لم يكتف "حزب البعث" بشعاراته السياسية التي رأى عامة السوريين أنها تتعارض مع الإسلام !! لم يكتف الحزب بهذا، بل بدأ يبشّر بفكره العلماني المعادي للدين، ووصل الأمر بواحد منشعرائه أنه خرج بنشيد يجهر فيه بالكفر صراحة يقول في مطلعه :
( آمنتُ بالبعث رباً لا شريك له / وبالعروبة ديناً ما له ثانِ ) !!
وكان لهذا الشعار الصارخ بالكفر وقع الصاعقة على أهل دمشق المحافظين المعروفين بتمسكهم بالدين، إلا "مصطفى النجار" الولد الدمشقي ابن "حي الميدان" أكثر أحياء دمشق تمسكاًبالإسلام، الحي الذي أنجب كبار علماء الشام !! فعلى غير ما وجد أهل الشام من كفر صارخ في نشيد البعث وجد مصطفى في النشيد خير تعبير عن حبه للحزب وإيمانه برسالته الخالدة !!
ولشدة هذا الحب وهذا الإيمان لم يعبأ مصطفى بما قد يجرّ فعله على سمعة والده إمام الجامع الكبير الذي يعتبره أهل الميدان ولياً من أولياء الله الصالحين، الشيخ الذي تربى علىيديه خلق كثيرون صار منهم أطباء ومهندسون ومحامون وأئمة كبار تفخر بهم سوريا كلها وليس حي الميدان وحده !!!
ولم يردع مصطفى عن سلوكه الغريب هذا طلاق أخته "خديجة" التي طردها زوجها من البيت حفاظاً على سمعته وسمعة عائلته من عبث مصطفى ومجاهرته بالكفر، ولم يشفع لمصطفى بكاء أخته وانهيارها بين يديه حين فتح لها الباب فدخلت وارتمت بين يديه تجهش بالبكاء وتعاتبه بعبرات خنقتها الدموع :
حرام عليك ... خربت بيتي !! لقد طلقني "صلاح" ورماني في الشارع بسببك !!؟
فرد عليها بنبرة حاسمة غير مكترث بانهيارها :
زوجك صلاح .. رجل رجعي متخلف.. ولو لم يطلقك هو، كنت أنوي تطليقك منه ... هذا الأهبل المجدوب صاحب اللحية التي تشبه مكنسة الجامع !!؟
سمع الوالد احتقار مصطفى للحية واستهتاره بمشاعر أخته فقطع صلاته وقام إليه مغضباً، دفعه بعيداً وأخذ خديجة بين ذراعيه، وراح يمسح دموعها ويهدئها، والتفت إلى مصطفى وصرخ فيه مستشاطاً :
لا أريد أن أرى وجهك الكالح هنا بعد اليوم ، اخرج .. إلى جهنم ، وبئس المصير !!
فنظر إلى والده حانقاً وأشار بيده في تحدي أنه سيذهب غير مبالي، ومشى إلى باب الدار وقبل أن يغادر وقف ينظر إلى والده في حنق، ثم فتح الباب، وقبل أن يغادر ضرب بيده على مؤخرة نفسه استخفافاً وخرج وصفق الباب خلفه بقوة !!
ومع طرده من البيت لم يعد لديه ما يحسب حسابه، فقد سقط من حسابه آخر جدار كان يمنعه من المجاهرة ببعض قناعاته، فبدأ يظهر في الحي بصحبة صبايا سافرات يقبلهنّ عنوة في الطريق، وبدأ يظهر مخموراً قرب دار العائلة، بل صار يتقصد المرور أمام باب الجامع عند انتهاء الصلوات وخروج المصلين لكي يرونه وهو يغازل صديقاته، نكاية بوالده إمام الجامع، ما جعل الوالد مثار التندر والسخرية بين أهل الحي الذين بعد أن كانوا يتهامسون بذلك سراً أصبحوا يجاهرون بالسخرية من هذا "الإمام الفاشل" كما صار وصفه بينهم، الإمام الذي اهتم بتربية أولاد الناس وفشل في تربية ولده الوحيد الذي لم يكتف بالمجاهرة بالكفر، بل أصبح يعاقر الخمر ويرتاد المواخير ويصاحب الساقطات، غير عابئ بالدين ولا بسمعة العائلة، ولا سمعة والدهالإمام الذي كان الناس يحلفون برأسه احتراماً وإجلالاً، فأصبحوا يسخرون منه وينفضّون عنه وعن دروسه وخطبه !!
