ناديا مظفر سلطان

أسند ظهره المقوس إلى العمود ،إذ شعر أن ساقيه الهزيلتان ترتجفان وهنا وبردا، عندما انتابته نوبة من السعال الحاد.

دفن وجهه المربد في المنديل ، بينما توالتنوبات  السعال حتى لكأنها لن تنتهي أبدا هذه المرة .

 شعر أن قلبه سينخلع من بين ضلوعه ، وتدحرجت حبات من العرق البارد على صدغيه الضامرين وازدادت عيناه جحوظا .

حاول أن يتجاهل قطرات الدم التي ضرجت المنديلفدسّه في جيبه ، وأخذ نفسا عميقا بعد انتهاء النوبة إذ شعر ببعض الارتياح.

مضى زمن ليس بالقصير وهو ينتظر الباص.

تمتم حانقا : لعنة الله على الباص وساعته.

فجأة توقفت سيارة فخمة للغاية تقودها سيدة لم يستطع أن يتبين ملامحها وراء النظارة السوداء التي غطت جزء كبيرا من وجهها .  لوحت السيدة بيدها وكأنها تدعو شخصا ما، التفت وراءه ليعرف من المدعو ، ولدهشته كان المكان خاليا تماما إلا منه !

لم يصدق عيناه اقترب مذهولا بخطوات متعثرة ليستطلع الأمر.

تفضل اركب ، هكذا هتفت السيدة بلهجة لا تخل من الأمر.

أنا؟؟؟

بدا وكأن صبرها بدأ ينفذ.

نعم أنت ! تفضل معي إذا سمحت !

سرى في بدنه المنهك دفء لذيذ غامر وهو يدخل السيارة ، أحس  أنه على وشك الإغماء من فرط الارتياح ، لولا عطر السيدة الفاخر الذي أعاد إليه شيئا من صوابه .

حدث نفسه:لايهم إذا كانت ستأخذني إلى جهنم لن أبالي حسبي لحظات في النعيم!

سآخذك معي إلى بيتي أولا ، ثم أوصلك حيث تشاء.

خاطبته وكأنها قرأت مايدور في رأسه.

بلع ريقه بصعوبة بالغة ، وجاهد في كبح نوبة جديدة من السعال  .

كان يعلم أنه من القبح  والسقم بحيث لايمكن أن يلفت نظر أي أنثى على الإطلاق...ولكن من يدري؟؟؟

توقفت السيدة أمام مبنى فخم وما لبث أن اندفع الحارس وفتح لها باب السيارة

انطلقت السيدة مسرعة باتجاه المصعد  ،وتبعها الرجل مهرولا وكأنه كلب يخشى أن يتوه عن صاحبه

دست في يد الحارس مبلغا من المال ، فانحنى هذا بخشوع وهو يغلق باب المصعد .

في الطابق الخامس توقف المصعد ،هتفت به السيدة وهي تفتح باب الشقة : تفضل!

ل دهشته بالغة فقد كان المكان  متواضعا  تعمه الفوضى ويكسوه الغبار ولايتناسب البتة مع  مظهر السيدة الثري، معطف الفراء الباهظ الذي ترتديه ،والمجوهرات التي تزين بها جيدها ومعصمها وأصابعها .

تصدت له صورتها على الجدار المتصدع ، بدت له أكبر سنا وأقل ملاحة .

برز غلام في الثانية عشر من العمر  تبعه آخران أكبر سنا  ثم فتاة  بدا واضحا من الشبه بينهم أنهم إخوة كانوا جميعا تلوح في أحداقهم حرارة الحمى.

ابتسمت السيدة ابتسامة مصطنعة وهي تخرج من حقيبتها زجاجة كبيرة رخيصة الصنع  فيها سائل أصفر وكأنها زجاجة دواء

 أحضرت لكم ياأحبائي الدواء . وإذا لم تشربوه ،هل تعرفوا ماذا سيحصل لكم؟؟؟

 هكذا صاحت تخاطبهم

التفتت إلى الرجل وقالت وهي تشير إليه بحركة مسرحية مصطنعة :

 هذا هو مصيركم!

شعر الرجل بالمهانة وثارت كرامته لبرهة ،  ثم ما لبثت أن  تطامنت ثورة الكبرياء الجريح في نفسه ، فأطرق يتمتم : ألم أرض بدقائق من النعيم  مهما تكن النتائج؟

فتح باب الغرفة ودخل رجل على كرسي متحرك كان الخوف واضحا في عينيه

اسمعوا كلام خالتكم يا أولادي  واشربوا الدواء هل تريدون أن تنتهوا إلى هذا المصير ؟

تململ المريض في مجلسهباستياء ، وعادت نوبة السعال تلح عليه بعناد محاولا كبحها ما أمكن

 لم تنجح محاولته فاستسلم لنوبة بدت أشرس من سابقاتها ، انقضت لحظات طويلة والكل يرمقه بذعر واشفاق لا يخلو من اشمئزاز وغضب

نعم ! اسمعوا كلام خالتكم ، لقد أوصانا الله بطاعة الوالدين!

