الرصاص المسكوب


د. شرحبيل المحاسنة

shrhbeel1977@yahoo.com

مراجعة : د.إبراهيم خفاجي  جامعة شقراء- دكتوراه في النحو والصرف

أسير وحدي لا أعرف أين اذهب، انظر إلى الأرض فأجدها شاحبة , وانظر إلى  جدران المنازل فأجدها سوداء مليئة بالثقوب والحفر  التي سببها رصاص العدو , كلما مشيت خطوة ينكسر داخلي ويتحطم أملي في الحياة , ويزداد شعوري بالحزن والأسى ,كنت أود زيارة خالي فلم أره منذ زمن , اتجهت إلى  موقف الحافلات لعلي أجد حافلة تقلني إلى المنطقة  القريبة من بيت خالي , صرت التفت  يمنة  فلا أرى سوى وجوه الناس العابسة, والتفت يسره فلا أسمع سوى أصوات الحافلات . انتظرت قليلا حتى جاءت إحدى الحافلات الكبيرة فركبت  في الكرسي الخلفي الموازي لأحد الشبابيك , وكان بجنبي رجل كبير في السن . سارت الحافلة ببطء ,سأمت من الصمت  فأحسست أنني يجب أن أتكلم مع أحد , فالتفت إلى شيخ كان بجني  وكان يهمهم ويبدو أنه كان يذكر الله بصوت مهموس ,فقلت:

- السلام عليكم يا جدي.

- قال: وعليكم السلام بصوت خافت لا يكاد يسمع.

-فقلت: لعل الشيخ لا يريد الكلام حاله كحال ركاب الحافلة جميعا! فبدأت أسأل نفسي عن سبب سكوت الناس في الحافلة.

- فقلت: هذا ليس غريبا فالحياة صعبة في كل مكان والمصائب لا تندمل ولا تنتهي, شعرت بالعطش الشديد وانأ أحدّث نفسي , فأخرجت زجاجة الماء من حقيبتي وعندما هممت أن أضعها على فمي التفت إلى الشيخ، فشعرت كأنه ينظر  إلي فقلت: لعله يريد أن يشرب، وبادرته قائلا:

تفضل اشرب الماء يا جدي.

فقال: أشكرك يا بني...

فقلت : خذها واشربها فمعي زجاجة أخرى, فأخذها وشربها، ثم تابعت الحديث قائلا: يبدو عليك التعب والإرهاق  أيها الشيخ.

فأجابني بغضب: لعن الله من يسفكون الدماء ويستبيحون الحرمات، ويدنسون أرضنا المباركة، فلقد أخذوا مني كل شيء وقتلوا ابني الوحيد صخرا حتى أصبحت  شيخا كبيرا فاقد الأمل... لم تعد الحياة تعني لي شيئا.

-قلت: يا أبا صخر هون عليك واصبر واحتسب ابنك عند الله، فإنه شهيد والشهيد في الجنة، ولا شك أنه يعيش حياة أفضل منا الآن، فلا تحزن ولا تيأس فإنه إن شاء الله سيشفع لك يوم القيامة.

- قال: بارك الله فيك يا بني، ولكنه شعور الأب تجاه فقدان ابنه الوحيد.

وكأن حديث الشيخ ودمعاته المتحدرة على خديه، والتجاعيد المرسومة على محياه قد أثارت شجوني،  وشعرت برغبة عارمة في مواصلة الحديث معه، واعتراني الفضول لمعرفة ما حل بولده وفلذة كبده، وكيف قتل.

فقلت له: هل لك يا والدي أن تقص علي كيف فقدت ولدك الشهيد؟.

فآنس الشيخ لحديثي وشعر  بأن الله قد ساقني للجلوس بجواره ليبث إلي  همومه ويخرج أنفاس الحزن التي تعتمل في صدره وتغلي كغلي المرجل على التنور. وانبسط إلى بالحديث قائلا:

-كان ولدي يا بني مفعما بالنشاط والحيوية، ولا يطيق رؤية من اغتصبوا أرضنا وشردونا من ديارنا منذ صغره، وكنت أرى ذلك على قسمات وجهه عندما يسمع أصوات قدومهم، أو تلمح عينه معداتهم وجنودهم وهم يعيثون في الأرض فسادا، وعندما أصبح يافعا اعتاد على الذهاب مع أصدقائه لرجم العدو بالحجارة، وكنت أخشى عليه من بطشهم ومكرهم خاصة انه ابني الوحيد وفلذة كبدي، لذا  كنت أحاول منعه من التصدي لهم، ولكنه لم يستجب لمحاولاتي.

