محمد علي

إهانة  

كنت مزهواً ببزتِّي العسكرية ، والنجوم الذهبية التي تزين كتفيَّ ... خِلْتُ أن هامتي تتسامى فوق السحاب ، وتزاحم نجوم السماء !.

صدر قرار ترقيتي منذ بضعة أيام فقط ... غمرتني سعادةٌ لا حدود لها ، وغمرت عائلتي الصغيرة المكونة من زوجتي عائشة وابنتي البكر أسماء وابني الصغير ياسر ... جُبْنا المدينة، وتجوَّلنا في أسواقها الشهيرة وحدائقها الغناء وأماكنها السياحية والترفيهية وأزقتها العتيقة التي يفوح منها عبق التاريخ وأريج الفل والياسمين .... وبعد جولة ممتعة دخلنا إلى مطعم فخم مشهور، له سمعته في مدينة دمشق، كان يرتاده أهل الجِدَة واليسار من الناس، وطلبت بسخاء، ما لذَّ وطاب، دون تخوُّف أو ترقب لكشف الحساب، بالغاً ما بلغ ، فالمناسبة عزيزة وغالية على قلبي !.. ولذلك كسرت يومذاك الروتين ، وخرقت كل القواعد الصارمة التي كانت تحكم توزيع راتبي الشهري ومصاريفي المادية !!.

وبينا ننتظر بلهفةٍ الطعام والمُدام، وقد استبدَّ بنا الجوع ، إذِ اقتحم المطعم ثلَّةٌ من الضباط الصغار الذين يلبسون ملابس عسكرية مبرقعة ، وقد تدلت على مؤخراتهم مسدساتهم بشكل مقزز ومثير للرعب !.

كان المطعم يغصُّ برواده ، وجميع الطاولات مشغولة ... جالوا بأبصارهم ، في جميع أرجاء المطعم ، ثم أقبلوا عليَّ يَزِفُّون حتى قاموا على طاولتي ، وطلب مني أحدُهم بإشارة مُذِلَّة بأصبعه إخلاءَ الطاولة لهم!. فهمت المطلوب ، لكني تباطأت قليلاً ، فزعق بي أحدهم ، قائلاً : ألم تفهم يا ....... !؟. قم من فورك وإلا ..! .

جميع الأنظار اتجهت نحوي، وانحبست الأنفاس في انتظار ما ينجلي عنه الموقف !. نَظَرْتُ إلي زوجتي التي اصطبغ وجهها بلون الليمون ... كانت عيناها تتوسَّلان إليَّ بكفِّ الشر.. ابنتي أجهشت بالبكاء والصغير أخذ يصرخ ويبكي وهو يلتصق بي !.

ماذا عساني أفعل ؟ هل أقاومهم ؟ وماذا ستكون  العواقب؟! هم عصابة ، ومسلحون ، ولا أطمع أن يساعدني أحدٌ من الحضور الكرام !.

لم يتركوا لي فرصة للتفكير !. امتدت يد أحدهم وجذبني من كتفي بغلظةٍ وعنف ..خرجت بيده رتبتي العسكرية الجديدة التي تقصَّدتُ ارتداءها في تلك المناسبة !. قهقه ساخراً ، وطوَّح بها أرضاً ، وراح يدوسها بقدميه !. الإهانة كانت فظيعة ومُرَّة وقاسية جداً . وددت في تلك اللحظة لو تنشقُّ الأرض وتبتلعني .. وجوم وذهول ورعب اعترى أصحاب المطعم وعماله وزبائنه .... لم ينبس أحدٌ منهم ببنت شفة... والخوف والقلق يسيطر على المكان ...

آثرت السلامة ، ولزمت الصمت ، وخرجت بأهلي منكساً رأسي ...

حدث ذلك معي منذ ما يزيد على عشرين عاماً لكنني لم أنس ولن أنسى ذلك المشهد ما حييت ، ولن أغفر لهم !.

