فتحتْ عينيها وهي في بيت هادئ متزن، الأمور تسير فيه بآليةٍ لا تكاد تختلف، اليومُ كالأمسِ، والأمسُ كأول أمسٍ، ولا تتصور أَنَّ الغَدَ سيكون مختلفاً عن اليوم... وهكذا فالحياة منتظمة انتظاماً لا عِوَجَ فيه ولا أمتا، القيادةُ في البيت لأمها... هي الآمرة الناهية، المُخَططةُ المدبرة، من بيدها مقاليدُ الأمورِ، والمرجعُ الأخيرُ للقضايا لحلها، وعنه يصدر الأبناء والبنات في كل تصرفٍ يتصرفونه، حتى لو أملته عليهم الحياة، فلا بد أن يكون للأم فيه تدبير.

 

والأب رجلٌ طيبٌ لآخر درجات الطيبة التي يمكن أن يتصورها العقل، فهو يخرجُ مبكراً مع شَقْشَقَةِ العصافير، ولا يعود من الليل إلا في الهزِيعِ، مُنهكاً مكدوداً، يأكل رغيفَهُ وصَحْنَ الطبيخِ الباقي له من بعد أن شبع الجميع، وإن لم يبق شيء اكتفى بحبة بندورة، وملعقة زيت، وقليل من الزعتر يملأ بها معدته لتسكت... وينام حتى يعلوه الشخير، ليستيقظ في الصباح مكرراً الخطوات نفسها... حتى إذا جاء آخر الشهر، سَلَّمَ راتبَه كُلَّه إلى زوجته، فتعطيه ما يكفي لوازم السيارة، وشيئاً من الضيافة التي قد يُكرهُ عليها لزائرٍ – لم يحسب حسابه – في عمله، أما التدخينُ فلا يقربُه، والإسرافُ لا يعرفهُ، والحياةُ عنده سلسةٌ إلى الغاية التي ما بعدها غاية، فهو حامدٌ شاكرٌ لزوجته هذه النعمة التي هو فيها.

 

لا يكادُ يتدخلُ في شيء على الإطلاق، إلا إذا أمرته زوجتُهُ من باب الهيئةِ والمظهر الاجتماعي وحسب، فهم أناس يعرفون الأصولَ، وتخشى إن أهملته هنا أيضاً أن يَذُمَّها الناس، وينصرفوا عن بناتها، لذا تقدمه في الكلام فقط إذا جاؤوا لِخطبة إحدى البنات، وغالباً ما يقول الكلامَ نفسَه الذي أُمْلي عليه بالأمس، كآلة التسجيل لا تزيد حرفاً ولا تنقص، فإذا فاجأه أحدٌ بأمر لم يُدَرَّسْ له بالأمس؛ تلجلج، ثم مال على ولده الأكبر – على هيئة الاستشارة – فَذَكَّرَهُ بما نسي، أو نبَّهَهُ إلى الخط الذي رسمته أمُّه، فيتنحنح ويعتدل في جِلسته، ويبدى جواباً فَجَّاً غير مستقيم مع سائر الكلام.

 

وإذا أُجبروا على رَدِّ وليمةٍ لأحد مَنْ أكرمهم سابقاً، فلا بد أن يُوكل أمر توجيه الدعوة إلى الأب، فهذا من الشَّكْلياتِ التي لا بُدَّ أن تُراعى، وإلا انكشف المستورُ من أمرهم وسقطوا في عيب يفرُّ منه أهلُ المروءات.
وأما الإبن الأكبر، فقد فهم الدرسَ مبكراً، بل رضعه مع بواكير طفولته، فانقاد لأمه طواعية، وسار في الطريق نفسِهِ.

 

"فالولد سِرُّ أبيه"، إلا أنه قد يغلبه نزق الشباب العجول فيتمرد، لكنه تمردٌ لا يقود إلى انقلاب جذري في حياة العائلة بقدر ما هو تعبير عن حاجات شخصية يريد تحقيقها، متجاوزاً السلطة المطلقة في البيت، ثم سرعان ما يعود لطبيعته الموروثة.

