طالما فكر " صفوان " وهو جالس فوق صخرة عند الشاطئ أن يكتشف الأفق البعيد الذي يبعث في ذهنه خيالات لأرض منبسطة فيها ملايين المخلوقات .
كان يظن في نفسه أحياناً بأنه مغامر كبير، وهو لم يزل مجنوناً صغيراً في تصوراته .
سأل نفسه :
" لم لا أكون المغامر الرسمي باسم المغامرين الحالمين ؟ هل من الممكن أن يحصل هذا ؟
هل من الممكن أن أجازف وأدفع البحر ورائي ، وأصل إلى الأرض البعيدة ، واقطف أزاهير الخيال في رحلة واحدة ؟ "
لم يفكر صفوان إلا باجتياز البحر فوق دولاب مطاطي منفوخ بالهواء ، يتخذه سفينة يشق به سطح البحر إلى ما يريد .
كانت نوافذ البيت تطل على الشاطئ ، ومن باب جانبي يتسرب أطفال البيت في كل حين يمرحون ، ويصيدون السمك بسناراتهم مع أولاد الحي الممتد بمحاذاة الشاطئ ، يحجزونه في تجاويف الصخور... ولكن خيال صفوان يبقى ممتداً إلى الأرض البعيدة وراء البحر.
نظر إلى الأفق الغربي ، حاوره :
" كم أهديك من خيالي صوراً وصوراً ؟
كم هربت إليك عيناي ألوف القصص والحكايات ؟
من أجل الأرض المجهولة سأعلن مغامرتي في نفسي ، وسأخفي محاولتي عن أمي وأبي وإخوتي ، وعن كل رفاقي في الحي .
كان صفوان يهدي من تصوراته أحياناً إلى أصحابه ، ويقابل بها تصوراتهم ، كثيراً ما كان يسقط أثماراً من ذهب من السماء في يديه ، ينقش على جدرانها حكاياته المزهرة بالصوت واللون ، كثيراً ما يمشي وخلفه جنود ، وحقول ، وأكوام من السنابل ، وآلاف العصافير تحلق فوقه .
في أحد الأيام تمدد فوق صخرة ، تأمل البحر بعيني طفل مغامر إلى ما وراء الأفق ، إلى الأرض الملساء الفضية ، تساءل :
" هل يا ترى أرهق نفسي بالتطلع إليها ؟
هل أنا كغيري ممن يرهقون أنفسهم وهم يتطلعون إلى ما وراء الأفق ؟ "
إن كل خيالات الأطفال في العالم لا تصل إلى مدى خيالات صفوان ، ولا يلتقي بها ، صمم على أن يحاول ، ويغامر.
قال بثبات في سره :
" أجل سأحاول .
من يدري أنني سأحاول ؟
لا أحد يدري ، إذاً لا أحد يمنعني من المحاولة " .
كانت الأرض الفضية البعيدة تزين لصفوان حب المغامرة ، ويشعر انه مضطر ليكبح جماح خياله، فالدولاب المطاطي جاهز ليلبسه في رحلته ، وفي السفر .
وجد إن حدث أصدقاءه بمحاولته فسيسخرون منه ، وإن حدث أبويه فسيمنعانه ، رأى أن يتفرد بمحاولته ، وليعرف الفارق بين الأرض البعيدة وراء الأفق ، وما بين أرض الشاطئ هنا .
بثبات قال :
" فلأكن أول مكتشف "
ابتسم حين تصور " حناناً " ابنة الجيران ، تقول له بفخر :
ـ إنك أول مغامر في حينا ، وإنك أول رجل أحب .
طنب قامته ، رفع رأسه عالياً ، تساءل :
" ما الفرق بيني وبين الرجال سوى العمر ؟... لقد بلغت الثانية عشرة .. ستفتخر حنان حتماً أمام صاحباتها ، سأعود من المغامرة مظفراً ، وسنكون هنالك معاً وراء الأفق .
استرسل صفوان في الخيال ، غمرته النشوة ، وقال :
" كنت أتصور حبيبتي ذات صباح مبللة الشعر، خارجة من أعماق البحر.
آه ما أجمل لحظات التصور، وما أعذب موسيقى رذاذ الموج !
كم نقشت كلمات على الصخور من أجلها ، وكم طارت بي الأحلام إلى بيتها ، ونثرت النجوم بين يديها ، أحضرتها من الأرض البعيدة ، والطيور تحوم فوق رأسينا. "
تنبه من احلامه ، بعجب تساءل :
"لمَ لم يكتشفوا تلك الأرض الفضية الفسيحة وراء أفق البحر، ألأكون أول مكتشف لها ، ولتكون لي؟ لا ، لا أطمع أن أكون المالك لها ، كل ما أرجوه أن يحبني أبي وأخوي غسان وحسان ، ويفتخر بي أمام أصدقائه .