                

لوحة

دفع عربته بكلتا يديه ، وهو يتكئ عليها بجسمه كله ... كانت إذا مشت تترنح ذات اليمين وذات الشمال ، ويتمايل هو معها كأنه يرقص ... ناهز الخمسين من عمره ، إلا أنه كان يبدو للناظر كابن سبعين ، تغضن جبينه ، وحنا ظهره ، واشتعل رأسه شيباً . ويساعده في عمله فتى صغير ، يدفع معه العربة الضخمة بيدين ناحلتين غضتين ... يرافقه فتاه في رحلته المضنية وهو يجوب طرقات البلدة وحاراتها ، في الحر والقر ، والسهل والوعر ، ينادي على بضاعته المزجاة ، ( القطعة بخمس ليرات !) ، ويخترق صوته الأجش المبحوح البيوت الموصدة ، فيخرج إليه طفل من هنا ، وامرأة من هناك ، وبين الفينة والأخرى يجمع ليراته ويحصيها ، ولا تكاد غلته آخر النهار تكفي لشراء الخبز ولفائف التبغ  ، لكن الأحوال ( مستورة والحمد لله ) ، وهو جوابه المعتاد لكل من سأله : كيف الحال ؟. 

وعندما يخيم الليل بظلامه ، وتسكن القرية ، ويخلد أهلها إلى مضاجعهم ، ويخلو الطريق إلا من ثلة من الفارغين المتسكعين أو بعض الحيارى الهائمين ، يقفل راجعاً إلى أهله ، يغمز في مشيه كالأعرج ، وهو يجر رجليه جراً ، لا يقدر أن يرفعها من ثقل ما حلَّ به من التعب والإعياء ، كلما قطع مسافة انقطع ، وخارت قواه ، فيضطر إلى التوقف برهة ، ليلتقط أنفاسه ، ويستعيد بعض نشاطه ، ليدفع من جديد عربته التي افترشها فتاه الصغير الناحل ، وقد غط في نوم ثقيل .

                

صفعة

احمرَّ وجهه ، كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان ، وزَخَّهُ العرق[1] !.

كانت المركبة مزدحمة ، وفي صحبته زوجته وبنوه وناس من جيرانه وأهل حارته .

دُهِش وتحيَّر ، وأطرق واجماً شاحباً ، وهو يتحرَّق عليه غيظاً ، لكنه لم ينبس ببنت شفة !.

وجد نفسه عاجزاً عن فعل أي شيءٍ ، يحفظ له ماء وجهه ، ويرد له اعتباره ... تمنى في تلك اللحظة لو انشقت الأرض وابتلعته!.

خيَّم على الركاب صمتٌ رهيب ، ولم يحرك أحدٌ منهم ساكناً كأنهم دُمَى صبية صغار !.

بلع الرجل ريقه بصعوبة ، وأطرق رأسه خجلاً ، وهبط من المركبة ، وما يزال أثر صفعة الشرطي وخطوط أصابعه على وجهه !!.

__________________

[1] - يقال : امرأة زخّاخة: تَزُخُّ بالماء عند الجِماع، ويقال: زَخّاء أيضاً. [ انظر : جمهرة اللغة - (ج 2 / ص 92) ]

                

حلم

باع حليَّ زوجته وجردها من كل ما وشَّاها به وهي عروسٌ مجلُوَّة ؛ الأساور والأقراط والخاتم ، وباع البقرة وبنتها ، وضمَّ إليها حصالة أطفاله والعيدية ، حتى استطاع أن يرفع أعمدة بيته المكون من حجرة واحدة وحجيرة تتبعها ، أرادها مطبخاً وحماماً ولهم فيها مآرب أخرى !.

كانت إنجازاً ضخماً ... لم يصدِّق عينيه ، وظل يتأملها بشغف ، ويعجب لها ، ويطوف بها حولاً قمرياً بتمامه !.

لم يكتمل البيت ، وما يزال يحلم بسقف وجدران !.

ناهز الخمسين . تجاوز الستين . قضى نحبه ، ولمَّا يتحقق حلمه !.

وورثت زوجته ، ولها الثمن ، وبنوه الباقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، تركة المرحوم ؛ وكانت عبارة عن ستة أعمدة ، قد تهرأت حافاتها ، وتناثرت بعض أحشائها من الرمل والبحص ، وعلا الصدأ حديدها ، وبدت كأنها آثار أو بقايا أطلال .

