ليته كان المرشح
" قصة قصيرة "

محمد شوكت الملط
إنه أول من تعرفت عليه من التلاميذ، فى اليوم الأول الذى وطأت فيه قدماى مدرستى الإبتدائية ، استمرت صداقتى معه حتى افترقنا، بعد أن تخطينا معاً المرحلة الثانوية، ثم ذهب كلٌ منا فى طريق .
ذكريات الطفولة البريئة، والمواقف الإنسانية الجميلة التى عشناها معاً، ما تزال محفورةً فى الذاكرة، لم تتأثر لا بمرور الأيام والسنين ، ولا بكثرة المشاكل والهموم.
لازلت أتذكر "ماهر" وهوماهرٌ بالفعل – اسمٌ على مسمى - فلديه موهبةٌ فذة فى الخطابة منذ نعومة أظافره ، ساعد فى صقلها و تنميتها خاله الذى كان يعمل مدرساً للغة العربية .
كان "ماهر" إذا أراد أن يخطب فى الناس يقف مطمئن النفس هادئ البال قوى الجَنان غير هيَّاب ولاوجل .
فى حياة "ماهر" يومٌ لا يُنسى ، ذلك اليوم الذى حضر فيه إلى الفصل مفتش اللغة العربية، حينئذ كنت أنا و"ماهر" فى السنة الأخيرة من التعليم الإبتدائى، يجمعنا مقعد واحد.
طلب المفتش منا - نحن التلاميذ - أن يُلقى أحدنا كلمةً فى حب الوطن، تقدم الأول فتلعثم ... وقف الآخر الذى لم ينطق سوى جملتين فقط ... صمت بعد أن احمر وجهه وتصبب عرقاُ ... لم يستطع استكمال الكلمة .
طلب المفتش من الثالث ...اعتذر على استحياء...وكما اعتذر...فقد اعتذر الباقون .
أما التلميذ "ماهر" الذى بمجرد أن أشارإليه المفتش، انطلق فى الحديث كالأسد المرعب ... بهر المفتش الذى رأى فيه طلاقة اللسان وسلاسة البيان وبلاغة الكلام .
فى هذه اللحظة أدخل المفتش يده فى جيبه وأخرج منها ورقةً مالية من فئة الجنيه - يساوى الآن مبلغاً كبيراً - قال له : أُبشرك يابُنى بمستقبلٍ باهر ، ولكن احذر الغرور ، ولا تفرط فى موهبتك ، فموهبتك حُجةٌ عليك .
فى إحدى سنوات المرحلة الإعدادية تُوفى مدرس الخط العربى داخل الفصل ، وهو يلقى علينا درساً فى فن الخط العربى، كان المدرس محبوباً من الجميع، من زملائه المدرسين ومن الطلاب، ومن العمال والإداريين، سيرته الطيبة لا يجادل فيها أحد، يتمتع بأخلاق حميدة ، يتفانى فى أدائه لدروسه.
فى صباح اليوم التالى للوفاة وقف "ماهر" بتلقائيته المعروفة ، يتحدث فى طابور الصباح كلمته المعتادة ، فإذا به يتكلم باكياً عن مدرس الخط ، لم يبكِ الحضور تأثراً ببكاء "ماهر" فحسب ، ولكنهم بكوا أيضاً على ما ساقه من مواقف نبيلة لهذ الرجل وعن دماثة خلقه ، وكأنهم يسمعون عنها لأول مرة، ذكَّرهم بمآثر المتوفَى ومعاملاته الراقية ، التى مازالت راسخةً فى ذاكرتهم ، وكأنه لا يزال بينهم حياً يُرزق .
وبعد أن أنهى كلمته لم يتوقف الجميع عن البكاء ، هُرع إليه كل من كان فى فناء المدرسة، لا ليحيوه على كلمته الرائعة فحسب، وإنما ليقدموا له التعازى ، وكأنه أحد أفراد أسرته .