 

وأمه البنتُ البكر فقد كبرتْ، ونضجتْ، ودخلت عالمَ النساء شكلاً ومضموناً، ثم تسلحتْ بشهادةٍ تفتح لها باب العمل، وتُغري الذكور باقتفاء أثرها... وها هو ذا راتُبها نقطة عسلٍ تجذب عشرات من الذباب لتحط بالقرب منها، وتتمنى أن تتذوقها... فالحياة لا بد لها من تعاون... وها هو ذا ذَكَرٌ من ذكور البلد تجذبه نقطة العسل، فتعلق قوائمه في لزوجتها، وتُحْكِمُ عليه (الخَيَّةُ)، والكون ليس فيه شيءٌ بلا ثمن، وطالما طمع في العسل، فلا بد أن يدفعَ الثمن، يريد أن
يُكملَ دراسته، وأسرتُه لا تملك من قِطْمير، وراتب الزوجة رائع في التدبير، ولما كان الأقدمون قد قالوا: "اقلبْ الجرّة على تِمّها([1])" تماماً طِلْعتْ([2]) البنت لأمها... مسيطرة... متحكمة... كلمتها هي النافذة... فانقاد زوج البنت البكر للبنت وأمّها؛ فهو لا يخرج عن طوع حماته، كما لا يخرج عن طوع زوجته، لكن لكل واحدة منهما أسلوبُها في قيادة بيتها... أملته تطورات العصر.

 

الأب والأم قد مضى عليهما رَدْحَاً من الزمن، فَخَفَّتِ الاختلافات، وَقلَّتِ المُشاكساتُ، وأسلم الرجل قياده، وغسل يديه، ونَفَض ثوبَهُ من كل مسؤولية، إلا ما تنيطها الأمُّ به من باب الشكليات.
أما زوج البنتِ البكرِ، فما زال في بداية الطريق، وإن كان راتبُها قد خَضَّدَ شوكتَهُ، وألان عريكتَهُ، إلا أنه يعلن – أحياناً – شيئاً من التمرد، كانتفاضة جَسدِ المذبوحِ قبلَ خروج الروحِ، فَيُكَافأُ بإغلاق الباب دونه، وليذهب لينام عند أمه، فليس في الشَّقَّةِ متسع لقيادتين، والقيادة لا بد أن تكون لها وحدها، فليذهب إلى الجحيم إذن، عقاباً له على تمرده، والجحيم بيت أبيه وأمه... أو الشارع... سيان.

 

في النهاية، أسلم قياده واستراح، وأضحتْ أوامر حماتِه وزوجتِه لا تحتمل التأخير بَلْة الرفضُ، وإن كان الواجبُ الاحتفاظَ بشيء من التقدير والأولوية، فلكل واحدة منهما مقامها في تسلسل الأوامر والانصياع لها... وللسن والخبرة حكمهما... وقد هَدَّأَ من روعه أن وجد من يؤنسُ روحه في هذه الحياة، ويجد على شاكلته حماه وابن حميّه، فوضع رأسه بين الرؤوس واستراح.

 

وهكذا أضحى منزل حماته قبلتَهُ التي يتجه إليها في أحواله وأوقاته كُلِّهَا، أوامرها وأوامر بنتها دستوره الذي يهتدي بتعليماته في ظلمات حياته، فنال الرضا من الحماة والزوجة ومن حميه وابن حميه، وأصبح النموذج الذي يُحتذى لزوج البنت الرائع الذي لا مثيل له، وأصبح اسمه مقروناً بكل شيء في هذا البيت:
جاء زوج عِفّتْ...
ذهب زوج عفت...
قال زوج عفت...
ضحك زوج عفت...
رأينا زوج عفت...
لم نرَ زوج عفت...
انتظروا زوج عفت...
لا تنتظروا زوج عفت... زوج عفت... زوج عفت... زوج عفت...
كَبر البنات التاليات، وأصبحن يحلمن بالفارس الذي يأتي فيخطف الواحدة منهن على حصانه الأبيض، ويخلصها من نصف الحشية التي تتقاسمها مع أختها إذا نامت... لكن لا بد أن يكون مثل زوج عفت... تماماً في كل شيء.

