سنن التغيير
كان الوضع الإسلامي بعد جمادى الثانية من سنة ثمان من الهجرة وأوائل رجب من نفس العام في غاية الاستقرار؛ إذ إن هناك رهبة وهَيْبة للدولة الإسلامية، وهناك انتصارات متكررة في صورة جديدة لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.
وهذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة قد انقضت، ومن بعدها مباشرة ستبدأ فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي مقدمات فتح مكة.
وحين نتكلم على فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة كان لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذكر الفتح معرَّفًا هكذا {الفتح)، انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا؛ فكان انتصار المسلمين في خيبر فتحًا، وعلى الرومان في مؤتة فتحًا، وعلى المشركين في بدر فتحًا. فكل هذه فتوحات، إلا أنه إذا ذُكر الفتح فقط، عُرف أنه فتح مكة.
وهذا الفتح كان ما قبله شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر، حتى إن الرسول كان يقول: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ"{1}.
ويقول رب العالمين تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} {الحديد: 10}.
أي أن ما قبل الفتح كان شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر؛ فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر، فكان الفتح بالفعل لحظةً فارقة حقيقية؛ إذ معناه التمكين لدين رب العالمين تعالى، وكان معناه النصر، ومعناه السيادة.
وقد أردتُ أن أستغل هذا الحدث لأتحدث عن بعض سنن التغيير، وسنن النصر والتمكين في الأرض، والتي نستخلصها جميعها من فتح مكة.
السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده:
فمنذ أحد عشر عامًا من أصل ثلاثة وعشرين أو ثلاثة وعشرين ونصف هي عمر البعثة النبوية بكاملها؛ منذ هذه السنوات واللات والعزى ومناة وهُبل يُعبدون من دون الله، وفي داخل مكة المكرمة.
فكان يتمنى البعض أن تُفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسول الدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين، وهوممكَّن في الأرض.
لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسنة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، والله يقول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} {فاطر: 43}.
فكان رب العالمين تعالى قادرًا على أن ييسر أمر فتح مكة منذ أول لحظة من لحظات هذه الدعوة، أو على الأقل بعد سنة أو سنتين من فتح المدينة المنورة، لكن كان هذا الانتظار الطويل حتى يعلمنا جميعًا أنه تعالى لا يعجل بعجلة عباده.
السنة الثانية: التمكين يأتي من حيث لا يحتسب:
أي أنه مثلاً لو أراد المسلمون أن يفتحوا مكة، فلا شك أنهم سيضعون أكثر من سيناريو لهذا الأمر، ولو أنهم وضعوا ألفًا منه لجاء التغيير، وشتان -سبحان الله- بين الرقم ألف والرقم واحد
فهناك افتراضات كثيرة متوقعة؛ منها على سبيل المثال أن تغزو قريش المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو أن تحاول قريش قتل الرسول، أو أن تعتدي على قافلة إسلامية، أو أن تنتهي سنوات الهدنة العشر، فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة.
افتراضات كثيرة جدًّا لكن -سبحان الله- لم يحدث الفتح نتيجة أيٍّ منها، ولا لغيرها مما يكون قد خَطَر على قلوب المسلمين، لكن حدث ذلك بشيء غريب؛ فما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين.
وإن المرء ليتساءل: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصةً البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخلت بنو بكر في حلف قريش.
فكانت القصة بين المسلمين وبين قريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر أيُّ دخل فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي سيؤدي إلى الفتح كما سنرى.
خزاعة وبنو بكر وحلف المسلمين وحلف قريش
إن دخول خزاعة في حلف الرسول يحتاج لوقفة خاصة؛ وذلك لأن الله تعالى دفع خزاعة دفعًا للدخول في حلف الرسول، فقد كانت خزاعة قبيلة مشركة، وإنه وإن كانت هناك عَلاقات حميمة وقديمة بين خزاعة وبني هاشم، إلا أنه كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف بني هاشم من المشركين، وليس في حلف بني هاشم من المسلمين؛ وذلك لأنها مشركة وعلى مثل دينهم، فلماذا إذن تترك خزاعة بني هاشم المشركة، وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول؟ وهو أمر عجيب حقًّا.
وإذا راجعنا قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة، وجدنا أنه كان بينهما {بني بكر وخزاعة) ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر للدخول في حلف قريش، عندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين، وهو الحلف المعاكس؛ وذلك لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل حال، بدليل أن قريش حين خرجت من مكة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سُرَاقة بن مالك وقال لهم: "إني جار لكم من كنانة"{2}. وكنانة هذه تشمل بني بكر.