كل هذه المصائب التي سببها لوالده وللعائلة لم تردعه عن سلوكه العابث، بل تمادى أكثر في هذا العبث حين اكتشف أن هذا العبث هو الذي أهّله للقبول عضواً في الحزب!!
وحين وجد الاحترام والعناية من رفاق الحزب تذكر طرده من البيت، فأخذ قراراً بينه وبين نفسه لا رجعة فيه أن يتابع مسيرته مع الحزب ولو كلفه ذلك حياته، وكان بالفعل صادقاً فقد ظل مخلصاً للحزب بالرغم من تعرضه للسجن مرات عديدة على أيدي الحكومات الرجعية كما كان يصفها، وخروجه من السجن والتعذيب بعاهة أضعفت بصره إلى درجة تقرب منالعمى، أجبرته على استخدام نظارة غليظة حتى يستطيع الحركة !!
كل هذه الأحداث التي مر بها زادت من تعلقه بالحزب الذي أصبح عنده رباً لا شريك له كما قال شاعر البعث، بل أصبح يعتقد اعتقاداً جازماً أن في الحزب ورسالته الخالدة خلاصالأمة العربية من كل الأمراض التي ظلت تعاني منها لأكثر من ألف عام، وفي مقدمتها الدين الذي أصبح في نظره مصدر كل المصائب التي تمنع الأمة من التقدم ويجعلها مستعبدة للرجعيةوالتخلف، وقد أكد قناعاته هذه مراراً في المقالات التي راح ينشرها في "جريدة آذار" ، لسان حال الحزب !!
وهكذا ...
أصبح الحزب مثله الأعلى، مقابل والده الذي بات عنده رمزاً للرجعية والتخلف والجهل ، ما جعله يعطي الحزب كل وقته وجهده، وأصبحت مراكز الحزب بيته، وأصبح رفاقه ورفيقاته في الحزب أهله الذين عوضوه عن بيته وأهله الذين طردوه وتخلوا عنه !!
ومع ارتباطه وولائه وإخلاصه للحزب أصبح موضع اهتمام كبير من قبل المسؤولين في الحزب فمنحوه درجة "عضو عامل" حتى قبل أن يكمل المدة التي تؤهله لذلك حسب نظام الحزب، وبتحوّله إلى عضو عامل قوي مركزه بين الرفاق، وبدأ نجمه يسطع في صفوف الحزب، فنصحه مسؤول شعبته الحزبية أن يلتحق بالجيش لأن الحزب يعد العدة للقيام بحركةلاستلام السلطة، فأبدى للمسؤول الخشية من أن يرفضوه بسبب ضعف بصره، لكن المسؤول طمأنه بالقبول لأنه عضو عامل في الحزب، وأعطاه خطاب توصية، فقبلوه، ومنحوه رتبة"رقيب أول" لأنه يحمل شهادة الدراسة الثانوية، وفي أعقاب " ثورة آذار" التي قام بها الحزب في عام ١٩٦٣ واستولى على السلطة، منحوه رتبة ملازم لدوره في الثورة ، وبعدها راح يترقى في رتبته العسكرية بصورة استثنائية غالباً، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبح برتبة "مقدم" وأصبح مديراً لواحد من أهم مراكز الأمن في دمشق، وأصبحت له سطوة كبيرة مقابلسمعة والده التي ظلت تسوء يوماً بعد يوم مع سوء سمعة مراكز الأمن، وخاصة منها المركز الذي يديره ابنه مصطفى، مما أجبر الوالد للتوقف عن دروس الدين ثم الاستقالة من إمامةالجامع التي كانت المصدر الوحيد لمعاشه ومعاش العائلة، ما أجبر أخته خديجة على العمل خادمة عند إحدى العائلات لكي تعيل الأسرة !!
وفي بداية العام ٢٠١١ اندلعت ثورة السوريين في سياق "الربيع العربي" مطالبين بإصلاح ما أفسده الحزب على مدى أربعين عاماً أو يزيد، فما كان من النظام بزعامة "بشار الأسد" وبخاصة أجهزة الأمن إلا أن تواجه الشعب الثائر بالرصاص والاعتقال والتعذيب، فاستغل مصطفى الفرصة لكي يثبت المزيد من ولائه للحزب وحرصه على بقاء النظام، فاستخلص نخبة من العناصر الأشداء اختارهم من مراكز أمن أخرى فضمهم إلى مركزه، ووفر لهم مختلف الأدوات التي تلزمهم لردع المعتقلين الخارجين على النظام، واستصدر قراراً رسمياً غير قابل للطعن، بإعفاء عناصر الأمن من أية مسؤولية عن نتائج تعذيب المعتقلين، وعدم متابعتهم قضائياً في المستقبل !!
