ثامر سباعنة

سجن مجدو  -  فلسطين

 

Sbana3@yahoo.com

وحيد في هذه الزنزانة ... الزنزانة هي مكان لا يعلم قسوته إلا من جربه .. زنزانة صغيرة يبدد ظلمتها ضوء خافت وكأنه غير موجود ، جدران داكنة صمّاء تختزن آلاف القصص الأليمة التي سجلها أناس عبروها إلى المجهول ، جدرانُ باردةُ تتربصُ به من كل صوب، يكادُ يقسمُ أنَّ لها أنياباً وعيوناً لا يراها غيره، يطعنه البردُ بألف نصلٍ يجتازُ حوافَ روحه، من أينَ للجدرانِ بكلِ هذه البشاعة ؟ من أينَ لها بكلِ هذا الكره ؟ جدران كالحة السواد لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وفوق سوادها تمتلئ بالبرزات التي تكون كالأشواك تنهش جسد الأسير عندما يستند على الجدار ..

في الزنزانة تشعر بتوقف الزمان، و كل ما تراه هو السجان وهذا الجدار المعتم والذكريات، تتجاذبُه ذكريات بيته الصغير ، كان منزلاً دافئاً بالحب والحنان بينه وبين زوجته وطفلته، بيت يلمُّ شتاتَ أوجاعِه مع شريكة عمره، تراءت له طفلته الصغيرة وهي تركض نحوه لتضم رأسها إلى صدره وهي تصيح بابا حبيبي .. بابا حبيبي ... التمعتْ دمعةٌ في عينه لم يستطعْ مقاومة مخاضها، تمشتْ ببطءٍ على خده، مرَّر يده على قدمه التي ُعطبتْ وتهتكتْ أنسجتها لشدة التعذيب، استندَ على الجدارِ الباردِ محاولاً الوقوف ، لم تساعده ساقاه ... أحس بالجدار يمزق ظهره فابتعد عن الجدار ، بدأ يتأمل زنزانته وهو يفكر في نفسه : هذا مكانٌ معدٌّ للموت البطيء، هذا مكانٌ معدٌّ لمنْ يحبُ الوطن أكثر ... هو فعلاً مقبرة للأحياء .

أدار بوجهه نحو الجدار ... بدأ يتأمل حجم القسوة التي يحملها الجدار، (لن أستسلم لك أيها الجدار) هكذا صرخت نفسه .. خطرَ في باله أنه لنْ يهدرَ أيامه الباقية دون أثر على هذا الجدار .. بدأ يبحث في أرضية الزنزانة عن شيء يهزم فيه هذا الجدار ، لم يجد إلا حجراً صغيراً جداً ... التقطه ..و بيدٍ مرتعشةٍ بدأ يحفرُ على الجدارِ، لعل الجدار يشعر بأوجاعه وبحنينه، لم يكنْ الحفر على الجدار سهلاً ، وما كان في جعبته إلا حجر صغير ... بدأ يحفر ويحفر ويحفر ... اختار زاوية من الزنزانة لا يمكن للسجان فيها أن يرى ما يحفره ... حتى لا تزداد العقوبة عليه، رسم طفلته الصغيرة الحبيبة ..كتب عن دعوته الملاحقة وعن عائلته الحزينة الوحيدة الآن دونه ... رسم وطنه السليب المحتل .. رسمه بحدوده الحقيقية التي لا تقبل التفاوض أو التفريط.

جلسَ جانباً بعد أن نالَ منه التعب ، حدَّقَ بالجدار، ُخيـِّلَ إليه أنَّ الجدار يبكي ، مرَّ في باله أنه نجحَ في مسعاه، الجدارُ يبكي .. أخيراً الجدار يبكي بعد أن قضى طيلة فترة عزله بانتظار من يشاركه همومه وأوجاعه .

قالَ في نفسه : لقد انتصرت على هذا الجدار بعد أن حفرت عليه قصتي ... لقد رسمت الشمس بنورها على جدرانه المظلمة ونقشت صورة ابنتي البريئة على ظلمه وقسوته ..الآن انتصرت عليه بوجعي.

                


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   قصة