فكانت القصة معقدة، والأحداث فيها لا يمكن أن تفسر إلا عن طريق أن الله أراد لها أن تتم على هذه الصورة.
بنو بكر مع أن العلاقة بينهم وبين قريش معقدة إلا أنها دخلت في حلفها، وخزاعة مع أنها مشركة إلا أنها دخلت في حلف المسلمين، وذلك كله سيؤدي إلى شيء غير متوقع بالمرة كما سنرى.
مع ملاحظة أن بني بكر التي نتحدث عنها ليست هي بني بكر بن وائل المشهورة، فالأخيرة من قبائل ربيعة، في حين التي نتحدث عنها هي بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهي من مُضَر.
ومهما يكن من أمر فقد كان ثمة خلاف كبير وثأر قديم بين بني بكر وخزاعة، وقد كان هناك ضحايا من بني بكر قتلتهم خزاعة.
وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر، تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة فأرادت أن تنتقم {وهذا بعد صلح الحديبية)، فأغارت على خزاعة وقتلت منهم رجالاً، وكانت معاهدة الحديبية تنص على أن من أغار على خزاعة، فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة يُعَدّ نقضًا صريحًا للمعاهدة بينهم وبين المسلمين.
بنو بكر وقريش وخيانة العهد
بتحليل منطقي فإنه إذا حدثت هذه المخالفة وأغارت بنو بكر على خزاعة قبل الحديبية فما كان ذلك يُحدِث أيَّ نفع للمسلمين؛ إذ الحالة أن قبيلة مشركة اعتدت على قبيلة أخرى مشركة.
وقد تكون هي النتيجة نفسها أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة، فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.
ولو حدث وضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف ما مُهِّد الطريق للفتح، وأيضًا لو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر، وقدمت الاعتذار للمسلمين لكان الموقف قابلاً للتفاوض والحل السلمي.
لكن ما حدث هو أن قريشًا أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهورٍ عجيب. ولعل هذا الموقف لو حدث وتكرر ألف مرة مع قريش فإنها - ولا شك - لن تتردد في رفضه، لكن ما حدث هو تدبير رب العالمين تعالى {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} {الطَّارق: 15، 16}.
كخيانة متوقعة منهم هجمت بنو بكر على خزاعة تلك التي ليست مستعدة للقتال، خاصةً أن هناك صلح الحديبية وفيه هدنة عشر سنوات، وقتلوا من خزاعة الكثير من الرجال.
لم تجد خزاعة إلا أن تفر إلى أقرب مكان آمن وهو الحرم المكي، ومساكنها قريبة منه، فخرج الرجال والنساء والصبيان إلى مكة المكرمة، ودخلت بالفعل داخل الحرم، ومن ورائها بنو بكر تطاردها بالسلاح.
وبالطبع كان لهذا الموقف أن يزيد المشكلة تعقيدًا؛ إذ لو وقعت المعركة خارج الحرم كان من الممكن أن تنكرها قريش، أو تزعم أن ذلك حدث رغمًا عنها، إلا أن القتال وقع داخل الحرم، أو قُلْ إنه داخل قريش التي كثيرًا ما كانت تتشدق بأنها حامية الحجاج والمعتمرين، وحامية المنطقة بكاملها، وأنها التي توفر الأمان فيها.
غير أن ما حدث هو أن قريشًا قامت وفي تهور عجيب، ليس بمجرد مراقبة الموقف فقط، بل أعانت بني بكر وأمدتها بالسلاح لحرب خزاعة.
وإن ما حدث من قريش هذا غير مبرر بالمرة؛ إذ إنه ليس بين خزاعة وقريش ما يدعو الأخيرة لما أقدمت عليه، وليس هناك أي علاقة للمسلمين بالقصة، فهو تصرف غير مفهوم، لكنه يضع أعيننا على شيء غاية في الأهمية، وهو أن الخيانة أمر متوقع من المشركين، قال الله في كتابه الكريم: {أَو َكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} {البقرة: 100}.