وما هي إلا أسابيع قليلة حتى بدأت تصل إلى مصطفى شهادات التقدير من وزير الداخلية وبقية المسؤولين في الحزب تشيد بجهوده في محاربة "الإرهابيين" وهو الوصف الذي بدأ الإعلام الرسمي يطلقه على المنادين بالإصلاح!!
ومع التشجيع من وزيره راح مصطفى يندفع أكثر فأكثر في الضغط على المعتقلين، وأقدم على خطوة صارت مثار الإعجاب من رأس النظام نفسه، فقد بدأ مصطفى يستعين بوسائلالأعلام الرسمي لنقل صور التعذيب الوحشية التي تمارس في مركزه على المعتقلين، مع المبالغة في إظهار قسوة التعذيب بهدف ردع الثوار وإفشال الثورة، مما لفت النظر إلى جهوده، فصدر أمر استثنائي لترفيعه إلى رتبة "عميد" فطار بهذه المكافأة فرحاً لأنها جعلته على بعد خطوات قليلة من استلام الوزارة كما جرت العادة في النظام !
ولشدة سعادته بعمله وكثرة المعتقلين في مركزه أصبح يتردد على المركز في أوقات خارج الدوام الرسمي لكي يطمئن على سير العمل، وتوقيع التصاريح الرسمية لترحيلالمعتقلين الذين يموتون تحت التعذيب، وفي إحدى الليالي كان في مكتبه يراجع بعض التقارير فإذا بالضابط المناوب يدخل عليه متعجلاً، فيؤدي له التحية العسكرية ويقف مترددا يريد أنيقول شيئاً، لكنه لا يقول ، فصرخ فيه سيده مستنكراً :
خير ؟!! ما لك !! تكلم ؟! سيدي.. سيدي.. عندنا واحدة ... طيب .. سمعنا .. عندكم واحدة .. ما لها هذه الواحدة ؟!! قل .. أسرع !! سيدي .. أرجو المعذرة .. ولكن .. لكن .. ماذا ؟! تكلم قبل أن أمسح بك الأرض !!؟ سيدي .. أريد أن أقول لكني مستحي من سيادتك ؟ لا .. لا تستحي .. قل ولا تخف .. فأنا لا آكل الحمير من أمثالك !! سيدي عندنا واحدة من الإرهابيين .. شرمو .. إيه .. فهمنا عندكم واحدة من الإرهابيين شرموطة .. مستحي تقولها ؟!! شو مشكلتها هذه الشرموطة ؟ قل.. خلصنا !! طيب ..طيب .. سيدي .. سأقول .. سيدي هذه الشرموطة ضغطنا عليها لكي تدلنا على أسماء الذين حرضوها على المشاركة بالمظاهرة ضد النظام لكنها رفضت، استخدمنا معهاالكهرباء والكلاب وكل الوسائل لكنها رفضت أن تدلي بأية معلومات !!
قاطعه بنبرة حانقة :
تقول إنكم جربتم كل الوسائل ؟!! نعم .. سيدي .. والله كل الو سائل !!!؟ لا .. لا.. يا شاطر .. بقيت وسيلة لا أظن أن عقولكم الخربانة لم تفكر بها... وسيلة سوف تجعلها تخبركم بأسماء كل الإرهابيين، وليس الذين حرضوها فقط ياريت .. سيدي .. عجّل.. عجّل إيدي بزنارك .. قل لي ما هي وسوف أجربها بنفسي لا .. لا .. يا شاطر .. هذه الوسيلة تحتاج إلى رجل فحل ، لا رجل خروق متلك!! سيدي.. الله يسامحك الله مسامحني على طول الخط .. ولا ينتظر السماح منك .