 وذات يوم بينما كنت أتوضأ لصلاة الظهر سمعت زوجتي تصرخ وتصيح بأعلى صوتها يا أبا صخر ؟ يا أبا ضخر!. فهرعت إليها قائلا: ما بك يا أم صخر؟!.

-فقالت : ولدي صخر .

-فقلت: ماذا به؟.

-قالت:  قال لي أحد الجيران أن صخرا أصيب برصاص العدو. حينها أحسست أن الأرض تدور من حولي وأنها  أضيق من سم الخياط رغم اتساعها.

-قلت مندهشا: ماذا! وكأني لم أسمع شيئا، ولم أعي جيدا ما أخبرتني به... ومضت لحظات  حتى عاد إلى رشدي، وتمالكت نفسي، وأخذت ألملم شتاتها وأطلقت لقدماي عنان الريح فذهبت مسرعا أترقب، وأتمتم بكلمات داعيا الله ألا يكون هذا الخبر صادقا.

لم أشعر بنفسي إلا والدموع قد بدأت تتساقط من عينيي، وقد وصلت  إلى طرف الشارع الذي حدثت فيه الفاجعة، ورأيت شباب الحي مجتمعين حول شخص ممدد على الأرض قد سجي بملاءة بيضاء، لم أر منه غير وجه يشع منه نورا يطاول عنان السماء، وقد ارتسمت على وجنتيه ابتسامة عريضة وكأنه غارق في الضحك، وقد أشار بسبابته نحو السماء.

 فلما رأوني أفسحوا لي المكان لأمر بينهم، فتقدمت نحوه في خطوات متثاقلة، وأخذت تساورني الشكوك والظنون، فقلبي يشعر بانقباض ويخبرني بصدق الخبر، ولكن عقلي يأبى التصديق، أما لساني فلم يستطع النطق إلا بعبارة واحدة وهي حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون.

اقتربت أكثر فأكثر ، فبدت لي الملامح واضحة.. نعم إنه هو.. إنه صخر ولدي غارقا في دمائه ينزف الدم من رأسه وصدره وفمه،, صرخت بأعلى صوتي حتى غبت عن الوعي... ولم أفق إلا في مستشفى الحي الذي أقطن فيه, وعندما أفقت سألت من كان حولي ,أين ابني؟ فقالوا: يا عم. ابنك في الجنة إن شاء الله. فعرفت حينها أني فقدت ابني للأبد.

كان الشيخ يتكلم والدموع تنهمر من عينيه وأصبح بحالة يرثى لها فأشفقت عليه كثيرا حتى أني لم أتمالك نفس عن البكاء معه. ووضعت يدي على كتفه, وقلت: يا جدي احتسبه عند الله... احتسبه عند الله .

وبينما كنت أكلم الشيخ توقفت الحافلة ,ولا أعرف لماذا توقفت؟ فقلت في نفسي: ربما أصابها خلل ميكانيكي، أو أن أحد إطاراتها أصيب بالتلف, ولكن عندما نظرت إلى الأمام تفاجأت بأحد جنود الاحتلال يحدث السائق وسرعان ما أمر الركاب بالنزول, فنزلنا فردا فردا حتى لم يبق منا أحد, وعندما نزلت من الحافلة سألت سائق الحافلة, لماذا أمرتنا بالنزول؟ فقال: إنهم جنود الاحتلال يريدون تفتيش الر كاب, والحافلة خوفا من وجود أسلحة.

وبدأ الجنود يفتشوننا رجالا ونساء حتى جاء دوري, فشعرت بغضب شديد لم أستطع احتماله.

فقلت أقصدهم: جبناء... جبناء.