وإن العجب أن هذه الخيانة التي وقعت -وتقع دائمًا- منهم، كانت والرسول ما زال على وفائه لهم بالعهد الذي بينه وبينهم، حتى إنه ردَّ من جاء المدينة المنورة مؤمنًا من مكة مرة ثانية إلى قريش؛ وفاءً ببنود المعاهدة. وقد رأينا ذلك حين أعاد أبا بصير إلى مكة رغم خطورة هذه الإعادة على إيمان أبي بصير، وهو الأمر الذي لم تفعله قريش ولم تفعله بنو بكر، وخانوا المعاهدة.
المشكلة الكبيرة الأخرى هي أن بني بكر كانت تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر وتقبله، بل يقبله الجميع، فالقتال دار في داخل مكة البلد الحرام، في داخل البيت الحرام، وهو أمر جِدُّ خطير؛ إذ الجميع كان يؤمِّن كل زائري هذه المنطقة، وكان هذا متعارفًا عليه لدى قريش ولدى الجزيرة العربية وكل القبائل؛ إذ كان ذلك بمنزلة قانونٍ عامّ متعارفًا عليه لدى الجميع، على المسلمين والمشركين.
ما حدث هو أن بني بكر دخلت إلى مكة المكرمة لتقتل خزاعة في داخل الحرم، الأمر الذي أدهش جيش بني بكر نفسه من استمرار القتل في داخل الحرم، حتى نادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الدِّيلِيّ من بني بكر، وقالوا: يا نوفل، إلهك إلهك. يعنون أن قوانين إلهك {اللات والعزى وهُبَل وغيرها) لم تشرع القتال داخل البيت الحرام.
وهنا ردَّ عليهم قائدهم هذا بكلمه فاجرة، قال: لا إلهَ اليوم. ثم قال: يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتَسْرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟{3}.
فشجعهم على استمرار عملية القتل، لتحدث الجريمة الكبرى، وقريش لا تشاهد هذا الأمر فقط، بل تساعد عليه، فكان هذا خرقًا واضحًا للبند الثالث من بنود صلح الحديبية.
خزاعة تستنجد بالرسول
ما حدث بعد ذلك هو أن خزاعة أسرعت إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، وقد أنشد عنده بعضًا من أبيات الشعر، يعبر فيها عن المأساة التي تعرضت لها قبيلته، فكان مما قاله:

يَــا رَبِّ إِنِّــي نَـاشِـدٌ مُـحَـمَّـدًا حِـلْـفَ أَبِيـنَـا وَأَبِـيـهِ الأَتْـلَــدَا
قَـدْ كُنْـتُـمُ وُلْــدًا وَكُـنَّـا وَالِــدًا ثُمَّـتَ أَسْلَمْنَـا فَلَـمْ نَنْـزِعْ يَــدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا وَادْعُ عِبَـادَ اللَّـهِ يَأْتُـوا مَــدَدَا
فِيهِـمْ رَسُـولُ اللَّـهِ قَـدْ تَجَـرَّدَا إِنْ سِيـمَ خَسْفًـا وَجْهُـهُ تَرَبَّـدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا إِنَّ قُرَيْشًـا أَخْلَفُـوكَ الْمَـوْعِـدَا
وَنَقَـضُـوا مِيـثَـاقَـك الْـمُـوَكَّـدَا وَجَعَلُوا لِـي فِـي كَـدَاءٍ رُصَّـدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَـدًا وَهُــــمْ أَذَلُّ وَأَقَـــــلُّ عَـــــدَدَا
هُــمْ بَيَّتُـونَـا بِالْوَتِـيـرِ هُـجَّــدًا وَقَـتَـلُـونَـا رُكَّــعًــا وَسُــجَّـــدَا

وقد كان واضحًا في هذه الأبيات أن عمرو بن سالم كان قد أسلم عند قول هذه الأبيات، إلا أن معظم بني خزاعة لم يكونوا قد أسلموا بعدُ، وكان قتلى خزاعة من المشركين ومن المسلمين.
وكان ردُّ فعل الرسول عندما استمع إلى هذه الأبيات أنه لم يتردد لحظة واحدة، إنما قال في غاية الحزم والثبات: "نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ"{4}.
نَعَمْ هو لم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بصرف النظر عن مِلَّة قبيلة خزاعة، مسلمة كانت أو مشركة، فإن كان معظم قبيلة خزاعة من المشركين فإن الحلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أيِّ اعتداء.
وقد أخذ الرسول هذا القرار بمنتهى الجدية. ولا شك أن هذا يعطي ثقة للمتحالفين، ويبين للحلفاء المشركين أخلاق المسلمين، وأنهم يدافعون عن الحليف {المعتدَى عليه) إذا ما أصابه مكروه، حتى ولو كان هذا الدفاع سيصيبهم بأذًى كبير.
