالم مولى أبي حذيفة حالة نادرة ومرتبطة بلحظة تشريعية لن تتكرر . ومن سوى بين الحاجتين فقد أخطأ بدليل أن حاجة سالم غير ممكنة ولن تنطبق على أحد بعده ، فسالم حضر إباحة التبني وكان ابنا بالتبني لأبي حذيفة وحضر بطلان التبني |