قال ذلك وانفجر بضحكة تردد صداها في القاعة، وتناول سيكارة وضعها بين شفتيه وصرخ في الضابط :
الآن .. رح من وجهي .. وهات هالشرموطة لترى ما سأفعل بها!! حاضر .. سيدي.. حاضر
أدى له التحية وأسرع خارجاً ، بينما أشعل مصطفى سيكارته وبدأ ينفث دخانها نحو سماء القاعة دوائر دوائر، واسترخى في كرسيه ومدّ رجليه، وأغمض عينيه وراح يرسم في مخيلتهصورة سهرة حمراء سوف يقضيها الليلة مع هذه الإرهابية الحرون التي سوف تشعل في جسده جنون شبق لم يختبره من قبل !
وما هي إلا لحظات حتى عاد الضابط يجر المرأة من السلسلة التي تكبلها وقد غطى عينيها بعصابة سوداء ، أدى التحية للعميد وقال :
حاضر سيدي .. هذه خادمتك بين يديك
ودفع المرأة نحو المكتب، فأخذ مصطفى يبحث عن نظارته السميكة لكي يتبين وجه المرأة التي سوف تشاطره السرير، ولما لم يعثر على النظارة أشار للضابط أن يأخذ المرأة فيلقيها علىالسرير العسكري الذي اعتاد أن ينام فيه أيام مناوبته في المركز، ففعل الضابط ما أمر به سيده وعاد إليه ينتظر الأوامر ، فأشار له أن يحرر المرأة من الكلبشات، وينصرف ويغلق البابخلفه، ولا يسمح لأحد بإزعاجه !
أمرك .. سيدي
قال الضابط وأدى التحية ونفّذ الأمر وانصرف، فدفن مصطفى سيكارته في صحن المنفضة، وقام فخلع بدلته العسكرية وتخفف من ثيابه، ومد يده إلى الثلاجة الصغيرة بجانبه، فأخرج منهازجاجة الويسكي التي لا تفارق مكتبه، وأخذ منها رشفة طويلة، وأعادها إلى الثلاجة، وتمطى وتوجه نحو المرأة حتى قف عند رأسها وهي مستلقية في السرير تتكور على نفسها لتستر ماانكشف من جسدها تحت التعذيب، وكانت ترتجف خوفاً من المفاجآت التي تنتظرها .. فصرخ فيها آمراً :
هيا .. ست الحسن .. اشلحي !!
فانتفضت خوفاً، لكنها سرعان ما هدأت وراحت تصغي كأنما فوجئت بالصوت، لكنه لم يعبأ بردة فعلها وعاد يصرخ فيها بصوت يهدر كالرعد :
اشلحي ... يا شرموطة .. ولا تمثلي عليّ دور الشرف والعفة !!؟ يا ويلي !!!
صرخت المرأة مذعورة، وتكورت على نفسها، وتابعت تقول :
- يا ويلي .. مصطفى !! خيي مصطفى ؟!!!
وانطلقت تلطم وجهها وتخمش خدودها، فصرخ في جنون غير مصدّق ما يسمع :
خديجة ؟! أختي !!؟ يا ويلي ...
وضرب وجهه بكفه، وانهار على ركبتيهيبكي في حرقة، وراح يلطم على صدره ويجهش بالبكاء، فأسرعت خديجة تحتضنه وتهدئه،
فإذا بالضابط المناوب يدخل على سماع الصراخ ، فقام مصطفى إليه وأمره بالنزول إلى السوق لإحضار عباءة يستر بها المعتقلة من أجل نقلها إلى مركز "المخابرات الجوية" حيث يتمالتحقيق مع الحالات الخطرة، فأخبره الضابط أن لديهم عدة عباءات، وذهب فأحضر إحداها !
لبست خديجة العباءة فأمسك مصطفى بيدها وخرج بها من الباب الخلفي ، وحين استقل السيارة وانطلق خارجاً من المركز التفت إليها والبهجة تملأ وجهه وقال :
هل لاحظتِ كيف أقود السيارة دون نظارة ؟!!
فردّت عليه وقد ملأتها السعادة :
رحمة الله واسعة يا خيي، وإني أسأله تعالى أن يكشف بصيرتك كما كشف بصرك آمين، تقبل الله دعوتك، وأعدكِ وأعد ربي أني لن أعود إليهم مهما كلفني الأمر، وسوف أذهب إلى أبي لأعتذر منه ، وأطلب منه الرضا خير ما تفعل
دخل الدار، فوجد والده يصلي إلى جانب البحرة التي تتوسط باحة الدار فوقف إلى جانبه يقتدي بصلاته، بينما انطلقت الدموع تغسل روحه.