أسندت رأسي إلى نافدة الحافلة، غير عابئة بما تراكم على زجاجها من غبار وأوساخ بعد تعب يوم كامل، تمنيت لو أهملنا السائق حتى النسيان 0 تتسلل إلى بصري جبال غرغيز، وقد توجت قممها بضباب، ينحدر فيلف السفح الأخضر، والدور المتناثرة هنا وهناك على الرصيف عيون شاردة، وأخرى نهمة، تلتهم في كبت وخبث، ما برز من أجسام النساء والفتيات، المحتشدات في انتظار الحافلة، أوالمارات في اتجاهات مختلفة 0عربات متنقلة لبيع الحلوى أو الذرة المقلية، غرق أصحابها في شعور كثيفة، وسراويل دجينز وسخة بيد مرتعشة، أخرج أحد الباعة المتجولين علبة سجائر من بين أكياس الحلوى، أشعل منها واحدة، ثم راح ينفث دخانا، يلاحقه بنظرات
منتشية، منتظرة غير بعيد، يقف عجوز هرم تغلف وجهه لحية بيضاء، تنفتح في الوسط على بقايا أسنان متآكلة بيده اليسرى، يمسك بسلك صدئ، يتدلى منه مجمر صغير، مدعم بشريط من القصدير، توشحه صور سمك السردين وبيده اليمنى أخذ يقلب قطع الفحم الخامدة وسط تأرجح المجمر رفع العجوز رأسه رمى ببصره إلى الحافلة0 بريق باهت يطل من عينيه المستديرتين0 تجاعيد وجهه العميقة تنطق بتجاوزه السبعين 0جلبابه الرمادي، عمامته البيضاء، المزركشة بخيوط برتقالية، والملفوفة على رأسه ببراعة ، السبحات المدلاة على صدره غرق العجوز في مجمره، ينفخ فيه من أنفاسه، ويتبعها بحبات كان يطبق عليها بأصابع من يده اليمنى، ثم دخان و بخور يضيعان في كومة السواد الملوث ، الذي بدأ محرك الحافلة يلفظه إيذانا بانطلاقها اهتزاز، مد وجزر، أخذت معهما وضعي على المقعد الحديدي، وبمخيلتي صورة
العجوز ومجمره كالعادة امتلأت الحافلة، اعتصمت الأيادي بالأعمدة الباردة سكون سرعان ما مزقه صوت يطالب الركاب بتأدية ثمن التذكرة وبإذعان لا مفر منه، تتداخل الأجساد المنتصبة في بعضها، مفسحة له الطريق0إلى جانبي، تجلس امرأة في الثلاثينيات، بجلباب أصفر، تخفي شعرها في خليط من الأخضر، الأصفرو الأحمر، تأكل بذور نوار الشمس بآلية، وبين الحين والآخر، تحرك ركبتيها إلى أسفل، تنفض ما تكوم عليهما من قشور0من المقعد الخلفي، ينبعث
شجار خجول، يبدوأنه شاب يلوم خطيبته التي خرجت من البيت دون إذن منه، وإلحاح منها على أنها كانت رفقة أمها0 يتبدد صوتاهما في موجات غضب صاخبة لا يعرف سببها، و عبارات خليعة متبادلة ، ثم قهقهات و تعليقات0 الحافلة تخترق الشارع المؤدي إلى سانية الرمل، في اتجاه مرتيل، في حالة من الوهن الشديد0ألوذ مرة أخرى بالنافذة0 سرب من السيارات يمر كالحلم 0أطفال في الزي المدرسي، يحملون حقائبهم و أحلامهم0 نساء جبليات ، يهرولن في اتجاه باب العقلة0 ظهورهن مقوسة بفعل الزمن والأثقال0 و قطرات من المطر، تنساب على زجاج