لم ينتبه الرجل إلى العجوز الملتفة بملابس الصلاة والتي كانت تجلس في زاوية الغرفة  إذ  كانت تفترش سجادة صغيرة على الارض .

صاح الأصغر سنا لن أتناول الدواء وهذه ليست أمي لألتزم بطاعتها.

 تزايد الخوف في ملامح الأب المقعد وصاح بأولاده موبخا : يا أولادي كونوا عاقلين مرارة الدواء ولا المرض العضال ،تذكروا واتعظوا سيفتك بنا المرض جميعا . اللهم ارحمنا .

انتبه فجأة إلى حقيقة أن زوجته أحضرت الرجل المريض ليس بغاية الاعتبار والحث على تناول الدواء وإنما لنشر العدوى فعلا بين أولاده فاستبد به هلع حقيقي .

لا تغضبي يا عزيزتي سيشربوا الدواء حتما.

 غمز بعينه لأكبرهم سنا ، فلم يأبه له احد من الاولاد!

حسنا أنتم تعرفون عقوبة من يعص أوامري ، سأمنع عنكم الطعام ، وأحبسكم في الدار ، فلاخروج لكم ، ولا نقود معكم.

استشاط أصغرهم غضبا وبدا –و للغرابة - كأنه أكثرهم شجاعة ، صرخ بأعلى صوته:

 أنا أعرف أن هذا ليس بالدواء إنه عقار منوم فحسب ، سننام جميعا بينما أنت تفعلين ماتشائين كما فعلت خلال أعوام طويلة تسرقين مالنا، وتعيثين الفساد في بيتنا ،وتستغلين عجز أبانا وضعفه

بل إن  دواءك التعيس هذا هو الذي أرداه مريضا  وشل حركته .

هتف الأخ الأوسط مؤازرا أخاه:

قد يكون أبونا عاجزا حقا ، ولكننا لسنا مثله ولن نكون.

اندفع الغلام نحو خالته فجأة واختطف منها الزجاجة  فوقعت منه و ارتطمت بالأرض فتحطمت وانتشرت شظاياها  

تطاير الشرر من عيون الخالة ،  فصفعت الغلام صفعة عنيفة أردته أرضا  .

انغرس حطام الزجاجة في خده الغض ودخل بعضه في عينيه فصرخ متألما .

ذعر إخوانه فهبوا لنجدته بينما انكمش الأب في كرسيه خائفا.

سمع طرق على البابففتحت السيدة

 

عفوا ولكننا سمعنا ضجة عالية وأردنا أن نعرف ماذا يحصل بالضبط هل من ضرورة لإبلاغ الشرطة ؟

سأل الرجل الطويل الواقف لدى الباب بلهجة ركيكة كان يرتدي بنطالا من نوع الجينز وفانلة بيضاء ويعتمر طاقية لها حافة عريضة تحجب قليلا عيناه الزرقاوين وشعره الأشقر.

تغير موقف السيدة فجأة ففارقتها السمة العدوانية بعض الشيء و جاهدت أن تبتسم

أهلا بك (أيها الجار) لا بالطبع ، إنها مشكلة عائلية ....شكرا للسؤال!

تصدت الابنة الشابة له

 وأنت ما شأنك ؟ وكيف تدعي أنك سمعت الضجة وأنت تقيم في الطابق العاشر ؟

انحنى الرجل بأدب مفتعلا الكياسة والتهذيب

كنت في زيارة ل جارتكم بالشقة الجنوبية فسمعنا الضجة وشعرنا بالقلق عليكم

كانت الجارة  فعلا تقف وراء الرجل طوال الوقت ولكن لم يلحظ أحد وجودها لقصر قامتها وضآلة حجمها

برز ت امرأة ذات شعر أصفررديء الصبغ وعينان رماديتان شاحبتان .

هتفت بصوت متهدج وكأنها على وشك البكاء:

ياإلهي ! كم شعرت بالذعر وأنا أسمع تحطمزجاجة الدواء!! ثم صراخ الطفل المسكين ! لم أعد أشعر بالأمان في هذه المبنى وأنا امرأة وحيدة وليس عندي معين ! ثم استدركت بصوت خافت مصطنع الحياء لولا زيارات جارنا لي ....أحيانا !