استمر "ماهر" فى تفوقه الدراسى فى المرحلة الثانوية ، ولم ينسَ أن ينمى موهبته الفذة فى الخطابة والقدرة على التحدث بجاذبية مع كل من يلتقى به ، من خلال توجيهات خاله بقراءة كتبٍ بعينها ، ومتابعته فى أدائه للخُطب والدروس التى كان يلقيها فى بعض الزوايا والمساجد الصغيرة .
فى تلك المرحلة ذاع صيته فى الخطابة، واشتهراسمه بين الناس كخطيبٍ مميز، حتى أن كثيراً من محبيه – وما أكثرَهم – سموَه كشك الصغير، على أمل أن يصل فى علمه وشهرته إلى خطيب القرن الشيخ عبد الحميد كشك .
من باب حب الإستطلاع ذهبت لحضور مؤتمرٍ إنتخابى لأحد المرشحين للبرلمان، وجدت المكان يضج بالحاضرين بالرغم من برودة الجو وتأخر موعد المؤتمر، عدة آلاف من أهل المدينة توافدوا على المكان ، بصعوبةٍ بالغة تمكنت من الفوز بمقعد، جلست عليه سعيدا.
تصفحت العديد من الوجوه، أعرف كثيراً منهم... معظمهم ليس لهم فى السياسة ، ولا تأثيرَ لهم فى العملية الإنتخابية، بل إن منهم العدد الأكبر من صغار السن... تيقنت أن هناك من حرضهم على هذا التواجد المكثف، ولا يخفى على ذوى الألباب أن الهدف من وراء ذلك هو تكثير عدد الحضور.
وبعد أكثر من ساعة حضر المرشح ومعه عشرة من المرافقين له، جلس بعضهم على المنصة ... بجوار المرشح رأيت شخصا ، حدثتنى نفسى ... ربما أعرفه .
بعد عدة لحظات عرفته ...إنه صديقى القديم"ماهر"،الذى لم أره منذ ما يقرب من عشرين عاما ، علمت من قبل أنه كان يعمل بإحدى الدول العربية ، فى إحدى الوزارات المهمة ، فتح الله عليه أبواب الرزق الوسيعة .
حدثتنى نفسى ...ما هى علاقته بالمرشح أوبالسياسة ؟ ، فأنا لم أسمع عنه طوال عمرى أن له باعاً فى الأمور السياسية ... ولا أعرف أنه على علاقة بالمرشح – صاحب المؤتمر – هذا المرشح ليس منتمياً للحزب الحاكم وفقط ، وإنما هو من رموزه الشهيرة .
ربما لا يكون هذا المرشح من الفاسدين فى النظام ، ولكنه على كل الأحوال من رجالات هذا الحزب الفاسد ، من الذى أتى بصديقى إلى هنا ؟ ومن الذى أقنعه بحضور هذا المؤتمر؟ ، صديقى رجل المبادىء والمواقف المحترمة - كما عرفته منذ أمدٍ بعيد - ...... تساؤلات ظلت تراودنى من حين لآخر... لم تفارقنى حتى الإعلان عن بداية المؤتمر .
بدأ المؤتمر بوقوف شابٍ يقدم المتحدثين ، ثم وقف رجل يُلقى كلمةَ ترحيب بالضيوف ، كلمة عادية لاطعم لها ولا رائحة ، ثم جاء الدور على صديقى "ماهر" ليُلقى كلمته ، بدأ بمقدمة ...سرعان ما شدَّت إنتباه الحضور ، وأجبرتهم حلاوة عباراته على الإنصات ، مما أشعرهم بدفء الجو رغم برودته .
تحدث "ماهر" فى البداية فى الشئون السياسية وكأنه أحد السفراء أو وزيرٌ للخارجية ، وسط انبهار الحاضرين ، والذين لم يتوقفوا عن التصفيق.
انتقل إلى الحديث عن الأمور الإقتصادية ، فبالرغم من صعوبة مصطلحاتها ، إلا أنهم تفاعلوا معه لقدرته الفائقة على تبسيطها ، وكذلك تطرق إلى المجالات الإعلامية والتعليمية وغيرها ، بالحديث عنها بأسلوب يبهر المثقف ويقنع الرجل العادى.