 

جاء فارس مغوار، بمقاييس أهل هذا الزمان، وخطب البنت الثانية... فرحت... فرحوا... فقد خَفَّ الحملُ عليهم، وتخلصوا من عبء واحدة أخرى، وما زال في حوزتهم ثلاث أو أربع... فلماذا لا يتعجلون؟!
وتهيأت الأسرتان للفرح... وبدأت العروس الجديدة في نقل وتوصيل الرسائل مشافهة إلى بيت حميها الجديد.

 

زوج عفت يقول: لا بد للعرس من فرقة (موسيقى)...
زوج عفت يقول: لا بد من رقص و (دنص)...
زوج عفت يقول: عرس بلا مكبرات صوت تقلب الكون ضجيجاً ليس عرساً...
زوج عفت يقول... زوج عفت يقول... زوج عفت يقول...
بكلمة واحدة... حسم حموها المسألة: نحن لا نرحب بحضور زوج عفت... ولم ندعه... ولن ندعوه... فلا يأتي...!!! سكتت العروس... ولا كلمة... ووصلت الرسالة فسكتوا... لقد كانت الإشارة حاسمة، لا لُبْسَة فيها ولا مداهنة.

 

تَمَّ الاحتفال بالزواج، وانتقلت العروس إلى بيت زوجها... زوجها لا يريد لها أن تعمل خارج البيت... حالته ميسورة... هو في غنى عن راتبها... فلتتفرغ لبيتها... سيدة... معززة... مكرمة... البيت لا ينقصه شيء... لا من الفراش ولا من الرياش ولا من الآلات العصرية... هي لا ينقصها شيء... ثياب... ذهب... وكل ما يلزم للنساء... هو... لا يهضم حقها... يخرجها... يُفَسِّحُهَا... يعاملها باللطف اللائق بين زوجين، ما زالا في شهر العسل... لكنه كان نَمَطَاً جديداً... غير الذي ألفته كان زوجها... يُصدر الأوامر... وينتظر تنفيذها... هي لم ترَ في بيت أهلها رجلاً يُصدر الأوامر... الأوامر فقط لأمها... ولأختها في بيتها... هكذا تكون الحياة.

 

تلكأت... امتنعتْ... حَمَّرَ عينيه فيها مرة... والثانية... والثالثة صَفَعَها... بكتْ... ولولتْ لسوء حظها... وبوار بختها... ليس هكذا الأزواج... لكن لعلها حالة طارئة مرتْ به... فلتصبر ولترَ...
جاء آخر الشهر... لم يسلمها راتبه... عجبتْ... اسْتَغْربتْ... امتعضت... ولكن السكوتْ لا يفيدُ... واجهته:
أين راتُبك؟

 

وما شأنُكِ به؟ ولماذا تسألين؟
ألن تُسلمني إياه حتى أُدبر أمر ميزانية البيت؟
هذا ليس من شأنك!!!
ثار الدم في عروقها لهذا الرجل غريب الأطوار، المخالف للرجال كلهم... رفعت صوتها... كاد يسمعها الجيران... جاءها الجواب حاسماً، صفعةٌ أخرى ألجمت لسانها... بعد بكاء مر سكتتْ... وحظها التعس نَدَبتْ... لكنها بعيدة عن أمها... بينهما صحارى وقفار... وأمها تحاول بالمُوّجِّه اللاسلكي تديرها... تماماً كالتلفاز أو (الربوط) عن بعد... لكن هيهات أن تجدي.