في ضحى أحد الأيام ، فكر صفوان وفكر كيف يبدأ ، كانت حنان تلعب مع أترابها بين الصخور، تختبئ حيناً عنهن وتظهر حيناً ، تسبقها تغاريد ضحكتها ، لا تدري أن عيني صفوان تلاحقانها من فوق الصخرة .
كيف يفرحها ؟
كيف يحقق من أجلها أحلى الأماني ؟
هل يقدم إليها أصدافاً من البحر، ووروداً من حديقة البيت ؟
لا ، كل البنات تعرفنه .
سأهدي غليها أرضاً فضية من وراء الأفق ، تهبط إليها النجوم ، أرجو أن تقبلها مني .
سيقول الناس عني إنني بطل مغامر، سأحضر لها اللآلئ وطيوراً من تلك التي تحلق في الفضاء البعيد ، سأحضر لها نجوماً براقة مزروعة فيها ، سأحضر لها غيمة تلتصق بالأرض .. وما يشغل بالي . ما الذي يبقى من العالم لا يوجد هنالك ؟
خطط لما يحلم ، يدفعه هواه الطفولي ، ارتدى الدولاب المطاطي ، انزلق في الماء ، رأى الماء يجتاح ثيابه ، ورأى نفسه رائعاً مع المويجات الرقيقة وهي تدفعه شيئاً فشيئاً نحو البعيد .
تألق شعروره ، صرخ بأعلى صوته :
" أحبك يا حنان ، أحبك "
شعر بالحب أنه رجل فوق البشر.
أخذ يغني مع انسياب الدولاب المطاطي في الماء ، لم يلتفت إلى الوراء ، عيناه مفتحتان ومعلقتان في الأرض الفضية عند الأفق .
طال وقت جريان الدولاب، بدأ قرص الشمس بالانحدار نحو الأفق، لم يصل صفوان إلى أرض الحلم، ولكنّه لم ييأس، بقي مجنحاً بالأمل، يقرأ في ذهنه إهمال البشر لهذه الأرض الرائعة. لم يلتفت، ساقاه تندفعان إلى الأمام، وأحلامه تضحك للبحر، وللأسماك تمرق بينها، وللسفن تلوح على شاطئ الأرض الفضية، ولنجمة الليل، وللوطن الجديد.
هل ثَمَّ مهفهف لم يمّر بخاطره؟
كان وجه حنان أميراً لأحلام صفوان، يدفعه إلى الاستمرار في المغارة وهي لا تدري.
بحيرة تتساءل:
"هل أحب حفاناً فعلاً، أم الأرض البعيدة، أم أحب الاثنتين ؟
هل سأبقى هكذا على سفر، وأحلامي على سفر؟
كيف يمكن أن أصل إلى أرض الحلم؟ "
بدأ يشعر بالذعر، والشمس تنحدر نحو المغيب رويداً رويداً، وهو لم يحترف صيد الأحلام، تساءل:
"هل مغامرتي من أجل من أحب؟
أرى أحلامي كذباً في كذب، لو لم أكن أحبها، فهل أركب الصعب؟
أخذت نسمات تسقط حبات مطر حين تلاقت بغيمة ، نظر إلى البعيد ، لم يتغير وجه الأرض .
" ما الذي يحدث ؟
كل شيء كما هو ساكن ، إلا من نسمات ندية بحبات المطر."
اصطدم دولاب صفوان برأس صخرة ناتئة ، توقف ، ألقى جسده فوقها ، تمسك بها ، استدار نحو الشاطئ ، البيوت في عينيه أشبه بالضباب ، لا تمييز بينها ، ارتعد ، بخوف قال :
" كم ابتعدت عن الشاطئ ولم أصل إلى أرض الأحلام ! "
شاهد زورقاً يجري في البحر، أخذ يلوح إليه ويصرخ ، ثم وجده يستدير نحوه .
بكى من الرعب ، وتساءل :
" هل تسمع حنان صوتي ؟... ربما تسمعه وتذرف الدمع دون أدنى فهم ... أكيد ، ستبقى حزينة من أجلي ."
وصل المركب إليه ، اقتلعته يد قوية من فوق الصخرة ، وألقته في جوف المركب ، أخذ صاحب اليد يؤنبه بعنف ، عرفه صفوان ، إنه الحاج أبو رجل الفيل .
سأله الرجل :
ـ كيف وصلت إلى هنا يا ولد ؟
ماذا تفعل ؟
ألم تخشى سمك القرش ؟... قد ينهشك ويبتلعك .
حطمت الأسئلة بنبراتها اللاسعة أحلام صفوان ، أجابه :
ـ فقط أردت أن أصل إلى تلك الأرض الفضية البعيدة .