فسمعني الجندي الذي كان يفتشني فلطمني على وجهي. فرددت إليه اللطمة  بقوة حتى كاد يقع أرضا, وسرعان ما هجم علي جنود الاحتلال جميعا ,وأخذوا يضربونني حتى غبت عن الوعي, وما أفقت إلا وأنا ممدد على أحد كراسي الحافلة، والركاب يحاولون مساعدتي فبعضهم يضع الماء على رأسي ووجهي, وآخرون يحاولون تضميد جراحي وقد كانت الدماء تسيل من رأسي وأنفي  وصبغت قميصي الأبيض باللون الأحمر, أسعفني ركاب الحافلة  حتى انقطع النزيف, لم أشعر بالندم على ما فعلت لكني شعرت بالقهر الشديد لأني لم أملك شيئا لقتالهم , تمنيت لو أني لي بهم قوة أو آوي إلى ركن شديد لآخذ ثأري وثأر كل شهيد منهم جميعا، واستعيد حقوقنا التي اغتصبوها, فهؤلاء الجبناء لو كانوا يواجهونني فرد لفرد ما تغلب أحد منهم علي, ولكن هذه طبيعتهم الغدر والخيانة.

كانت الحافلة تسير بسرعة سألني أحد الركاب إلى أين تريد الذهاب ؟.

-فقلت: أريد الذهاب إلى بيت خالي في حي السويداء.

-قال: عندما نصل سأساعدك للوصول إلى بيت خالك؟ ثم سألني عن اسمي.

-قلت: نضال.

-قال: يا نضال, يجب أن تتحلى بالصبر عند مواجهة هؤلاء الجبناء, فنحن لا طاقة لنا بهم فهم مسلحون, ونحن عزل مجردون من السلاح.

-قلت: أشكرك على مساعدتي, ولكن لابد من مقاومة هؤلاء الأوغاد.

وكان أبو صخر  يضمد جراحي، وعيناه تذرفان فقد ذكرته بولده الحبيب الذي فقده على يد هؤلاء القتلة.

-فقلت له: أشكرك يا والدي على مساعدتي.

- قال :لا تشكرني, فهذا جزء بسيط من واجبي, فأنا لم أستطع أن افعل شيئا لحمايتك أو الدفاع عنك أو الأخذ بثأري من هؤلاء القتلة.

-قلت: هذا كثير أيها الشيخ الوقور، وتالله لن ننسى ثأر ولدك صخر، ولا ثأر أي شهيد لُظخت أيديهم الغادرة بدمائه الطاهرة.

 -قال: يا بني هذه عادة هؤلاء الجبناء لا يقاتلوننا إلا  جماعات مسلحين ولا يقاتلون إلا العزل.

 وكنت أسمع من حولي أصوات النساء والرجال تتضرع إلى الله أن يمزق اليهود ويدمرهم ويقتلهم كما قتلوا شبابنا وأطفالنا .

-قال لي أبو صخر: لماذا تريد أن تذهب إلى بيت خالك؟.

-قلت: كنت أود زيارته فأنا لم أره منذ سنتين , وأود رؤيته ورؤية أبناءه.

-قال: تصل بالسلامة إن شاء الله.

 كنت مستلقيا على الكرسي فشعرت أن الحافلة بدأت بالتوقف, فحاولت النهوض  فلم أستطع من شدة الألم الذي انتشر في صدري وظهري وكل أنحاء جسمي، فساعدني رجل كان بجانبي حتى نهضت,

-قلت: هل وصلنا؟.

-قال: نعم، لقد وصلنا. وهذا الموقف النهائي للحافلات, ثم سألني هل تعرف المكان تحديدا الذي تود الوصول إليه؟.

-قلت: نعم.

ساعدني الرجل على النزول حتى نزلت من الحافلة، و تمالكت نفسي وأرغمت قدماي على السير بمساعدة الرجل, فمشينا حتى وصلنا إلى الشارع الرئيسي المحاذي لموقف الحافلات فأومأت بيدي إلى إحدى سيارات الأجرة.

-وقلت للرجل: يكفي هنا, أشكرك جدا على مساعدتي.

-قال: لن أتركك هنا حتى اطمئن على وصولك بالسلامة, فأنت لازلت لا تقوى على السير وحدك.

-قلت: لكني لا أريد أن أتعبك معي.

-قال: لا يا أخي فهذا واجبي, ونحن أخوة, هدفنا واحد ,وديننا واحد.

