جَلسَ - عند أحد الحوائط الرطبة - إلي طاولتهِ الخشبية المتهرئة؛ التي اتخذتْ منها بعض الحشرات مَفرا ً من برودة كانون الأول . كَانت قطرات المطر تَزوره مرة تِلو أخري من تلك النافذة الحديدية, تَصْطحبُ معها رياح البحر الباردة , مما جَعل يده تَرتعش مثل يَد مُسن, فَأشعل ما تبقي لديهِ من تلك الشمعة المحتضرة؛ لعلها تُعطيه بعض الدفء الذي يَفتقدهُ, مَد يده إلي أحد الكتب التي اعْتَاد أن يَقرأها, اخْرَج من بين صفحاتهِ البالية سيجارة من النوع المحلي, أشعلها, واخذ يُدخن .

 

 كان مِذاق السيجارة سيئاً جداً . فأشتدَ غَضبُه من سَجانه ؛ ذلك البَدين الجَشع المُتسلط و المستَغِل , الذي يُلبي مَطالب السُجناء مُقابل المال , ولا يَجلب لهم غير الأشياء ذات الثمن البخس , كذلك فقد تَمثَل السجان بالنسبة له كحاجزٍ بَينه وبين حُريته , كان يَود لو فَر من مَحْبَسِه وسَجانه ليذهب بعيداً كَي يَبدأ من جديد , فلطالما راودَته الأحلام حيثُ الأرض خضراء والرمال ذهبية ورائحة الورد تملأ رئتيه بالحياة .
 أَنهي سِيجارته السيئة مِثل واقعهِ , وضع غَضبه جانباً مُتمنياً لو وضَع ألامه , جَذب ورقةً بيضاء كَحَياته التي يَنشدها , امْسَك بقَلمهِ الأسود الذي يُشبه مَاضيه , وبَدأ يُسطر رسالة جديدة .
تحية طيبة .. وبعدَ

 

 اكْتبُ إليكم كعادتي ف كل ليلة , اكْتبُ رسالتي الأولي بعد الألف , وانأ ها هنا في زنزانتي الفردية رقم
( 1196 ). إنني اشْعرُ بالوحدة والضجر رغم أنها عشية عيد الميلاد, و لكن كل ما حولي لا ينبض بالحياة ..
 إليكِ : رُغم الشيب في رأسي إلا أنني احِنُ دائماً إلي أحضانك , فلو مَنحوني لاخترتْ أيامك . ما زلتِ مَليكتى الأولى يا أمي , و ما زالتْ تجاعيد وجهك محفورة في ذهني , فدائما وأبدا ستظلين في قلبي .
 إليكَ: لم أر في حياتي بطلاً سواك , و لا اذكرُ في وجوه الرجال إلا مُحياك , لقدْ وَهن الجسد مني يا أبي , و لكنني اسْتمدُ منك عزمي و قوتي . أعلم بأنني أخطأت , و لكنك أيضا لطالما عَفوتْ .
 إليكِ : لقد أخَذتُ مِنك عُمرك والقلب , ولم أمْنَحُكِ غير التعب , ولذلك أشعر يا زوجتي كثيرا بالذنب . أخجل كثيراً من أفعالي ومن نفسي , و لكِ أن تَعلمي أنني نادم جداً علي ما ضاع في أمسي .
 وختاما: أودُ تَذكيركم بأنه لم يصلني مِنكم رداً واحداً حتى الآن , ولكن لن أكف عن الكتابة يوما ؛ لَعَلَكُم تقرؤون , فأنا مشتاق جدا لرؤيتكم , وأرغب في الارتماء بين أحضانكم الدافئة , لقد اشتقت إلى زوايا منزلنا , و اشتقت إلي كل جزء من باريس.
 تَرك القلم من يده المُرتعشة , وطوي رسالته والدموعُ تملأ عَيناه , ثم أحْضر زجاجة فارغة ووضع الرسالة بداخلها , وألقاها في بحر الشمال .ثم عَاد إلى طاولتهِ ودموعه .
 

علي هلال عجيز


المراجع

basrayatha

التصانيف

ادب  قصص