ناديا مظفر سلطان
يؤسفني أن أخبركم أن حالة مريضكم ميؤوس منها ...إنه يفارق!
نظر الجميع إلى الطبيب دون تصديق ، هتف الأخ الأصغر بغضب : لابد من وسيلة ...لا يمكن الاستسلام ببساطة هكذا، تصرف ... أنت طبيب.
بدا وجه الطبيب خاليا من أي تعبير أو انفعال ، التمعت عيناه بنظرة زجاجية باردة:
نجاته مستحيلة ، ولكن ربما أستطيع مساعدته للعيش بضعة شهور فحسب ...ولكن هذا سيكلفكم أموالا ، ودماء . أردف الطبيب بذات النبرة الروبوتية الخالية من الانفعال .
دماء؟؟؟؟؟ تساءل الكهل البدين ، وبدا أنه صديق مقرب من الأسرة.
أجل دماء!... مريضكم يحتاج إلى دماء كي يستطيع البقاء على قيد الحياة . "هو يحتاج كل يوم إلى ضحية ".
للمرة الأولى لاح شبح ابتسامة صفراء على وجه الطبيب :
ليس المهم من الضحية ، طفل ، طفلة ، شاب ، شابة ، "هو يحتاج يوميا إلى دماء آدمية لاستمرارية حياته " ، وهذا بالطبع أمر ثمنه باهظ ، إنها مهمة مكلفة بلا شك.
اندفعت امرأة شعثاء الشعر، غبراء السحنة ،زائغة العينين ، دست بيده مبلغا من المال ، بدا أنها مقربة أيضا للأسرة .
همست بحشرجة شيطانية : افعل ما تستطيع ، ولن نبخل عليك ، زودنا بالضحايا ، ونزودك بالمال!
تمتم الطبيب وهو يتأمل المبلغ باستياء : المهمة شاقة ، كما أنني أحتاج لمساعد .
أشاح المساعد بوجهه محاولا تجاهل الحوار، التقط بلهفة الرزمة المالية الإضافية ، وما لبث أن غيبها بسرعة في جيب معطفه الأبيض.
سدد الجميع أنظارهم إلى المريض المسجى خلف القفص الزجاجي بدا وكأنه وحش جريح ، قاتل ومقتول ، صريع ومصارع بآن واحد ، تبادل وإياهم نظرات ثاقبة ، تنم عن مباركته للصفقة المبرمة .
لم تكن مهمة المساعد سهلة فقد كان عليه العثور على ضحايا يومية ، مما اضطره أحيانا للاستعانة بجيرانه وأقربائه و معارفه من أهل الثقة كانت مهمتهم "اصطياد وتضليل"....
حتى كان ذلك اليوم شعر المساعد أنه مكدود ومرهق ، فقد انقضت ستة شهور، وهو يعيش وسط دوامة من القتل والدماء وأجواء الاحتضار ، بل بدأ ينتابه شعور غريب وكأنه لا يكاد يختلف عن المريض المحتضر القابع في القفص ، المشدود إلى "أجهزة الحياة" . كم من الأبرياء ماتوا من أجل أن يحيا هذا الشقي ؟ تساءل بحقد.
شعر فجأة بالغضب... والانهاك.. والقرف .. والاحباط ...وشيء من الندم ، حتى انتبه فجأة إلى أن النهار قد شارف على الانتهاء ولم يأت صديقه بعد بالضحية المرتقبة ، كما وعد ، مما زاد الطين بلة .
هجمت فيوض الظلام إلى الغرفة البائسة ، ونزيلها المحتضر، قرر" المساعد "بلحظة يأس أن يسرع إلى الشارع ويختطف أول إنسان يمر بالمشفى ، عندما فتح باب الغرفة وأطل صديقه ، وهو يدفع بسرير ذي عجلات إلى الغرفة
صاح الرجل لقد تعبت من" الصيد والتضليل" هذه هي المرة الأخيرة التي أساعدك بها يا صاح ، دراهمك المعدودة لا تستأهل هذا الجهد المضني ... إليك الضحية الجديدة اختطفتها من غرفة التخدير فقد كانت تنتظر "عملية إصلاح غدة"
هاؤم صبية مثل شمس الدجى .عساها تضيء ليلك البهيم .... لسويعات لا أكثر
قهقه باستخفاف وهو يتناول أجره ثم اختفى كلمح البصر .
دفع "المساعد" السرير بتثاقل إلى حيث المريض ، أزاح الملاءة البيضاء عن وجه الضحية ، غاص قلبه دون قرار ، لم يستطع أن يكتم شهقة عالية ، صاح مشدوها : يا إلهي.. ما هذا الجمال!
ازدرد ريقه بصعوبة ، وأخذ يتأمل الفتاة ، وجه له إشراقة صبح فتي ، يحفه ليل طويل حالك ..جبين وضاء عريض... أنف جميل أقنى ، ثغر مطبق برصانة برعم ورد جوري ، يعد بالتفتح .
همس يخاطب نفسه: يا إلهي كم كنت أتمنى زوجة كهذه تضيء نهاري، وتدفء ليلي ...تحسس مرمر جيدها الطويل.. ولم يجرؤ أكثر ، كان فيها نقاء عجيب ، كبل يداه وشل إرادته .
هل من العدل أن يواري هذا الحسن التراب؟ تمتم بأسى ، شعر كم هو متورط ، وكم هو بائس وتعيس ، وأنه يمشي في طريق اللا عودة مع هذا المريض الكريه ، تولد عنده شعور عظيم مفاجئ بالكراهية نحوه ، وأنه سبب لكل ما هو من بؤس وتعاسة.
بدأت شاشة الجهاز تظهر اضطرابات قلب المريض فنسي "المساعد" صراعاته ، وأخذ يوصل بسرعة أنابيب نقل الدم من الضحية إلى المريض.
بدأ السائل الثمين بالتدفق عبر الأنابيب ، عاد شيء من التورد إلى وجه المريض ، وبدأ وجه الضحية يمتقع ، ذكرته نصاعته بياسمين مرابع الطفولة ...أمسك بيديها ، تحسس أناملها الدقيقة ، وأظافرها الشفافة المقصوصة بإتقان ، وبحركة لاإرادية رفع راحتيها إلى شفتيه وقبلهما بولاء واحترام وحب ..حب عظيم اقتحم على حين غرة سويداء قلبه !!! وثبت إلى أنفه - من جلدها- رائحة صابون الغار البلدي ، تذكر بغتة أمه وهاله الشبه بينهما ، دفن وجهه بين راحتيها وأجهش بالبكاء.
أخذت البرودة تتسلل إلى يديها حيث يحتضنهما بين راحتيه،...وفجأة ، فتحت عينيها ، أطل بريق ماستين سوداوين تحت الأهداب الطويلة المرتعشة ، لمح في النظرة الخاطفة ، حب وألم وعتاب كبير...ثم أطبقت .
هب واقفا ومن دون تردد ، أخذ يعمل بسرعة محمومة ، نزع الأنابيب الموصلة إلى المريض ، توجه إلى جهاز الحياة ... تردد لثوان ثم أطفأه ، علا صفير رتيب خافت من جهاز القلب مؤذنا بالرحيل الأبدي.
التفت إلى الصبية ، ضمها إلى صدره بقوة ، صرخ من بين دمع سخي ، وآهات حرى ، لابأس عليك ..لا بأس علينا.. سأعوضك بدمي ، ستشفين وتعودين لي ، أقسم لك ، سنصنع معا حياة أفضل.