- قلت: جزآك الله  خيرا وأبعد عنك كل شر.

 توقفت سيارة الأجرة على يمين الشارع.

-فقلت للسائق: إلى حي المزاهير لو سمحت.

- قال: تفضل فركبنا حتى وصلنا قريبا من بيت خالي.

-قال لي الرجل الذي معي:  يجب أن اذهب الآن فالحمد الله قد وصلت بسلام.

-فقلت له: تفضل معي إلى بيت خالي لنقوم بضيافتك.

-قال : شكرا  بارك الله فيك فلدي عمل كثير لأقوم به, شكرته على صنيعه معي وسلمت عليه ثم ذهب، وقد نسيت في زحمة الأحداث أن أسأله عن اسمه.

 نظرت إلى بيت خالي فإذا هو كما عهدته منذ سنتين لم يتغير شيئا اقتربت خطوة خطوة نحو الباب  أحاول أن استند على حائط الدار  من شدة الألم، فقرعت الجرس, وانتظرت قليلا حتى فتح رشاد ابن خالي الباب.

 -فقال: أهلا وسهلا يا نضال : كيف حالك؟ لم نرك منذ زمن طويل ما أخبارك وأخبار خالتي وأخويك صلاح وجهاد ووالدك؟.

- قلت: الحمد الله كلهم بخير,

- قال: تفضل, فقد اشتقنا جميع لرؤيتك

 فدخلت البيت وسلمت على زوجة خالي وجلست في غرفة الضيافة. سألتهم: أين خالي؟ فانا مشتاق له كثيرا.

- قالت زوجة خالي: إنه في العمل سيأتي إن شاء الله بعد ساعتين ,تبادلنا أطراف  الحديث.

-فقال ضياء ابن خالي : ما هذا الجرح الذي في رأسك والكدمات الظاهرة على وجهك؟.

-قلت: اعترض جنود العدو الحافلة التي قدمت بها فشتمتهم, فسمعني أحدهم فلطني على وجهي فرددت له اللطمة فانهال علي زملاؤه جميعا بالضرب حتى أغمي علي.

-قال رشاد: سامحك الله يا رجل لماذا تفعل ذلك؟ فأنت لا تستطيع مجابهتهم.

-قلت: لم أستطع الاحتمال، وقد شعرت بالإهانة وهم يقيدون حريتنا على أرضنا ويسيئون معاملتنا نحن أصحاب الحق.

 -قالت زوجة خالي: الحمد لله المهم أنك  بخير الآن.

شعرت بالجوع واستحييت أن اطلب الطعام, ولكن يبدو أن زوجة خالي عرفت ذلك في وجهي فقامت إلى المطبخ فأعدت  ما تيسر لها من الطعام  فأكلت  وحمدت الله.

  قلت: شكرا يا زوجة خالي فطعامك لذيذ فأنت طيبة كما عهدناك منذ زمن.

قرع الجرس, وذهب رشاد ليفتح الباب, فإذا خالي قد عاد من العمل.

-قال خالي لرشاد: يبدو يا بني أن هناك أحدا عندنا,

-قال: نعم ,هناك  ضيفا نحبه كثيرا .

دخل خالي غرفة الضيوف كنت مشتاقا كثيرا إليه, قمت من مكاني احتضنته بين ذراعي, وقبلته,

وقلت له: افتقدناك كثيرا يا خالي فأنا لم أرك منذ زمن طويل,.

- قال : لقد كبرت والله يا نضال, وأصبحت رجلا ولكن ما هذه الكدمات التي على وجهك هل تشاجرت مع أحد؟ .

-قلت: إنهم جنود الاحتلال .

وقف صامتا ولمحت الغضب بين عينيه,

-وقال: ضربوك أبناء القردة والخنازير؟! .

-قلت: نعم.

 فبينما كنا نتكلم ,سمعنا أصوات الطائرات تحلق في الفضاء بصوتها المزعج, شعرت بالخوف الشديد,

-فقلت: ما هذا؟.

- قال: لا أعرف ربما طلعات استطلاعية للعدو,.

 قلت: إنني لم اسمع مثل هذا الضجيج في حياتي .

- قال: وأنا كذلك.

 -قلت في نفسي: لعل العدو غاضب جدا.