بعد عمرو بن سالم قَدِم أيضًا بُدَيل بن ورقاء الخزاعي، وهو الذي كانت ترسله قريش ليقوم بالمعاهدات والمفاوضات بينها وبين المسلمين أيام صلح الحديبية؛ أي أن بُدَيلاً هذا رجل صديق لقريش، ومع أنه كان يعيش في مكة إلا أن قبيلته هي التي أصيبت داخل الحرم.
الآن يتجه بُديل ليشكو إلى رسول الله، وهو أمر غريب حقًّا؛ إذ إنه في ذلك الوقت كان مشركًا ولم يسلم إلا بعد فتح مكة، وفي ذلك الوقت أيضًا كان ما زال يعيش داخل مكة المكرمة، وتجارته وعلاقاته ومصالحه بكاملها كانت في داخل مكة المكرمة، بل إن بُديلاً هذا كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان زعيم مكة، ومع ذلك فحين أصيب لم يذهب إليه ليجعله يردُّ له ولقبيلته الاعتبار، أو أن يدفع لهم ديات قتلاهم، إنما ذهب ليشكو لمن لا تضيع عنده الحقوق، ذهب إلى رسول الله.
وإني على أتم يقين أنه حين ذهب بُديل إلى رسول الله كان أقصى أحلامه أن يأخذ الرسول الفداء لخزاعة، أو يقتل من بني بكر ما يوازي ما قُتل من خزاعة، لكنه لم يخطر بباله أن الرسول سيفكر في فتح مكة، إلا أنه دُفِع إلى هناك ليكون سببًا من أسباب فتحها.
وسبحان الله فإنه أمر غريب وعجيب، لكنه يحدث ونراه بأعيننا حتى نعلم أن النصر بالفعل يأتي من حيث لا نحتسب، مع الوضع في الحسبان أن بُديلاً كان مشركًا، ولم يؤمن بالإسلام حتى هذه اللحظة، وغير مقتنع بهذا الدين، بل لعله يكره تمامًا أن تفتح مكة بالإسلام، لكن قاده رب العالمين تعالى إلى المدينة المنورة ليستغيث بالرسول؛ ليكون هو سببًا من أسباب فتح مكة بالإسلام.
فهي ترتيبات وموافقات عجيبة ليجيء النصر في النهاية بطريقة لا يحسب حسابها أحد من المسلمين أو من المشركين..وهذه إذن السُّنة الثانية من أمور فتح مكة، وهي أن الله تعالى يأتي بالنصر من حيث لا يحتسب المحتسبون.
السنة الثالثة: النصر يأتي من حيث يكره المسلمون:
أمر غريب جدًّا لكنه متكرر إلى الدرجة التي تجعله سُنَّة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، إنما يأتي من حيث يكره المسلمون.
فطالوت -رحمه الله- ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن الله جعل النصر في هذا اللقاء. وقد كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله في باطنه النصر، يقول تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} {الأنفال: 5}.
وكره المسلمون تحزُّب الأحزاب حول المدينة، وقد صور ذلك تعالى بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} {الأحزاب: 10}.
لكن -سبحان الله- كان فيه من الخير الكثير، وقد قال الرسول بعد الأحزاب: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا"{5}. وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: لِمَ نُعطي الدنية في ديننا؟ وكان في باطنه الخير كل الخير الذي تلا ذلك.
وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول إلى عظيم بُصْرَى، فكان وراء هذا القتل المكروه انتصار مؤتة. وكذلك كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، إذ لا شك أنهم يريدون أن تمتد الهدنة عشر سنوات وأكثر من ذلك؛ لأنهم رأوا في أقل من سنتين خيرات كثيرة، فكيف إذا امتد الأمر إلى أكثر من ذلك؟
رأوا أعداد المسلمين تتزايد بشدة في زمن الهدنة، وغياب الحرب.
والآن بعد هذا النقض للمعاهدة قد تحدث حرب، وقد يحدث اضطراب، وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، وأكثر من ذلك من الممكن أن يحدث من وراء هذا النقض.
ولكن قد يحدث ما نكره قسرًا ورغمًا عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين بسبب الحدث الذي نكرهه.
ولماذا هذه السُّنَّة؟ ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟
وهذا الكلام يتكرر كثيرًا في كل مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألاّ نُفتن بنصرنا، أو نعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، وذكاء عقولنا، وسرعة تصرفنا.