بسخرية سأله أبو رجل الفيل :
ـ أية أرض هذه ؟
ـ هنالك يا عم ، وراء البحر.
قهقه الرجل وهو يقول :
ـ ليس ثمة أرض أبداً ، إنما امتداد لسطح البحر...ألهذا سافرت بدولابك المطاطي لتصل على ما تظنه أرضاً ، ولا تعلم أنك تغامر بحياتك ؟
بكى صفوان من هول الصدمة ، تهشمت أحلامه ، ثم سأله الرجل :
ـ لم تخبرني من أنت يا بني .
أجابه صفوان :
أنا ابن أبي غسان .
بهت الرجل ، وقال :
ـ إنهم يبحثون عنك في كل مكان .
ثم طمأنه قائلاً :
ـ ستصل على أهلك سالماً بإذن الله .
كان المركب يتجه نحو الشاطئ ، توقف بعد ساعة ، نزل صفوان بزورقه المطاطي ، وجرى بسرعة وهو بين خوف من أبيه ، وشعور بالفشل لعدم تحقيق ما يتمناه .
بلهفة سألتُ صفوان أخي وهو يحدثني عن ذكرياته :
ـ أعرف أن أبانا يكون قاسياً أحياناً ، ذكرني بما نسيت ، كيف كان موقفه ؟
ضحك وهو يقول :
ـ امتزجت اللهفة في عينيه إلى لقائي ، مع الرغبة الشديدة بضربي وتأديبي ، إلا أنه ضبط مشاعره ، وسألني :
" ما الذي دفعك يا بني لأن تبتعد عن الشاطئ بهذا الشكل إلى ذلك البعد المخيف ؟
قلت له :
ـ أردت أن أصل إلى ما وراء أفق البحر، تصورت أن هنالك أرضاً بعيدة لم يصل إليها أحد .
لم يستطع أبي إخفاء دهشته ، قال وهو يبتسم ويضمني إلى صدره :
ـ ليس ثمة أرض كما تصورت ، بل امتداد سطح البحر إلى ما لا نهاية .
سألته :
ـ ثم ، هل ...؟
أجاب :
ـ مسك أبي رأسي بكفيه بمنتهى الحب ، ونظر في عيني ، وكأنه يقرأ فيهما المستقبل المجهول ، أطرق قليلاً ، ثم قال لمن حوله :
ـ سيكون صفوان أول من يهاجر من العائلة .. إلى أين ؟ الله أعلم .
امتزج ضحكي ببكائي وأنا أسأله بمرارة :
ـ أخي : كم مضى على غيابك ؟ ثلاثون سنة أليس كذلك ؟
أنت ألو من فتح باب الهجرة على مصراعيه في العائلة إلى أسترالية حتى أربى العدد على المائة ، وبإرادتهم ... هذه نبوءة أبينا ، أما هو فرفض الهجرة رغم إلحاح أولاده .
صمتّ قليلاً ثم قلت :
ـ أما أنا فكانت هجرتي مع أسرتي من الوطن بغير إرادتي ، وأراني اليوم صفر اليدين من أولادي بعد أن أصابتهم عدوى الهجرة ، فهم مشتتون في أرجاء الأرض .
ثم سألته :
ـ ما الدافع الذي كان لهجرتك ؟
أجاب بسخرية :
ـ لم أكن جيداً في دراستي كما أراد أبي ، وكان عقلي في الحب عقلاً صغيراً ، غير أني في العشق كنت لحنان أميراً ، أكسبني جرأة ، كانت أحلامي كالعصفور تطير في كل مكان .
ضحكتُ وأن أسأله :
ـ ماذا كنت ترى في أرض الحلم وراء الأفق البعيد ؟
قال :
ـ كنت أرى نجوم السماء ينعكس خيالها فوقها لآلئ وجواهر، والطيور تحلق أتصورها تحط على شجر لم نزرعه ، فكنت أقطف منها تصوراتي وحكاياتي .
نظرت إليه بحب أخوي وقلت :
ـ كنت طفلاً يحب من غير عقل ، ويحب التغيير، كانت تصوراتك تهديك نجوماً وأزهاراً ، ويرشان حولك العطور، ويسمعانك التغاريد .
والآن بعد هذه الهجرة المديدة ، وكفاحك ، وتحقيق أكثر أحلامك ، كيف حالك ؟
أجابني بشوق :
ـ آه ... أتمنى لو ظل عقلي صغيراً .
سألته بعجب :
ـ هل ذاك معقول ؟
وحنان ؟
أجابني :
ـ أسائل نفسي : هل كانت تحبني يا ترى ؟ أم أنها لم تكن تعرف عن الحب أكثر مني ... كنت كلما اقتربت منها كي أمسكها أفلتت مني .