 تكررت الأصوات مرة أخرى, وفي هذه المرة حدث انفجار هزَّ المنطقة التي نحن فيها هزا عنيفا حتى كادت جدران المنازل تتهاوى, ازداد شعوري بالخوف والرهبة.

-فقلت لخالي: أريد الذهاب إلى منزلي.  فقد تذكرت أمي ووالدي وإخواني.

- قال: لن تذهب الآن.

-قلت: يا خالي بدأت اشعر  بالخوف على أفراد أسرتي.

- قال: لا تخف يا نضال, فربما هذا طارئ عابر.

 حدث انفجار آخر ,وهذه المرة كان الانفجار أقوى وأشد حتى إنني شعرت أنه قريبا منا ,خافت زوجة خالي كثيرا لدرجة إنها بدأت تبكي. لم أحتمل المشهد فقمت وسرت نحو الباب,

-قال لي خالي: أين تذهب؟.

-قلت: أريد أن انظر من الباب, فلعلنا نرى شيئا.

سار الجميع معي و أخذوا ينظرون معي من النافذة  كان الدخان يتصاعد من بيوت بعيدة..

 -قلت: آه يالتعاسة الجبناء! لا شك إنهم يلقون متفجراتهم على أخواننا المدنيين , تغيرت وجوه الجميع ونظرت في وجوه الجميع فإذا بها انقلبت سوداء ,وبدأت وجوه الجميع شاحبة حتى وجهي أصبح شاحبا مثل وجوههم ,بدأت أفكر كيف سأعود إلى المنزل وسط أزيز طائرتهم التي تصب الموت فوق الرؤوس صبا وهي تكرر طلعاتها المرة تلو الأخرى ,أشرت على خالي أن نرى التلفاز ولكن تفاجئنا أن التيار الكهرباء قد انقطع, ازداد  شعوري بالخوف.

-قال خالي: يجب أن يكف الجميع عن القلق إن أصوات الانفجارات  بعيدة عنا, وإنه لن يصيبنا مكروه.

 -سألت خالي: ماذا سيحصل للناس في البيوت التي ألقيت عليها القنابل ؟ سكت خالي ولم يتكلم.

-ثم قال: نسأل الله أن يحميهم وأن يهزم العدو .

- قلنا جميعا: آمين .

عدنا إلى غرفة الضيوف جلسنا وقلوبنا خائفة بدأت أقلق أكثر على أسرتي وبدأت أتساءل هل هم بخير ؟ هل يمكن أن يصابوا بأذى ؟ هل يمكن  أن تنالهم قذائف العدو ؟ أحاول أن اطمئن  نفسي, فأقول لا شك أنهم بعيدون عن أماكن تساقط القذائف . ثم أعود وأفكر, ماذا لو سقطت على بيتنا  قذائف العدو؟ ماذا يمكن أن يحصل؟

-قلت في نفسي: سوف يموت الجميع بلا شك.

-يسألني  خالي: بماذا تفكر يا نضال؟

- قلت: يا خالي يجب أن اذهب, أرجوك أن تسمح لي فأنا قلق جدا لا أستطيع الجلوس, وأنا بعيد عن أسرتي في هذا الوقت العصيب تكررت أصوات الانفجارات, وفي هذه الأثناء كانت قريبة جدا منا شعرت أن منزل خالي يريد أن يتهاوى من شدة أصوات الانفجارات, خفت وارتعبت.

-قلت: يا خالي: اذهبوا معي إلى منزلنا فلعله يكون أكثرا أمنا من هنا, فقد اقتربت الانفجارات كثيرا من منزلكم.

-قال خالي: لا عليك يا نضال, فلن أخرج من المنزل حتى لو حطمت القذائف منزلنا عن بكرة أبيه.

 شعرت بالغضب الشديد من العدو.

- وقلت: هؤلاء الجبناء لا يقاتلون إلا من بعيد, ولو كنا نملك مثل أسلحتهم لسحقناهم جميعا.