يجب ألاّ ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي تعالى؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله. ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت، وليس معنى هذا أن نترك التخطيط، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقًا، فلا بد أن نضع ألف خُطَّة جادة لتحقيق النصر، وقد يأتي النصر من غير هذه الخطط كلها، ولكننا نُؤْجَر على أخذنا بالأسباب.
إن وضع الألف خطة شيء ضروري لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب؛ لتكون مستحقًّا لرضا رب العالمين تعالى، ومن ثَمَّ تستحق نصر الله، ويأتي النصر بالخطة التي لم تحسب لها حسابًا، حتى تُرْجِع الفضل في النهاية لله؛ لذلك يقول الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} {النَّصر: 1}.
النصر نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} {النَّصر: 2}.
ما رد فعل المسلمين عندما يرون الفتح والنصر؟ يوضح الله لنا في هذه السورة القصيرة المعجزة {سورة النصر) ما يجب على المسلمين أن يفعلوه، قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} {النَّصر: 3}..فسبح بحمد ربك الذي نصرك، والذي أيدك بقوته، والذي مكَّن لك في الأرض، ثم استغفره تعالى.
ولماذا يأتي الاستغفار بعد النصر والتمكين؟
يأتي الاستغفار حتى لا يكون قد دخل في رُوعِك أنك قد انتصرت بقدرتك وقوتك، وتخطيطك وتدبيرك، وتقول: أنا فعلت كذا، وأنا خططت، وأنا دبرت.
استغفرْ من هذا الأمر؛ لأن الله هو الذي فعل.
وسوف نرى الرسول يدخل مكة وهو في حالة من أشد حالات تواضعه؛ حتى لا يُفهم أنه فعل ذلك بقدرته البشرية، ولكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين، وهو الذي أراد النصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له تعالى.
فيأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدعي مُدّعٍ أنه قد انتصر بقوته، ولكن ينسب الفضل والنصر لله، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {الأنفال: 17}.
السنة الرابعة: طول فترة الإعداد أحد أسباب النصر:
وهذه السُّنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، ولكن التدبر في هذه السُّنة سيثبت -إن شاء الله- عكس ذلك، وهذه السُّنة تقول: إن فترة الإعداد تكون طويلة للدولة الإسلامية؛ حتى نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، ولكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة؛ فالإعداد لفتح مكة والتمكين استمر إحدى وعشرين سنة بالتمام والكمال، كانت أول البعثة في رمضان قبل الهجرة بثلاثة عشر عامًا، وكان الفتح في رمضان بعد الهجرة بثماني سنوات، فتكون المدة كلها إحدى وعشرين سنة كاملة.
فنرى أن فترة التمكين سنتين ونصف من فتح مكة إلى وفاة الرسول، وبعد وفاته حدثت الردة وانتهى التمكين، فتكون فترة الإعداد إحدى وعشرين سنة، من أصل ثلاث وعشرين ونصف؛ أي أن 89% من فترة السيرة هي مرحلة {إعداد وعمل)، وفترة {التمكين) 11% فقط.
ولنراجع قصص التمكين في القرآن الكريم، والتي سبقت الرسول، فسيدنا نوح عليه السلام ظل في فترة الإعداد تسعمائة وخمسين عامًا، ألفًا إلا خمسين، وفترة التمكين قصيرة جدًّا. وكذلك هود وصالح عليهما السلام.
وموسى عليه السلام ظل في فترة الإعداد مدة طويلة، إعداد له هو شخصيًّا، وإعداد لبني إسرائيل، وفترة تعذيب وتشريد، واضطهاد طويلة، وبعدها فترة تمكين قصيرة.
وهذا أمر متكرر، سواء قبل الرسول أو بعد الرسول. ولنراجع قصة صلاح الدين الأيوبي، حوالي ثمانين عامًا أو تسعين عامًا في الإعداد، وفترة التمكين خمسة عشر أو عشرون عامًا. وهذا الكلام تكرر في دولة المرابطين؛ فبعد موقعة الزَّلاَّقة 479هـ، وبعد الإعداد الكبير لدولة المرابطين، نجد أن فترة التمكين لدولة المرابطين في الأرض قصيرة جدًّا؛ إعداد طويل جدًّا ما يقرب من ستين سنة، ثم تمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان. إنها سُنَّة الله في كونه {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} {فاطر: 43}.