اتجه إلى الحديث عن المشكلات الحياتية التى يعانى منها الناس ، فأيقنوا أن هذا الرجل يتحدث باسمهم ، إنه واحدٌ منهم رغم أن كثيراً منهم لايعرفونه لغيابه عن أرض الوطن سنين طويلة .
ظن كثير من الحضور أن "ماهر" هو المرشح ، رغم أن الشاب الذى قدَّم للمؤتمر أشار إلى المرشح وعرَّفهم به ، إلا أن انبهارهم بشخصيته وبحديثه أعماهم عن الحقيقة ، فاذا بهم يهتفون ...ماهر ..ماهر ...ماهر...
هنا احمر وجه المرشح ، وقع "ماهر" فى حرجٌ كبير ، لأنه فى الحقيقة لايقصد ذلك... فقد التركيز للحظات قليلة ...مرت عليه كأنها ساعة ، استجمع قواه وتركيزه مرةً أخرى .
هنا تذكر ما تعلمه منذ نعومة أظافره ، أن الخطيب الحصيف هو الذى يراعى مقتضى الحال فى جميع أحاديثه وكلماته ، فلكل مقامٍ مقال ، فالجماعة الثائرة الهائجة تُخاطب بعبارات هادئة لتكون برداً وسلاماً على القلوب .
استأنف "ماهر" حديثه بهدوء ... وطلب منهم التوقف عن الهتافات والتصفيق ، قال لهم : أحبائى الإخوة ... إخوانى الأحبة ... أنا لست مرشحاً ولا أرغب فى الترشح للبرلمان ، وإنما المرشح هو هذا الرجل ، وأشار إلى المرشح ...ربما تندهشون ، وربما تقولون : وما الذى دعاك للحديث فى هذا المؤتمر؟ ، فأقول لكم : إن الذى دعانى للحديث أمامكم هو هذا المرشح ، وهو صديقٌ قديم لى ، أقسم على أن أتحدث فيكم بالرغم من علمه بصراحتى .
تنهد "ماهر" ، واستأنف حديثه قائلا : فكنت بين خيارين لا ثالث لهما ، أحلاهما مر، إما أن أرفض طلبه ولا أبرَّ بيمينه ، وهذا أمر صعبٌ علىَّ ، وإما أن أُلبى طلبه ، وآتى إلى هنا وأتكلم ، ولكنى لا أتكلم – والحمد لله – إلا الحق ...فالبرغم من صداقتى لهذا المرشح إلا أننى لست من أنصاره ولا من مؤيديه ، ولست مقتنعا بمبادىء حزبه ، فأنا من المعارضين لهذا الحزب الجاثم على صدور الناس ، ومن المطالبين باسقاطه ورحيله.
ارتفع صوت "ماهر" مدوياً ... أكمل حديثه بقوله : إن هذا الحزب نشر الفساد فى البلاد ، وأفقر العباد ، جعل من الوطن سجناً لأبنائه ، نُزعت الرحمة من قلوب أعضائه ، فنهبوا الأموال وخرَّبوا الديار ، وأنا أُعلنها الآن : على هذا الحزب أن يغرب عن وجوهنا ، وأن يترك للشعب الأبى حكم البلاد ... وهذا هو موقفى .
أثارت كلماته القوية مشاعر الناس مرةً أخرى ، ولكنها بصورة أشد ...قالوا له : ليتك كنت المرشح .
استمرت الهتافات الحماسية ... فليسقط الحزب الحاكم ...وليسقط رئيسه ...انقلب الحضور بين لحظة وأختها من مؤيدين للحزب الحاكم إلى مناوئين له ومطالبين برحيله.
وعلى غير المتوقع ، وعلى غير المعتاد ، وقف المرشح - صاحب المؤتمر - شامخا ، طالباً من الناس الجلوس والهدوء ، قال لهم بكل ثقة : قبل بدء هذا المؤتمر ، وقبل حضور هذا الرجل العظيم - صديقى القديم - كان لى موقف ...أما الآن فلى موقف آخر...