 امتلئ قلبي غيظا على أبناء القردة, ولكن لا أدري ماذا أفعل, تمنيت لو أنني أملك طائرة لو أنني أملك سلاحا قويا لو أنني أملك صاروخا, لو إنني املك قنبلة لا افجر بها العدو, ولكن هيهات فانا اعزل لا املك شيئا, اتجهت إلى الباب الخارجي لمغادرته

-, قال خالي وأبناءه: لا تذهب يا نضال

-قلت: لهم أرجوكم دعوني اذهب فلن استطيع الاحتمال أكثر من ذلك

- قال خالي: ما دام انك مصر على الذهاب فلا يسعني إلا أن أقول لك :اذهب بحفظ الله ورعايته

 ,خرجت من منزل خالي مسرعا بالرغم من إنني لا زلت اشعر بالألم في ظهري من آثار ضرب العدو أومأت إلى سيارة أجرة كانت في الشارع فقلت: أريد موقف الحافلات العام قال تفضل, ركبت في المقعد الأمامي بجنب السائق .

 قال لي من أين أنت؟

قلت من منطقة العمارة

 قال آه من المنطقة التي يركز عليها العدو بضرباته بالقنابل والطائرات

 قلت مندهشا: ماذا ؟ وهل يركز العدو ضرباته على هذه المنطقة, قال: نعم منذ ساعتين ,وهم يلقون عليها القنابل من الطائرات . خفت أكثر ليس على نفسي بل على أسرتي

 وقلت له: هل من الممكن أن تسرع  أكثر لو سمحت؟

قال لي: يبدو الخوف ظاهر عليك,

ثم قال: لا تخف نحن هنا  بعيدين عن الانفجارات

 قلت: لست خائفا على نفسي؛ بل خائفا على أفراد  أسرتي.

 قال: حفظهم الله لك وأمنَّهم من شر العدو

 قلت: آمين.. آمين.

أسرع قليلا حتى وصلنا الموقف وأخذ أجرته وذهب.

 أسرعت إلى الحافلة حتى وصلت إليها وكانت على وشك الانطلاق, قال: سائق الحافلة: لم يعد هناك مقاعد لتجلس عليها.

قلت: أرجوك أستطيع أن أبقى واقفا.

 قال: لا، هذا ممنوع لأنه مخالف لقانون السير.

 كررت عليه الطلب فوافق. ووقفت عند الباب الخلفي وأمسكت بمقبض الكرسي الذي بجانبي... وقفت مهموما أتمنى لو تصل الحافلة بثواني لكي اطمئن على أسرتي،  وأخذت أنظر في وجوه الركاب فلا ألمح في وجوههم إلا البؤس... لا أحد يبدو مسرورا، لدرجة شعرت من خلالها أن لا أحد منهم يرغب في الكلام... الجميع صامت، فبت لا أسمع إلا ضجيج الحافلة.

 قلت: إن الاحتلال هو السبب بلا شك... إنهم الصهاينة... إنهم أعداء البشرية... إنهم الطغاة المتغطرسون... هم سبب بؤس أهلنا... وهم سبب نكبتنا...

وأخذت أحدث نفسي ولا يسمعني إلا الله... ورحت أتضرع إليه أن يدمر الطغاة وأن يزلزل الأرض من تحت إقدامهم وأن يمسخهم قردة وخنازير كما مسخ أجدادهم....

ومن شدة الغضب بت أشعر أن كياني يهتز، بل ينقلب رأسا على عقب لا أعرف ماذا أفعل؟! وأخذ شعوري بالغضب يزداد كلما نظرت إلى الشوارع التي كنت ألهو مع أقراني في أيام الصبا فأجدها محفَّرة، وعندما أنظر إلى جدران البيوت فأجدها متهالكة وقد ألت للسقوط، فجأة سمعت أصوات الطائرات، وأصوات الانفجارات تقترب نحونا من جديد، وكانت تلك الأصوات قوية لدرجة أن الحافلة كانت تهتز، ويوشك معدنها الهش أن يتطاير، وهي مع ذلك تواصل سيرها. اقتربت الحافلة من مكان وقوفها وشعرت بوقوع انفجارات قريبة منا حتى أنني خفت من أن تصيب حافلتنا فنضحى في خبر كان... وصلت الحافلة إلى موقفها الأخير فنزلت مسرعا... وفجأة وقعت قنبلة ألقتها إحدى الطائرات على حي قريب من موقف الحافلات القريب منا، استلقيت فورا على الأرض كي لا أصاب بأذى, ثم نهضت وسرت مسرعا أريد أن أصل بأسرع وقت ممكن إلى البيت... كان البيت بعيدا عني بحوالي  2 كيلو تقريبا...