 

يخرج الزوج من بيته مبكراً لعمله... يُمْلي على زوجته أشياء عليها إنجازها خلال اليوم... يعود في المساء منهكاً... يسأل عن الأشياء التي كلفها بها لأن أعمال الغد تترتب عليها... لا شيء أُنْجِزَ منها... كانت الزيارات الهاتفية شاغلها اليومي... تجلس بالساعة والساعتين تثرثر مع جارتها عبر الهاتف في لا شيء... كالنحلة أو الذبابة سيان... تنتقل من جارة إلى جارة... مرض تتقنه كثير من النساء... يمضي الوقت ولا شيء يُنْجز من العمل... أمر طبيعي... لا غرابة فيه... هكذا كانت أمها... هكذا كانت أختها... لا اعتراض... لا مناقشة... لا مؤاخذة... فلماذا هذا الرجل يؤاخذها؟! لماذا يُعَنِّفُهَا؟ يا لسوء حظها في الرجال!! لم يكن هذا النموذج المثالَ الذي حلمتْ به؟!

 

بكتْ... ولولتْ... جهازُ التوجيه عن بُعد يوجهها... وعلى الطريقة نفسها تسير... الأمور معها لا تتحسن، بل تزداد تعقيداً... فقد كان زوجها عنيداً... وهو من بين الرجال الذي تعرفُ كان فريداً!!
زوجها كان قد عَرَفَ منذ زمن قديم، أن هناك نوعاً من الحيّات لا يلدغ... وليس فيه سم قاتل، لكنه يلجأ إلى حيلة لمقاومة أي خطر يداهمه... يَتَلَوَّى حول نفسه في شكل معقد، كُرة لا تعرف رأس الحَبْلِ من ذيله... هكذا كانت حيلتها... وعَرَف أن الصبر في فك عُقد هذه الكرة بتؤدةٍ وأناةٍ يؤدي إلى النجاح... فإذا حدث هذا – ودائماً ما يحدث – وعرفت الحية – أو استيقنت – أن أقوى حيلها لم تنفع... تستسلم... فلا تعود تلجأ إلى التعقيد.

 

لكن الأم – عن بُعدٍ – ما زال في يدها جهاز التوجيه... بالعقلية المستقرة منذ ثلاثين سنة أو يزيد... وقد تكون موروثة من أمها أيضاً... وربما من جدتها... سلسلة متوارثة من الفكر نفسه... والسلوك عينه... الأم ما زالت تواصل التدخل والتوجيه... بالكذب مرة... بالمبالغة مرة... بالمؤامرة مرة... والبنت تنقاد إلى توجيهات الجهاز الخبيث... لا جدوى من التحسن... خطان متوازيان لا يلتقيان.

 

لا بد أن يُعزل المريض عن مصادر المرض... فالتوجيه من بعد ما زال مستمراً: استخدمي معه أسلحة النساء... الجنس... البكاء... المكر... الدهاء... استخدمتْ كل أسلحتها على دفعات... كان زوجها كالصخرة الصماء عناداً وصبراً... واستخدم أسلحته هو أيضاً... الصمت القاتل... فلا يتكلم إلا كالقَطَّارةِ... ولا بد أن يكون أمراً حاسماً لا يحتمل النقاش... الطعام والشراب وكل لوازم البيت متوفرة... لا ينقصها شيء... لكن الجنس لا يخطر له على بال، كأنه ليس شاباً ككل الرجال... إذا ضمهما السرير أدار لها ظهره على كل حال... لم يصمدْ ماؤها في الغِرْبَال... سقطت أُولى قلاعها، واستسلمت حاميتُها... بكت بصمت أولاً... ثم سَحَّ الدمع وعلا النشيجُ... أهملها... واعتبرها كأنها غير موجودة في البيت... ينجز أبسط الأشياء التي من مهامها بنفسه ولا يطلب منها شيئاً... احترقت أعصابها... بكت... سقطت قلعتها الثانية... استخدمت المكر والدهاء... قابل ذلك باستخفاف الكبير إذ يعبث الصغير... سقطت قلعتها الثالثة والأخيرة... وأيقنت أن ليس الرجال كلهم زوج عِفَّتْ... لكن... لماذا تتيه به فخراً... وتحبه هذا الحبَّ كلَّهُ؟ حتى الآن لا تدري!!
                  
([1]) التِّمُ: بالعامية هو الفم، هو هنا الباب أو الفتحة في أعلاها.
([2]) جاءت مشابهة ومطابقة.
 

المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص   الآداب