ونأتي إلى سؤال مهم: لماذا تستمر فترةُ التمكين وقتًا قصيرًا، في حين يكون الإعداد مدة طويلة؟ وهذا إنما يحدث لسببين:
1- السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين؛ الاقتصاد يتحسن، والأوضاع الاجتماعية تتحسن، والدنيا تنفتح على المسلمين، فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع بين الناس، وهذا التصارع يكون على شيئين رئيسيين، وهما: المال والسلطان، يتصارعون على المال، ويتصارعون على السلطان، ولنا في التاريخ عِبْرة.
وكان الرسول يخشى على المسلمين من هذا الأمر، قال: "فَوَ اللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"{6}.
ففي أثناء فترة الإعداد لا توجد فتنة الدنيا، ولكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعًا، والمعصوم من عصمه الله، والقليل من الأمة هو الذي لا يقع في هذه الفتنة.
2- السبب الثاني: أن عددًا هائلاً من البشر سيدخل الإسلام لقوة الإسلام، وليس اقتناعًا بمبادئ الإسلام، وهذا يكون في زمن التمكين؛ فالناس يرون دولة قوية ممكَّنة ولها سيادة في الأرض، فيذهب الجميع إلى الانضمام إلى هذه الدولة، سواءٌ أكانوا مقتنعين أم غير مقتنعين بمبادئ الدولة الإسلامية، وهذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت؛ فتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع لتربية كما خضع لها الأولون، وهذه الأعداد المتزايدة تأخذ قسطًا صغيرًا من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعًا، فيختفي التمكين.
لقد ظل المسلمون في فترة الإعداد تسعة عشر عامًا في السيرة النبوية حتى آمن ألف وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر، وبعد صلح الحديبية وفي أقل من سنتين وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف، وهم ذاهبون لفتح مكة المكرمة، ونرى النقلة الهائلة بعد فتح مكة بسنة واحدة؛ فقد خرج الرسول في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، فالعشرة آلاف الذين أسلموا قبل الفتح قد أصبحوا بعد الفتح ثلاثين ألف مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف مقاتل الذين دخلوا مكة كان منهم حوالي خمسة آلاف أو ستة آلاف أتوا قبل الفتح بشهور أو أيام قليلة.
وبعد الفتح نجد نقلة هائلة، فقد دخل في الإسلام عشرون ألفًا، دخلوا الإسلام مرة واحدة ومن سنة تسع من الهجرة إلى سنة عشر من الهجرة دخل في الإسلام حوالي مائة ألف، وسوف نرى أنه في حجة الوداع كان مع الرسول حوالي مائة وثلاثون ألف مسلم في بعض التقديرات، فنجد أن الزيادة في العام العاشر من الهجرة النبوية مائة ألف من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن ثَمَّ نرى أعدادًا ضخمة قد التحقت بالدولة الإسلامية، وهما في محاضن بعيدة جدًّا عن المدينة المنورة، وليس هناك الطاقة الكاملة لتربية هؤلاء، فلما حدثت أزمة وفاة الرسول وقعت الرِّدَّة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، وحدثت الرِّدة لأن كثيرًا ممن دخلوا الإسلام لم يتربوا على تعاليم الإسلام السمحة، فارتدَّ الناس كلهم ولم يثبتوا على الإسلام، ولكن عموم الناس دخلوا في وقت الفتح {وقت التمكين)، وهؤلاء لم يُعطوا الوقت الكافي من التربية؛ لذلك وقت التمكين عادةً ما يكون قصيرًا، ووقت الإعداد طويلاً.
التمكين وسيلة وليس غاية
فهل هذا الكلام محبط؟ وهل يمكن أن يقول أحد المسلمين: إن بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نُمَكَّن إلا فترة قصيرة فقط؟
والإجابة على هذا السؤال تكون بسؤال آخر: لماذا نقوم بالإعداد؟
ولماذا نريد التمكين؟
هل التمكين وسيلة أم غاية؟
أليس نريده لكي نرضي الله، ولكي نفوز بجنته تعالى؟ وإذا علمت أن اللهيعطي جنته لمن عمل بصرف النظر عن تحقيق النتيجة، وبصرف النظر عن حدوث التمكين أو عدم حدوث التمكين في زمانه، ويعطيه تعالى الأجر على قدر العمل بصرف النظر عن الزمن الذي وجد فيه، أليس ذلك مريحًا للإنسان ومطمئنًا للنفس؟
فعملك في فترة الإعداد أنت مَأْجورٌ عليه، وعملك في فترة التمكين أنت مأجور عليه، المهم هو العمل وليس التمكين. ولنراجع معًا كم من الأمم ممكَّنة في الأرض وهي من أهل النار {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} {آل عمران: 196، 197}.