 مضى نصف الطريق فبدأت تنكشف أمامي مباني الحي الذي اعيش فيه من الجانب الغربي, فإذا المنازل محطمة، وقد دكت بالأرض دكا، وكان الأرض قد انكفأت بالبيوت وجعلت عاليها سافلها!! ما هذا... رحماك يا ربي... صرخت من هول المشهد... واقتربت من حطام أحد المنازل فرأيت يد إنسان تطل من بين الأنقاض... اعتصر قلبي الألم ثم قلت في نفسي: لعل صاحب هذه اليد ما زال حيًّا، فحاولت انتشاله من بين الأنقاض ثم تفاجأت أن رأسه لم يبق منه إلا جزءا بسيطا, فتركت المكان وأنا أبكي... وأسرعت إلى بيتنا الذي نسكن فيه اقتربت من شارعنا فوجدته محطما تماما حتى إنني كدت لا أعرفه, البيوت من حوله محطمة متهاوية... ويبدو أن  العدو قد صب جام غضبه عليها وصب عليها القنابل صبًّا ....  كدت انفجر من الغضب،  ولم أتمالك فوجدت الدموع تنهمر من عيني كالنهر الجار... وواصلت المشي حتى وصلت إلى منزلنا... ويا هول ما رأيت... ذهلت من شدة الصدمة ووقفت صامتا أتساءل: أهذا هو منزلنا؟!!.

أهذا الحي حينا أم إنني ضللت الطريق؟!!.

قلت في نفسي: مستحيل لابد أنني مخطئ... أو إنني في كابوس مزعج... بل إن ضربات الجبناء لي على رأسي قد أفقدتني وعي وأخلَّت بذاكرتي.

استغرقت بعض الوقت حتى عادت إليَّ ذاكرتي فإذا البيت كله مدمر ولم يبق منه إلا بعض الجدران  المتهاوية.... فأخذت أتساءل أين أمي؟!... أين أبي؟!... وأين إخوتي؟!...

صرخت بأعلى صوتي ... أين أنتم؟! أين أنتم؟! لعل أحدا منهم يجيب.... ولكن دون جدوى... حاولت العثور عليهم بين الحطام... كانت جدران المنزل قد تهاوت، وعواميد الكهرباء قد حطت على ركامها، بدأت أنبش في الركام كالمجنون لعلي أجد شيئا أحاول به  تحريك بعض الجدران المتهاوية، وجدت بعض أشياء منزلنا, ولكني لم أجد أحدًا من أفراد أسرتي... فها هي دمية أختي، وتلك لعبة أخي، وهذا كتابي المفضل، وتلك مكينة الخياطة التي كانت أمي تحيك بها ملابسنا.

بكيت وبكيت وصرت انتحب انتحابا شديدا وأصرخ بأعلى صوتي وأستمر في نبش الحجارة وأحاول إزالة الركام  حتى خارت قواي، وصرت لا أستطيع تحريك حجرا واحدا.... صحت بأعلى صوتي لعلي أجد أحدا يساعدني, ولكن لا حياة  لمن تنادي, فالصمت مطبق على المكان ولا أسمع سوى أصوات طائرات العدو الغاشم وهي تسكب رصاصها وقنابها فوق الرؤوس وعلى حطام البيوت المتهدمة...

