ميسون أسدي

maisoonassadi@yahoo.com

امتد حديثنا معًا إلى آخر الليل في الليالي الرائقة. استمعت إلى تعبيراتها المرهفة والبليغة. امتلأت أجواؤنا بنسمات المحبة. زرنا معًا الأصدقاء بمودة صافية. ترنحنا بخطواتنا في المجمعات التجارية. كانت لنا غوايات وعذابات في ترددنا إلى الأماكن الرسمية. ما زال داخلي يضطرم عشقا بها. قريبة إلى جسدي كروحي، أعبدها وأفضلها على الجميع منذ طفولتي.

بتُ حزينة ومسجونة بدونها. تمنيتُ أن أعود لأقضي معها بعض الوقت كما كنا في السابق، لكن هاتفها سرقها منّي. تتحدث يوميا بالهاتف ساعات طوال قد تصل بها إلى حدود الفجر. وإن لم تفعل ذلك تبقى عصبية المزاج، حامية الطباع، منفعلة. تهدأ حينما يرنّ الهاتف الذي تعشقه ولا تمل من هذا الصديق الجامد الذي أشغلها عني وبدأت تفضله عليّ.

غضبت منها بداية. شعرت بالغيرة من هاتفها. تمنيت أن أكون أنا هاتفها النقال لتحبني، كما أحبها وكما هي تحب هاتفها. بدت عليها ظواهر غريبة. لست معتادة على أن تبدر منها مثل هذه التصرفات. باتت انطوائية وانزوائية وعدوانية بعض الشيء. تثور لأتفه الأسباب وتتصرف بصبيانية لا تلائم سنها. تخرج من البيت وتعود مع الغروب. أتصل بها ولكن هاتفها مشغول دائما، أصبحت تتردد على المراكز التجارية وحوانيت الملابس وحدها. تدخل غرفتها وتغلق الباب وراءها. تختلي بنفسها. تدخل إلى الحمام ولا تخرج منه. تتجنب المجالس التي اجتمعنا فيها وتمتعنا بها سابقا. فقدت حياة التوق والشوق معها.

أصبح هاتفها نور اليقين بالنسبة لها. إذا رن وأمسك به أحدنا، فالويل له، تصرخ وكأنها تعاني أهوالاً، محذرة إيانا بعدم الاقتراب من الهاتف ولمس روحها الحيرى.

شعرت بالوحدة لفقدانها. ليس سهلا عليّ التغاضي عن تسعة عشر عامًا وأنا برفقتها. فضلتني على نفسها. لم تبخل عليّ بشيء. وتربعتُ دائما على سلم أولوياتها.  لم أعد أسمع رنة هاتفها النقال. أخفضت رنينه العالي، جعلت صوته خافتاً مبحوحا. يهتز ويرتج في جيبها منبهًا إياها وحدها، مراعية عدم إزعاج من حولها.. خاصة أنا! شعرتْ بصدمات الأيام على جبيني.

في أحد مجالسنا النسوية، وفي حضرة عمتي علياء وخالتي صبحية، ارتجّت صاحبة الهاتف المشغول مع ارتجاج هاتفها.. لفتت انتباه الجميع خاصة عمتي علياء. مرت رنة الهاتف على مسمع صاحبة الهاتف المشغول وكأن عاصفة اجتازت روحها بيننا. هبّت من مكانها وارتسمت ابتسامة جميلة على محياها والخجل يفيض من عينها. آوت إلى ظل شجرة في باحة الدار، وأسندت رأسها تحت فيئها الوارف. تتحدث بصوت منخفض عبر الهاتف. وعندما شعرتُ بالنظرات المتشككة نحوها، تركتُ النسوة ولحقت بها لأحميها منهن. في ذات الوقت، لم أقترب منها كثيرًا حتى تنال القسط الوافر من حريتها في حديثها، ومهما حاولت استراق السمع لمكالمتها، لم أنجح بالتقاط كلمة واحدة من حديثها، كما يبدو هناك إشارات ودلالات لا يفهمها أحد سواها وهاتفها. أنهت مكالمتها، ورجعتُ معها إلى الديوان، حيث تجلس العمة علياء الحرباء، التي أخذت تغمز وتلمز حول التغيير الذي طرأ على صاحبة الهاتف المحمول، والتي توردت وجنتاها، وابتسامة طيبة وحنونة ارتسمت على شفتيها، ورعشة سعيدة صغيرة غمرت جسدها، وأكثرت من الالتفات حولها.

رأيت الهدوء في نظرات صاحبة الهاتف وكأنها تخشى شيئًا ما، أو تنتظر أحدًا. راقبت جيدًا خبث وشماتة عمتي علياء، التي لا يفوتها شيئا. إنها كالرادار تلتقط كل شاردة وواردة. ترصد الآخرين بِشَرَهٍ وشغف. تترقب أن يقع أي شخص حولها لتصطاده بمكائدها وحيلها ويقع في شباكها وتستهزئ منه في مجالسها.

وجهت عمتي علياء أنظارها صوب صاحبة الهاتف المشغول، والأذن المشتعلة من حرارته. ومطت شفتيها شبرين وأكثر، رقّصت حاجبيها ونخرت بأنفها معلنة لمن حولها بأنها غير راضية عن صاحبة الهاتف المشغول، التي لا تعير العمة علياء أي انتباه، حتى عندما تركت هاتفها وانضمت إلى مجلس العمة علياء والتزمت الصمت ولم تتفوه بحرف واحد. وإذا تحدثت فكلامها منمق من دون إسراف في زخرفة الكلام.

هاجني زعيق العمة علياء ورفيقاتها بالاستهزاء من صاحبة الهاتف المشغول وحياتها القلقة، لن أرضى بالهمز واللمز من الشامتين حولها، والمتواجدين في كل زاوية. ينتظرون سقوطها في الهاوية. لم أنجح بالتواصل معها بعد أن فضّلت الهاتف عليّ. أحسست بروحي تنسحب من ضلوعي. فكلنا خراف ضعيفة في حظيرة هذه الحياة ولنا كبواتنا الخاصة.

طرحت عني بعض حذري. جلستُ بقربها. التصقت بها. وضعت كف يدي الباردة على أذنها لتمتص حرارة هاتفها، وأبرد لها أذنها وأثلج صدرها. نظرت إلي بحنو بالغ وعلى وجهها الابتسامة ذاتها التي باتت باهتة بعض الشيء ومتعبة. ضمتني إلى صدرها وقبلت جبيني. شعرت بنبضات قلبها السريعة والنار المشتعلة في جسدها.

سرت في اتجاه المطبخ لأحضر لها كاس ماء يطفئ لهيب قلبها. صدفة، سمعت عمتي علياء تحيك وتطلق الإشاعات السخيفة عنها لخالتي. صرختُ في وجهيهما: أمي أشرف نساء العالم.

                


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   قصة