فعلا من محاسن الصدف أنني كنت في زيارة لهذه المسكينة  ! أكد الجار أقوالها ، ثم التفت للجميع

 لاتنسوا ياأعزائي أن قوانين البناية تفرض عليكم مراعاة الهدوء وخاصة بعد وقت محدد من الليل حرصا على راحة السكان وأنتم تعرفون أنني رئيس لجنة أمن واستقرار البناية

فتح باب المصعد فجأة وأطل الحارس ومعه كلب أسود من فصيلة الدوبرمان

أوامرك سيدتي ، خاطب السيدة  وهو يحدق في الأولاد بنظرة منذرة و متوعدة  ،

نبح الكلب عاليا محاولا الانطلاق للانقضاض على الأولاد

كان الغلام يئن من جراحه النازفة  وقد غطى عينه اليمنى براحتيه حضنته أخته وانضم إليهما باقي الأخوة تذكروا أنهم منهكين فعلا من التصدي للجميع  ،كما تذكروا أنهم لم يأكلوا منذ الأمس إضافة إلى أعراض الحمى التي أنهكت قواهم . تجمعوا في ركن من الدار

بكى الأب المقعد في صمت ،  بينما أخذت الجدة تبسمل وتحوقل

 وفجأة سعل المريض  سعالا حادا فانتبه  الجميع  إليه ولكن يبدو أن أحدا ما لم يستغرب وجوده

كأنما أطربه سماع  نوبات السعال  المتواصلة فانتهز الفرصة ليتكلم ،أخذ الجار يخطب بحماس:

 إذا لم تكونوا قادرين فعلا على اتباع قوانين هذا المبنى المحترم ، فأنا مضطرلإرسال من ينوب عني في ذلك ... وطبعا سيقيم عندكم إلى حين ، ليضمن سلامة وأمن البناية وخاصة جارتكم  كونها امرأة ضعيفة وليس هناك من يدافع عنها!

ابتسمت الجارة  بوداعة واستسلام والتصقت أكثر بمايكل وهي تمسح أنفها المعقوف براحة يدها

مرت لحظة صمت لم يسمع فيها إلا بصاق المريض بعد أن هدأت حدة السعال

 هب الأخ الأكبر للمرة الأولى  وتقدم بعزم :

أعدك أيها الجار العزيز ، عفوا "يا صديق جارتنا العزيز" أن نلتزم بالقوانين ولاداع من الآن وصاعدا أن تكلف نفسك هذا العناء ، سنحل مشاكلنا وحدنا .لا تنس أن في دارنا مريض ، وربما العدوى ستسري إلى مندوبكم أيضا فيبتلي بالداء العضال ، ألا تذكر ما حل بهذا الذي أرسلتموه إلى الشقة الشرقية .

بوغت الجار فأطرق صامتا ثم تقهقر منسحبا أمسك  بيد الجارة  ،واختفى الاثنان في دارها.

أخذت السيدة تتحدث إلى الأولاد ببرود:

حسنا أنتم تعرفون أن والدكم قد تخلى لي عن جميع أملاكه وأنكم لاتملكون شروى نقير. سأغادركم الآن.

ترنح المريض  وهو يقف: سيدتي!لقد وعدت أن توصليني إلى داري ؟

ابتسمت السيدة ما رأيك ياعزيزي أن تقيم هنا . بما أنني مالكة الدار فأنا أوصيك برعاية زوجي المقعد و أولاده العاقين .

خلال لحظات خاطفة تأبطت حقيبتها الثمينة وانطلقت... صفقت الباب بعنف خلفها  وسمع الجميع الباب يقفل من الخارج تناهت إليهم ضحكتها الساخرة  وراء الباب:

 الليل طويل ،والباب موصد، والمرض سيفتك بكم جميعا ،الم أنصحكم بالدواء ؟وأقل لكم أنه خير من الداء العضال؟؟؟

سمع صوت  الحارس وهو يدق على باب المصعد بعنف مناديا: سيدتي أجر الشهر الفائت ؟

 نبح الكلب بقوة، ثم تباعد صوت الاثنان .

شعر المريض أنه منهك فعلا  ،فتمدد على الأريكة ، أحس بالدوار ، واربد وجهه،  فاستحال لونه إلى أزرق رمادي ،ثم علته صفرة مروعة ، لفظ أنفاسه الأخيرة ،ودخل عالم من الصمت الأبدي.

خيم سكون رهيب على المكان.

  مد الأخوة أيديهم وتلاحموا،  تلفتوا بثبات باحثين عن مخرج . توجهوا إلى النافذة  فتحها أحدهم مفعم النفس برجاء متين ،وعزم لا ينقضي ،  تساءل :هل حقا الليل لازال طويلا؟؟

 كان شعاع  الفجر في الأفق يعد أن ينبلج .

تسللت أول خيوط من الضياء إلى المكان  ..ضحكت شمس الصباح فتردد صداها في الأركان . اشرأبت شجرة برتقال قريبة وهي تنوء بأغصانها المحملة بالثمار الشهية اليانعة القطاف  .

تحرك الأب بمقعده نحو النافذة وكأنه غير مصدق اغرورقت عينا الجدة بدمع الامتنان.

 تساءلت: هل نجونا حقا ؟؟؟

هتف الجميع:

 الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن 34-35

                


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   قصة