كدت  أجن وأنا انبش الأنقاض، وأبحث عن أسرتي... نظرت إلى الجدران الساقطة من خلف منزلنا المهدوم، فأحسست كأن أنينا ينبعث من هناك, فأسرعت فورا إلى مكان الأنين , وبدأت أحرك بعض صخور الجدران التي أحس الأنين يأتي من تحتها فحركتها بأقصى ما أستطيع من قوة وأبعدتها عن بعضها حتى انزاحت فظهرت يد معفرة بالتراب، فجن جنوني وواصلت إزاحة الصخور حتى أزحت أغلبها, فإذا بأمي تئن بصوت خفيف، صحت بأعلى صوتي  أماه... أماه... أمسكت بيدها, ولكني أحسست أن عظام يدها متهتكة بعدما سقت الردم عليها... نظرت إلى وجهها فلم أكد أعرفها لأن الدماء قد غطت وجهها ورأسها, فأمسكت كتفييها وحاولت حملها لأعلى ولكني لم أستطع لأن الأنقاض قد أطبقت على رجليها... أخذت أزيح الأنقاض حتى استطعت تخليصها فحملتها إلى أعلى وأنا أبكي وأصرخ, وضعت يدي على وجهها, وأنا أنادي: أمي ... أمي... ضممتها إلى صدري... وأخذت أزيح التراب عن وجهها المتعفر فلاحظت الدماء تنبعث من فمها، حاولت أن أفعل شيئًا، ولكن في تلك الأثناء انقطع أنينها، ناديتها بأعلى صوتي أمي ... أمي... ولكنها لا تجيب تحسست أنفاسها وحاولت تحريكها ولكن دون جدوى... فقد فارقت الحياة بين يدي، وانتقلت روحها الطاهرة إلى باريها... احتضنتها وأنا أنتحب حتى أوشكت على الهلاك...

ثم نهضت كالمجنون أبحث عن الباقين من أفراد أسرتي... ماذا أفعل يا ترى وأنا هنا وحدي؟!

 قلت في نفسي: لا بد أن أبحث عن مساعدة ثم أعود, ذهبت فورا وأنا أركض لعلي أجد أحدا حتى وصلت إلى شارع آخر شاهدت مجموعة من الناس يساعدون في عمليات الإنقاذ فتوسلت إلى بعضهم ليهبوا لمساعدتي فقلت لهم: إن عمارتنا سقطت على أسرتي فعاد بعضهم معي إلى بيتنا المهدوم وعندما وصلوا أخذوا يزيحون الصخور صاح أحدهم: لقد وجدت طفلا!!

ركضت صوبه مسرعا فنظرت إليه, فإذا هو أخي الصغير علاء قد فارق الحياة فحملته وأنا أبكي بشدة وأصرخ، فجاء من حولي يحاولون مواساتي وأخذوا أخي مني, ووضعوه بجانب والدتي ، وراحوا يواصلون البحث ونبش الأنقاض, وفجأة سمعت صراخا شديدا ينادي: نضال... نضال... فنظرت خلفي، فإذا أبي وأخي سمير يركضون نحوي فركضت نحوهم واحتضنتهم وأنا أبكي، وقال والدي: هل عثرت على أمك؟.

قلت: نعم، لقد ماتت ومات أخي علاء تعال وشاهدهما، فنظر أبي وأخي سمير إلى أمي وأخي علاء، وبدأ يصرخ بأعلى صوته ويحتضنهما والدموع تسيل على وجنتيه وتابعه بالصراخ والبكاء أخي سمير.... وتجمع من كان حولنا وأخذوا يواسوننا ويقولون احتسبوهما عند الله... هناك مئات الناس دفنوا تحت الأنقاض, قاتل الله العدو !!... يجب أن تذهبوا من هنا فربما تعود طائرات العدو مرة أخرى فتقضي على ما تبقى منا... حملوا والدتي وأخي والدموع والنحيب لا تنفك  عنا ابتعدنا عن حيينا  ووضعنا والدتي وأخي في سيارة الإسعاف, وذهبنا معهم حتى وصلنا إلى مستشفى المدينة , وهناك قالوا لنا في المستشفى أين تريدون دفنهما؟ قلنا في مقبرة المدينة, فجلسنا في المستشفى ننتظر حتى أتم المستشفي تغسليهما وتكفينهما, ثم ذهبنا بسيارة  الإسعاف ودفناهما ونحن ننتحب, ولم نكن الوحيدين الذين ننتحب في المقبرة، بل كانت مليئة بالجنازات, فدفنا والدتي وأخي لتأتي جنازات أخرى سببها القصف.

لملمنا جراحنا... عدنا إلى منازلنا المحطمة... رفعنا الأنقاض... أعدنا البناء... زرعنا الأرض ورويناها بالدماء... عزمنا على الصمود حتى آخر نفس من أنفاسنا... لن نترك أرضنا ولن ننسى قضيتنا... وسوف نثأر في يوم من الأيام لشهدائنا... وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

               


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع   الآداب