لم أتأثر فى حياتى مثلما تأثرت بكلمات هذا الرجل ، لم يستطع أحد – طوال عمرى – أن يُغير موقفى ويوجهنى إلى طريق آخر سوى هذا الرجل.
إننى منذ أن انضممت إلى هذا الحزب الفاسد ، لم أفكر مطلقاً إلا فى نفسى وفقط... لم أفكر إلا فى الوصول إلى مقعد البرلمان ، وليكن ما يكون ... ليس من ضمن اهتماماتى أية حلول لمشاكلكم - وما أكثرها - ... ليس للوطن فى قلبى مكان ، الناخبون فى نظرى - وفى نظر الحزب الحاكم - مجرد وسيلة للوصول للغاية المنشودة ... نخدعهم بالوعود البراقة والشعارات الكاذبة أيام الإنتخابات ، وبمجرد إنتهائها تعود ريمة إلى عادتها القديمة ... سرعان ما ينسى الناس ما وُعدوا به .... وأنا كذلك من هذا المنبر أعلنها أمامكم الآن - وبكل قوة وبكل وضوح - أننى منسحب من سباق هذه الإنتخابات الزائفة ... ليس هذا فحسب ، ولكنى أعلن انضمامى للشرفاء المعارضين لهذا الحزب الكاذب .
تصفيق مستمر وهتافات مدوية من الحضور ، زلزلت أركان المدينة ، تجمع على أثرها معظم ساكنيها ، هُرعوا إلى مكان المؤتمر ، فرحين بما حدث ... مجمعين على حتمية إسقاط النظام الحاكم...إنهم جميعا كانوا لا يدرون وقتها أنهم أشعلوا أول شرارة ثورة الكرامة .
كانت تلك الأحداث مفاجئة لقوات الشرطة التى جاءت لتحرس المؤتمر ، وتحمى مرشح الحزب الحاكم ... ارتبك رجال الشرطة ...ترددوا ....تساءلوا فيما بينهم ماذا يفعلون ؟ ...إنهم فى حرج شديد ...هل هم مع المؤتمر أم ضده ؟ ... لم يَدم تساؤلهم كثيراً ، فسرعان ما جاءتهم الأوامر باقتحام منصة المؤتمر ... وأن يقبضواعلى ذلك الرجل - الذى أهان النظام واسهزى بالحزب الحاكم - ، وأن يزجوا به فى السجن .
وقبل أن ينفذ قائد قوات الشرطة الأوامر التى وصلته ، فكر لثوانٍ قليلة ... سبحان الله ...سبحان مغير الأحوال ومقلب الأمور ... مؤتمر أُعد له بدقة ...أُنفق عليه ببذخ ... جُمع له الناس بكثرة... مؤتمر لا يُسمح لغير رجا ل النظام ومرشحيه بإقامته... خلال لحظات قليلة ينقلب إلى مظاهرة شعبية ضد الحزب والنظام والرئيس !!!
بعد أن قام قائد قوات الشرطة بتنفيذ الأوامر ... بالقبض على "ماهر" وإيداعه السجن ... لم يمر سوى وقتٍ قليل عاد القائد لينفذ أوامر جديدة ، بهدم السرادق الذى أُقيم فيه المؤتمر ، والذهاب فورا إلى بيت المرشح ، ليلحق بالصديق "ماهر" فى زنزانة واحدة .
أما أنا فقبل هذا المؤتمر لم يكن لى شأنٌ بالسياسة ، ومن يومها أصبحت أتكلم فى السياسة وأتنفس السياسة ....وتغيرت أحلامى فى المنام كبقية الشعب فباتت أحلاماً سياسية ... أحلاماً ثورية... سرعان ما انفلبت إلى خواطر ثم إلى احتمالات ثم أضحت حقيقةً لا خيالا...إنها ثورة الكرامة والتى مازالت مستمرة .
تمت
كتبها
محمد شوكت الملط
MSH_MALT2011@YAHOO.COM
مصر
هاتف محمول
01005312886
رابط صورة الكاتب
http://www.sharkiaonline.com/upload/images/052352009.jpg

المراجع

pulpit.alwatanvoice.com

التصانيف

أدب  مجتمع   قصة