وعلى الناحية الأخرى، كم من غير الممكَّنين في الأرض من أهل الجنة وهذا هو مصعب بن عمير رضي الله عنه مات في غزوة أُحد، ومع ذلك هو من أهل الجنة، وحمزة بن عبد المطلب كذل، بل إن هناك من مات في فترة مكة المكرمة، مثل سمية أم عمار بن ياسر، وزوجها ياسر y، والبراء بن معرور، وأسعد بن زُرارة، فكل هؤلاء قد ماتوا قبل غزوة بدر أصلاً، ولم يشاهدوا أيَّ نصر للدولة الإسلامية، ومع ذلك -إن شاء الله- هم في أعلى عليين.
المهم أن تعمل لله، وليس بالضرورة أن تعمل في زمان التمكين، أو تعمل بالقرب من زمن التمكين؛ لكي تسعد بنتائج العمل، ولكن السعادة الحقيقية أنك بعملك هذا سوف تدخل الجنة، والله يختار بحكمته وقدرته الوقت الذي يُمَكِّنُ فيه المسلمين.
هل العمل أكثر فائدة وأعظم نفعًا في زمان التمكين أم في زمان الإعداد؟
يقول الله: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} {الحديد: 10}.
وبذلك، وفي ضوء قوله تعالى، نرى أن العمل في هذه الفترة الصعبة {فترة الإعداد)، والتي تسبق فترة التمكين، العمل فيها يكون - ولا شك - أفضل وأعظم أجرًا. ومن مصلحة المسلم أن تطول الفترة التي يحصّل فيها الثواب، وهي فترة الإعداد، ومن مصلحته أيضًا أن يتأخر التمكين، ولكن ليس معنى ذلك أني لا أسعى للتمكين، بل على العكس إننا مطالبون به، ولكن إذا تأخر لا أحزن، ولا أكسل، ولا أفتر، ولا أقعد، وأعلم أن الله أراد لي الخير، وأراد أن أعمل في زمان ليس فيه فتنة؛ لعل الله تعالى أن يثبتني على الحق، ولعله إن مُكِّن في زمانك أن تفتتن بمال أو بكرسيِّ أو بغيره.
الرسول يستجيب لاستغاثة خزاعة
جاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة المنورة يستغيث برسول الله، فماذا يفعل الرسول إزاء هذه الأزمة، وإزاء هذا الموقف الصعب؟
الآن هناك أزمة نقض العهد، وأزمة احتمال الحرب، وأزمة اهتزاز صورة الدولة الإسلامية إذا لم يكن هناك ردُّ فعل مناسب، هذه أزمة كبيرة جدًّا.
ولننظر كيف نحوِّل الأزمة إلى فرصة؟
وهذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما يحدث لك مصيبة كبيرة تخرج من المصيبة، وتحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوِّلها إلى أمر فيه مصلحة، إلى فرصة سانحة، إلى استغلال لهذا الظرف؛ لتحقيق فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر.
الرسول كان يريد أن يفوز من هذا الموقف، فكيف يحقق نجاحًا من هذه الأزمة الكبيرة؟ وكيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لسيادة الأمة؟ ماذا فعل الرسول؟
إن الاستنكار أو الشجب والندب لا فائدة منه، فلن يسمع أحد، ولو ذهب المسلمون لهيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة، فلن تكون هناك نتيجة إيجابية، بل على العكس ربما يحكمون لقريش الدولة الأولى في المنطقة، فما الحل؟
لا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف. وتعالَوْا نرى الواقع مع الرسول، وحال الجزيرة العربية في ذلك الوقت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{1} البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير {2631)، ترقيم البغا. مسلم: كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى "لا هجرة بعد الفتح" {1864)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.
{2} ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة - بيروت، 1396هـ- 1971م، 2/386.
{3} المباركفوري: الرحيق المختوم ص340.
{4} ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون, 1415هـ- 1994م، 3/396.
{5} البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب {3884).
{6} البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها {6061). ومسلم: كتاب الزهد والرقائق {2961).

المراجع

عودة و دعوة دوت كوم

التصانيف

تاريخ