كلمات جامعة

في بيان خصائص هذا الرسول المعلِّم وفضائِله ،

وشَرَفِ أخلاقِهِ وشمائِله ، تتبدّى منها جوانبُ شخصيتِه العامّة

ومعرفَتُها من تمام معرفة شخصيته التعليميّة ، التي هي جزء منها ولا يَستقلُّ عنها ، كما يتبدّى منها أيضاً مَبعثُ قبول أقواله وأحكامه الصادرة عنه ، والتأسّي بأفعاله الواردة منه ، ومَدى وَقْعِها في النفوس ، وهي تشمل كلَّ جانبٍ من جوانب الحياة والدين .

وفي هذه الكلمات أيضاً هَدْيٌ وإرشادٌ لما ينبغي أن يكون عليه المعلِّم في سيرتِه ، وفِكرِه ، وخُلقِه ، وعملِه ، ومعاملتِه ، ومنطِقِه ومَظهرِه ، ومخبرِه ... (لقد كان لكم في رَسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنة)2.

قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماورْدي البَصْري البغدادي ، أقضى قضاة عصره ، المولود سنة 364 ، والمتوفى سنة 450 رحمه الله تعالى ، في كتابه ((أعلام النُبُوّة)) في (الباب العشرين) وغيره ، وهو يتحدَّثُ عما خَصَّ اللهُ به رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من المزايا والخصائص ما مُلَخَّصُهُ3:

((لمّا كان أنبياءُ الله صفوة عباده وخيرةَ خَلْقِه ، لِما كلَّفَهم من القيام بحقِّه ، استخلصهم من أكرم العناصر ، وأمدَّهم بأوكد الاواصر ، حِفظاً لنسبِهم من قَدْح ، ولمنصبِهم من جَرْح ، لتكون النفوس لهم أوطى ، والقلوب لهم أصفى ، فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ، ولأوامرهم أطوع .

وقد كانت آياتُ النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم باهرة ، وشواهِدُهُ قاهرة ، تشهَدُ مَباديها بالعواقب ، فلا يَلتبِسُ فيها كِذبٌ بصدق ، ولا مُنْتَحِلٌ بمُحِقّ ، وقد أرسله الله بعد الاستخلاص ، وطهَّره من الأدناس فانتفَتْ عنه تُهَمُ الظنون ، وسَلِمَ من ازدراءِ العيون ، لا يَدفعُهُ عقل ، ولا يأباه قلب ، ولا تَنفِرُ عنه نفس .

فهو المهيَّأُ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال ، المؤهَّلُ لأعلى المنازل وأفضل الأعمال ، لأنها أصولٌ تَقودُ إلى ما ناسَبَها ووافقَها ، وتنفِرُ ما باينها وخالفها . ولا منزِلة  في العالم أعلى من النبوّة التي هي سِفارةٌ بين الله تعالى وعبادِه ، تبعَثُ على مصالح الخَلْق وطاعةِ الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخصَّ ، وأكملهم بشروطها أحقَّ وأمَسّ.

ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما دانى طَرَفَيْهِ من قارَبَه في فَضْلِهِ ، ولا داناه في كماله ، خَلقاً وخُلُقاً ، وقولاً وفعلاً ، وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله : (وإنَّك لعلى خُلُقٍ عظيم)4.

والفضل وإن لم يكن من مُعجزات النبوة ، لانه قد يُشارَكُ فيه ، فهو من أمارتها . وتكامُلُ الفضل مُعْوِز5، فصار كالمُعْجِز ، وكمالُ الفضل موجِبٌ للصدق ، والصَّدق موجِبٌ لقبول القول ، فجاز أن يكون الفضلُ من دلائل الرُّسُل .

فإذا وَضَح هذا ، فالكمال المعتَبَر في البَشَر ، يكون من أربعة أوجه :

1 ـ كمالُ الخَلْق ، 2 ـ وكمالُ الخُلُق ، 3 ـ وفضائل الأقوال ، 4 ـ وفضائل الأعمال .

1 ـ فأمّا الوجه الأول في كمال خَلْقِهِ بعد اعتدال صورته ، فيكون بأربعة أوصاف :

أحدها : السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم ، الداعية إلى التقديم والتسليم ، وكان أعظم مَهيب في النفوس ، حتى ارتاعت رُسُل كسرى من هَيْبَتِه حين أتوه ، مع ارتياضِهم بصَوْلَةِ الأكاسرة ، ومكاثرة الملوك الجبابرة ، فكان صلى الله عليه وسلم في نفوسهم أهْيَب ، وفي أعينهم أعظم ، وإن لم يتعاظم بأُبَّهة ، ولم يتطاول بسَطْوة ، بل كان بالتواضع موصوفاً ، وبالسهولة معروفاً .