                

مذكرات مواطن سوري

الحيطان لها آذان !.

أوصد جميع الأبواب والنوافذ والمسامات ، والتفت يمنة ويسرة ، ثم همس في صيوان أذن زوجته اليمنى !.

قالت ، وقد امتقع لونها : صه ... صهن ... اسكت !!... اخفض صوتك ... استرنا يا رجل ، الحيطان لها آذان !.

                

الأستاذ المهرِّب  

تأبط محفظته كعادته ، وخرج يسابق طلوع الشمس ؛ آمَّاً المدينة ... عندما وصل ، ثقل حمله وزاد ، وضم إلى محفظته كيساً من الخيش ، ملأه بعلب السجائر والعلكة وفناجين القهوة والموز وبعض الممنوعات الأخرى ، وقعد على زاوية الطريق متوتراً يترقب ، وهو يقلِّبُ عينيه ذات اليمين وذات الشمال !.

لم يلبث الطريق أن ازدحم بالأقدام ، وامتلأ بالأكشاك والعربات وبسطات البيع ، رجالاً ونساءً ، شيباً وكهولاً ، يتبارون في اكتساب الرزق ، واختلط الحابل بالنابل ، وتعالت الأصوات ، وكثر الصخب .

لم يكن الأستاذ طعمة المهرب الوحيد ، فقد قاسمه الرصيف عشرات المهربين ، منهم الطفل والمرأة والشاب القوي والشيخ الهرم ، جاؤوا من كل حدبٍ وصوبٍ ، يلتقطون رزقهم ههنا ، حيث تزدحم الأقدام ، يقضون جل وقتهم في كرٍّ وفر ، مثل لعبة القط والفأر ، مع رجال الشرطة الذين يتربصون بهم ، ويغيرون عليهم بغتة بين الفينة والأخرى ، فيقع في قبضتهم صاحب الحظ العاثر فينتهبون بضاعته ، وينجو الآخر ، لكنه يعلم جيداً أنه إذا نجا هذه المرة فلن ينجو في الأخرى ، وليس كل مرَّة تسلم الجرَّة كما يقولون . بعض المهربين الأذكياء رحم نفسه وخلصها من هذه المطاردات ، وعقد بينه وبين رجال الشرطة عقداً ، أن يقاسمهم أرباحه آخر النهار ، ويغضون عنه الطرف ، وتسير الأمور كما يشتهي !. 

أما صاحبنا الأستاذ طعمة ، فكان يفر منهم فراراً ، فإذا أنشبوا أظفارهم به ، وقبضوا عليه ، كان يخرج من محفظته ورقة تهرأت أطرافها ، هي شهادته الجامعية ، فهو خريج قسم الجيولوجيا ، والأول على دفعته كما يزعم ، وأهل القرية يلقبونه بالأستاذ ، ويشيرون إليه بالبنان ، لأنه كان حينذاك من القلة الذين حازوا على شهادة جامعية ! . فكان إذا قبض عليه لصوص الشرطة ، يدفع إليهم بشهادته ، ويقول لهم : هذه شهادتي ! أنا جامعي . وصاحب أسرة وعيال . وظِّفوني أو فدعوني !. يستدرُّ عطفهم ، وكان ينجح أحياناً وينجو ، وفي أغلب الأحيان ، يسمع جواباً أدمن على سماعه : ( انقعها واشرب ماءها !) .

في ذات مرَّة ، جاؤوه بغتة ، وانتهبوا كل بضاعته ، وانطلقوا ، فتبعهم يتملقهم ويتوسل إليهم ، لعلهم يردونها عليه أو حتى بعضها ، لكنهم لم يعبؤوا به ، ورجع بخفي حنين ، يحمل شهادته التي بطل سحرها ولم تجلب له إلا القلة والذلة . كادت دموعه تبللها ، نظر إليها بازدراء وسخط ، وطوح بها أرضاً ، وراح يدوسها بقدميه !.

                


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب   الآداب  ملاحم شعرية