عاد نعمان
al-meena1920@hotmail.com
خرجت مهرولًا من باب شقتنا إلى باب العمارة إلى الشارع يلحقني صوت أمي الغاضب، يصرخ "جيب معك وأنت راجع سَلطة وخيار وجزر وبطاط وطماط و.."، تريد كل خضروات السوق بورقة نقدية واحدة، ما زالت لا تعيش في بلادنا، أعذرها جدًا، فقد مضى وقت طويل منذ آخر مرة شاهدت نشرة الأخبار المحلية، مشيت على الرصيف، على بعد عمارتين، في ذلك الزقاق الذي يقف فيه المنزل المستقل لعاقل الحارة، هنالك مجموعة من الشباب يلعبون كرة القدم بأنصاف
ثيابهم، في الشارع الخلفي، أحتشد العشرات أمام دكان العم أمين الحرامي، فالحكومة تغلق دكانه بالشمع الأحمر اليوم لتهربه من الضرائب، في الحي المجاور، الأهالي يقفون في طوابير ليشتروا مصل المرض الجديد، استهواني الناس وما يعيشونه، وتلك الوجوه التي تنوعت بملامح البؤس والجوع والجهل والفقر و..، اختزلت الحياة بمرارتها وألمها، واصلت التوغل نحو وسط المدينة حتى وقفت على مشارف أطرافها، حيث أناس آخرين غير معروفين(مجهولين)، تحتويهم بيوت من صفيح الزيت(الساخن)، استقبلني وجه طفلة بسؤال صوته مخنوق
ومتقطع "معك.. لله"، ناولتها ما في جيبي من مال، وعدت إلى منزلي آخر النهار.
خلال شعائر إحدى صلوات الجمعة، جلس رجل عجوز، يسند ظهره إلى أحد أعمدة المسجد، بدأ إمام المسجد خطبته، ضم العجوز رجليه إلى صدره بعمامته التي ربطها خلفه، فصدح الإمام..
"إياكم والكذب، فإن الكذب كذا.. وكذا.."، وأشار بأصبعه إلى العجوز
"إياكم والريا، فإن الريا كذا.. وكذا.."، وتوجه بنظره صوب العجوز
"وإياكم والسرقة، فإن السرقة كذا وكذا.."، فمثل عقوبة السارق بيديه، رامقًا العجوز
طالت قائمة "إياكم"، وكثرت معها التحذيرات والتنبيهات بالنظرات والإشارات، لم يتحمل العجوز كل ذلك التهديد والوعيد، رغم علمه بأنه ليس المعني بها (بريء)، ضاق صبرًا، فوقف مُستفزًا وصاح في وجه الإمام "أأنت إمام مسجد؟!، أتمنى عليك أنت تدرس النحو والصرف من جديد، أنا أكيد من أنك لا تميز بين الضمائر جيدًا، فبدلًا من (إياكم)، قل (إياهم)، وعوضًا عن التأشير والنظر لي والتمثيل بي، وجهها وصوبها نحو أصحاب الصف الأول، فأنا من أصحاب الصف(...؟!)، بعيد كل البعد عما ترمي
إليه"..
أختار مخرج البرنامج الأسبوعي(بسمات وطن) أن يكون موضوع الحلقة القادمة "إنجازات الحكومة في السنوات الخمس الأخيرة من إدارتها للبلاد"، وبالفعل جمعت مقدمة البرنامج المعلومات وكتبت الأسئلة للضيوف، وتم استقبال فخامتهم، وكان أول أسئلتها لأكبرهم رأسًا "ماذا قدمتم للبلاد في الفترة السابقة ؟"..
أجاب بكل بجاحة وكبر عين "قد خصصنا ميزانية من خزينة البلاد لتجهيز جيشنا في معاركه ضد أي عدو داخلي أو خارجي، أقمنا بشكل متواصل دورات تدريبية لأئمة المساجد لمساندتنا بالفتاوى التي يصدرونها كل ما احتجنا لها، كان لدينا مشروع هيئة لمكافحة الرذيلة في البلاد عبر لجنة شكلناها -قيد الدراسة-، عاقبنا بالسجن كل قلم حر يسرب معلومات عن ملفاتنا الخاصة المشفرة، ندفع بسخاء للذين يبلغون عن متمردين ومعارضين لسياستنا، وبحكم أن الأمطار بدأت تهطل بغزارة هذا الموسم.. قمنا ببناء
سد".
يقال أنه في تلك البلاد، ونتيجة للفلتان الإداري، ساد جميع مرافقها الفساد، فشُكلت لجنة لمكافحته، إلا إنها لم تسلم أيضًا من الفساد، ففُرخت منها جمعية لمكافحة فساد الأخيرة.. وتجذر الفساد، فأُقيم مركز لمكافحة فساد السابقة.. وترسخ الفساد، فأُشهرت هيئة لمكافحة فساد الآنف.. وتشعب الفساد، فأُنشئت منظمة لمكافحة فساد المذكورة؟ فلحقتها تشييد مؤسسة للقضاء على الفساد(كذا مرة واحدة؟!). وهكذا، حتى أصبح الفساد عمل ونشاط مؤسسي بديهي تشجر وتزهر في هذه البلاد.