النافذة، فتنساب معها صور من شتاء الطفولة ،حيث وقعات المطرالمنتظمة ، على فناء الدار العتيقة، بمدينة تازة العليا، وأنفاس جدتي ، الراقدة إلى جانبي ، تتصاعد أحيانا ، يلفظها شخيرقوي سرعان ما يتلاشى ثم يعود الإيقاع البطيء من جديد يضمني و أحلامي، في دفئ وألفة، كم حلمت بأبديتهما، ومن أجل ذلك ، كنت أتقمص شخصية الأميرة النائمة ، و ببراءة الطفولة، و خصوبة خيالها، كنت أفيق في كل مرة على ابتسامة الأمير الآتي من مكان بعيد0 سرحت0أ يكون الماضي هو الحقيقة الوحيدة في مملكة الزمن؟ إن كل لحظة حاضرة ، و كل لحظة مستقبلة، هما لحظتان ماضيتان بالإمكان0 الحاضر يلتبس علينا ، يفلت من قبضتنا في خضم العمل و تناقضات الحياة 0 والمستقبل يعد بكل الإمكانات أو لا يعد بشيء 0أما الماضي ،فهو الثابت، يحتوينا يتملكنا، يفد علينا في كل لحظة ، بصوره الفرحة ، و صوره الحزينة0
الحاضرأشد اللحظات توثرا و غموضا في مملكة الزمن0 إنه قابل للتلاشي باستمرار، ما إن يمسك بالمستقبل، حتى يجرفه الماضي إليه0 تداعيات كادت تنسيني كل شيء لولا لعبة الزمن ، وقساوة حاضره ، اللذان أجبراني على العودة إلى الحافلة ، حيث صوت السائق ، يخبر بعطب طارئ في محركها ، و يخير الركاب بين النزول ، أو انتظار حافلة أخرى لاستكمال المسافة إلى مرتيل0 تتعالى تعليقات الركاب : هل نحن حيوانات ؟ كيف نترك الحافلة بعد أن أدينا ثمن
التذكرة ؟ و ألفاظ قذرة من البعض تنضاف إلى قذارة الفضاء : مقاعد هرمة ، أعمدة صدئة ، زجاج نسي بريقه ، وربما فقده للأبد و محرك لفظ آخر نفس له في منعرج راح يستسلم للمسات الغروب المتثائبة 0 تعب و دوار0 أرخيت رأسي0 غفوت ثوان ، ليقع بصري على حزمة من أوراق الامتحان كنت أحكم عليها يدي0 تذكرت للتو أنني أستاذة منذ عشرين سنة تقريبا ، تنقلت خلالها بين الرباط و تطوان0 لكن المشهد كان و لا يزال واحدا0 وددت لو كان السمع حرا كالبصر فأشيح به عن ضجيج الركاب ، وأنعم بوحدتي ، و بفرحة لقاء ابنتي و ابني عند عودتي إلى البيت 0ويأبى الحاضر إلا أن يمسك بي0 صوت ينبعث فجأة من مقدمة الحافلة0 يبدو أنه صوت عجوز
هرم0 مددت عنقي لأتبين ملامحه ، و قبل أن يتاح لي ذلك ، كانت رائحة بخور قوية ، قد عطرت المكان ، حاملة معها عطر الطفولة ، في عيد المولد النبوي و ليلة القدر0 كان العجوزنفسه0 أطل من عتمة الدخان بمجمره و بخوره و صوته أيضا هذه المرة0 كان في الموعد0 ازدانت الحافلة بعبارات دينية ، أدعية ، حكم عن غدر الزمان و قهر الرجال ، تذكير بالجنة و النار و دعوات إلى ترك الدنيا الفانية من أجل الجنة و نعيمها : الدايم الله ، سعداتك أ فاعل الخير، كل شيء غيبقى هنا 0 استرسال مدهش، لكنه لم يكن ارتجالا0 هذا ما بدا لي0 خمنت إنها دون شك طريقته في التسول0 و لكن كيف صعد العجوز إلى الحافلة ؟ متى؟ حسبت أنه بقي على الرصيف حين انطلاقها0
المراجع
maghress.com
التصانيف
أدب مجتمع الآداب