لعل المسلمين في ثنايا هذه العصور المتأخرة هم أكثر الناس آلاماً، وأوسعهم جراحاً، ولعل أرضهم وديارهم وأموالهم هي التي يستنسر بها البُغاث وتستأسد الحُمُر، والمسلمون مع ذلك يتجرعون هذه الجراحات في صياصيهم وهم لا يكادون يسيغونها، ويحملون معها أثقالاً إلى أثقالهم، إنهم يُدَعُّون إلى الاستكانة والاستذلال دعٌّا، وتتقاذفهم مضارب الغالبين إلى أن يعترفوا بأن حقهم باطل، وباطلَ غيرهم حق، يُزجُّ بهم في كل مضيق من أجل أن يقلبوا الحقائق، ويتقبَّلوا أضدادها على مضض، حتى ينطق لسانهم بالرسم المغلوط والفهم المقلوب، فتكون عبارتهم لعدوهم بلسان حالهم:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتخطئون فنأتيكم ونعتذرُ
والحق هو أن المتأمل في هزائم المسلمين المتلاحقة وضعفهم الحثيث واستكانتهم المستحوِذة عليهم أمام أعدائهم يجدُ أنها لم تكن بدعاً من الأمر، ولا هي نتائج بلا مقدمات، ولم تك قط قد قفزت هكذا طفرةً دونما سبب، وإنما هي ثمرة خللٍ وفتوق في ميدان الأمة الإسلامية وتقصير ملحوظٍ تجاه خالقها ورسولها ودينها، وهذه الثغرات والفتوق هي التي أذكاها أعداء الإسلام بما يبثونه عبر سنين عديدة من المكر والخديعة واللَّتِّ والعجن منذ زمن على الإسلام والمسلمين.
وبسبب نقمتها هذه اختبأت وراء صور الاستعمار المتنوعة، تناولُ من خلاله ما تشاء من الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت، وهي في لينها تبثُّ السم في العسل، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت, وهي في كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً، ولو نامت بإحدى مقلتيها فإنها بالأخرى يقظانة ساهرة، وهذا سرُّ أسفنا المتصاعد عباد الله.
إن الكثيرين منَّا ليتساءلون إثر كل بلية تحل بدار الإسلام: ما السبب؟ وكيف؟ ولم؟ وممّ؟ وعمَّ؟ كل صور الاستفهام تتناثر صيحاتها في مسامعنا حيناً بعد آخر، ولكن هل نجعل هذا التساؤل جديداً على أسماعنا؟ أو أن في أفئدتنا وما أعطانا الله من صلةٍ بكتابه العزيز ما يذكِّر بسؤال مماثل للرعيل الأول في أزمة هي من أشد الأزمات التي حلَّت بهم، ألا وهي هزيمتهم في معركة أحد، يندُبون حالهم، ومن ثم يتساءلون فيقول الله عنهم: أَوَلَمَّا أَصَـ؟بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى؟ هَـ؟ذَا )آل عمران:165،
فيجيبهم الله بخمس كلمات، لم ينسب ولا في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى جيش، ولا إلى عدة، ولا إلى تحرُّفٍ في قتال، وإنما قال لهم بصريح العبارة: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ.
يقول الله لهم ذلك ليبين لهم ولمن بعدهم بوضوح أن خواتيم الصراعات والمدافعات بين الأمم على كافة الأصعدة لا يمكن أن تقع خبْط عشواء، وإنما هي وفق مقدمات أثمرت النتيجة بعد استكمال أسبابها، وَمَا أَصَـ؟بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )الشورى:30.

المراجع

عودة و دعوة دوت كوم

التصانيف

عقيدة