والثاني : الطلاقةُ الموجة للإخلاص والمحبّة ، الباعثة على المصافاة والمودّة ، وقد كان صلوات الله عليه وسلامه محبوباً ، ولقد استحكمتْ محبّةُ طلاقَتِه في النفوس ، حتى لم يَقْلِهِ مُصاحِب1، ولم يتباعد منه مُقارب ، وكان أحبَّ إلى أصحابه من الآباء والأبناء ، وشُرْب البارد على الظَّمَاء2.

والثالث : حُسنُ القبول ، الجالبُ لممايلة القلوب حتى تُسرِع إلى طاعته ، وتُذعِن بموافقته ، وقد كان قبولُ منظره صلى الله عليه وسلم مستولياً على القلوب ، ولذلك استَحكمت مصاحبتُه في النفوس ، حتى لم ينفِر منه مُعانِد ، ولا استوحَشَ منه مُباعِد ، إلاّ من ساقه الحسَد إلى شَقوتِه ، وقادهُ الحرمانُ إلى مخالفتِه .

والرابع : مَيْلُ النفوس إلى متابعته ، وانقيادُها لموافقته ، وثباتُها على شدائدِه ومُصابرتِه ، فما شَذَّ عنه معها من أخلصَ ، ولا نَدَّ عنه فيها من تخصص3.

وهذه الأربعة من دواعي السعادة ، وقوانين الرسالة ، وقد تكاملت فيه ، فكَمَل لما يوازيها ، واستحقَّ ما يقتضيها.

2 ـ من سورة الأحزاب ، الآية 21 . وقد جاء في هذه الكلمات بعضُ جُمَل تتصل بحال النبوة وسِماتها ، فأبقيتُها ، لأنها من تمام الحديث عن هذا النبي الكريم والمعلِّم العظيم ، صلوات الله وسلامُه عليه . وقد نقلَ هذه الكلمات بطولها العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى ، في كتابه ((دلائل التوحيد)) ص 181 ـ 196 من طبعة دمشق ، وص 156 ـ 169 من طبعة جمعية النشر والتأليف الأزهرية بالقاهرة ، حين تحدَّث عن الرسول الكريم ودلائل نبوته وصفاته الشخصية العظيمة .

ووقع في النسخة المطبوعة من كتاب ((أعلام النبوة)) للماوردي المنقول عنه هذه الكلمات ، تحريفات وتصحيفات كثيرة ، وكذلك وقعَ ـ تبعاً ـ في كتاب ((دلائل التوحيد)) ، فاجتهدتُ أن أَخلُصَ منها ، وما استطعتُ أن أنجو منها جميعاً في نظري ، والله ولي التوفيق .

3 ـ ومن غريب التوافق أن المعاني التي أشار إليها الإمامُ الماورديُّ إمامُ المشرق في عصره ، في كلماته الآتية في بيان مزايا الشخصية النبوية الكريمة ، قد أشار إليها بإجمالٍ عَصْرِيُّهُ إمام المغرب الإمام ابن حَزْم ، في كتابه ((الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) 2 : 88 ـ 91 من طبعة صُبيح بالقاهرة سنة 1384 ، حتى كأنَّ أحدهما قد استَقى من الآخَرِ فِكرَه أو حاوَرَه فيه .

ولكن لا غرابة في تقارُب النَّظر ، وتوافُق الفِكَر بين إمامي المشرق والمغرب ، لأنهما ينطلقان من مَهْيَعٍ واحد ، هو تشخيصُ المزايا التي اتَّصفَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي باديةٌ للمَشْرِقي كما تبدو للمَغْرِبي على سواء ، وقد كانت وفاةُ الماوردي سنة 450 ببغداد ، ووفاةُ ابن حزم سنة 456 في بلدة لَبْلَبة من بلاد الأندلس ، رحمهما الله تعالى .

4 ـ من سورة القلم ، الآية 4 .

5 ـ أعوزَ الشيءُ فهو مُعْوِز ، إذا عَزَّ فلم يوجَد . أي تكامُلُ الفضل عزيز .

1 ـ أي لم يُبغضه أو يكرهه مُصاحب .

2 ـ الظَّماء : العطش الشديد .

3 ـ أي عاشره طويلاً واختصَّ بصحبته .



عبد الفتاح أبو غُدّة


المراجع

rasoulallah.net

التصانيف

الرسول محمد صلى الله عليه وسلم  أعلام   العلوم الاجتماعية   شخصيات