قوانين تلك البلاد من أعدل القوانين التي صيغت في دساتير حول العالم، ولكن من حكم بها وأسقطها على الواقع أظهرها عكس ذلك تمامًا، فصارت القوانين تعاقب من يسرق لأجل أن يعيش وليس من يعيش لأجل أن يسرق، من يغتصب وهو مجنون وليس من يغتصب بجنون، من يُتهم بالتشطير مطالبًا بالحقوق المتساوية وليس المُطالب باللحمة وينهب، من يُسير أموره بالرشوة وليس من يرشي ليُسير أموره، من يكذب قاصدًا الحق وليس من يكذب قاصدًا الارتزاق والمجاملة والمسايرة، وقِس على ذلك الباقي. فما كان منا
سوى الدعاء "سلمت الأيادي التي صاغت القوانين وكتبته لننتهك"، ولتلك التي تطبقه تحية كبيرة في كل مرة نُقتل فيها.
في ندوة خاصة عن الصحة ومكافحة تهريب الأدوية وتزويرها وسوء استخدام المؤثرات النفسية والعقلية(المخدرات)، تبنتها ورعتها الحكومة، جاء فيها سيرة رئيس البلاد أكثر من سيرة محور اهتمام الندوة والضيوف والحضور، حتى أن الرئيس ذُكر أكثر من المخدرات، التي كانت سببًا بتجمعهم، ما جعلني أتساءل هل الرئيس أخطر من المخدرات؟ أم أن الندوة كانت الرئيس برعاية المخدرات وليس العكس؟
صعد مقرر الندوة المنصة، أخذ الميكرفون، وجاء على لسانه الآتي "نرحب بإدارة الأمن راعيي السلام والاستقرار في البلاد"، اشتعلت القاعة بالتصفيق الحار حتى كادت أن تتمزق الأيادي والتصفير من كل مكان يصدر، عدسات كاميرات القنوات المحلية الموجهة تركز على الوجوه اللي اعتلت المنصة وأصحاب الصف الأول وجزء من الثاني، فلاشات كاميرات ال MP4 تطرطق من هنا وهناك، تأخذ صورًا لكم وجه جميل وآخر مسئول، نادرًا ما كان يتذكر أحد
المصورين وجود حضور آخر يجلس بالخلف، هم مهملون(منسيون). وأضاف "نرحب باللجنة التحضيرية لهذه الندوة من أستاذ ودكتور وعلان وزعطان وستي فلانة وسيدي فلان"، تثاءب أحد المسئولين، فبتر المقرر القائمة الطويلة، واشتعلت القاعة بالتصفيق ودوت بالتصفير.
وتابع الترحيب بمحافظ المحافظة ووكلائه في شتى المجالات، واشتعلت القاعة بالتصفيق ودوت بالتصفير، وأضاف قائلًا "ولا ننسى أن نرحب بالقيادة الحكيمة والحكومة الموقرة ونشكر فخامته على جهوده" للمرة 100، واشتعلت القاعة بالتصفيق ودوت بالتصفير، وأردف قائلًا " نرحب أيضًا برعاة الحفل الكرام ومبادراتهم في التنمية"، واشتعلت القاعة بالتصفيق ودوت بالتصفير. وببرود أختتم فقرة الترحيب بقوله:
"وفي الأخير نرحب بكم، أنتم حضورنا الكرام"
عم القاعة هدوء فضيع ولم يصفق أو يصفر أحد، وارتسمت على الوجوه علامات استفهام كبيرة بجوار علامات التعجب، وانطلقت بتصفيقة تردد صداها في أنحاء القاعة مصاحبة بتصفيرة قوية تلتها ابتسامة عريضة غطت وجهي، ألتفت الجميع نحوي، وبتعجب راحوا ينظرونني، وكأنني عملت شيء مخزي أو غريب، ما كان من قبل شخصي الكريم إلا بأن ضممت رجلاي وغرست بينهما يداي، وركزت نظري في القاع على كيس شاي مبلل مستخدم لصيق به، بدأت أحركه بقدمي حتى أتناسى الموقف، وكأنني لم أفعل شيء.
تجاوزًا للحقيقة الفيزيائية "يتدفق الماء من الجهة الأكثر ضغطًا إلى الجهة الأقل ضغطًا"، وتجاهلًا للمثل المعيشي "جمال تعصر، وجمل يأكل العُصار"، نظهر بأننا لسنا متساوين معهم، طبعًا لا.. بل نحن أهم منهم بكثير، وهم بدوننا لا شيء، واقتباسا من رواية(أليس في بلاد العجائب)، أتساءل (هل يمكن أن..
تحصل على عمل براتب محترم في مرفق حكومي يحفظ كرامتك دون أن تلجا لاستخدام فيتامين (WAW)؟، تنظم بجهود ذاتية نشاط ثقافي أو اجتماعي دون خلفية سياسية؟، تتابع معاملة في إحدى المؤسسات الحكومية دون التعرض لابتزاز؟، تقول رأيك بصراحة في مسئول أو شخص مهم دونما التعرض للتهديد وربما للقتل؟، تشارك في نقاش دون أن ينتهي بك المطاف من قبل بعضهم بتكفيرك وتحليل دمك؟، تصل إلى منزلك آخر اليوم وفي جيبك قطعة نقود، فقد استنفذها أطفال
الشوارع؟..