بكَ هذا الصّهيلُ، لو تُقرّر
محمد الهجابي
هو العبثُ، هذا الذي يُطالبكَ برقصٍ على المكشوفِ، وأنتَ لا تملكُ غيرَ دبيبٍ بطيءٍ في الوريد، قد يتعثّرُ إذا ما عمدَ أحدُهم إلى فصله عنِ العضو الموصل.
أيْنَ خطؤُكَ إذن؟
بدأت مساحةُ هذا الدبيب تضيقُ كلّما أوغلتَ في المشي.
تضيقُ أنتَ أيضاً منَ الهراء حولكَ.
وتفكّرُ مراتٍ في لو تقفزَ إلى الضفة الأخرى.
تفكّرُ حقاً، لو تجني قليلاً منْ وحدةٍ سائبة، تركبُها دون رديف،
وكيف تعبركَ،
وهذا الحمل ثقيلٌ؟
وأثقلُ منْ مزن خريف، حضوركَ غير المبرّر.
كأنّك تتفرّجُ عليكَ منْ غيوم سابحة، لا تحملُ منْ علاماتٍ سوى دافن سفّته ظلمةُ القرابين.
يا الذي جرّكَ إلى كلّ الطرقات،
يا الذي واجهكَ بسفورِ المدائن وغادر،
ها أنتذا متورطٌ كما أرادَ هو، لا كما أردت.
لو جازَ لكَ لركلت تعبكَ، ورحلت.
هلْ بعدَ هذا منْ كشف يشملُكَ؟
هراءٌ، هراء.
دليلُكَ أنّكَ وحدكَ،
وظلالُكَ تعدّدٌ.
ومع ذلكَ هو لا يبصر،
ويزعمُ في ما رويتَ محضَ جنون، لا يليقُ بشخصكَ، كأنّما عليه جنيْت.
لنْ تتركَ شرفتكَ مفتوحةً طويلاً، وبكَ هذا الصهيل.
تخافُ منْ نداءات البراري،
إغراءاتُها ثابتة.
تخافُ من أن تطعنَ في وميضٍ يجيئُك منْ سلفٍ، أو منْ صلفٍ.
لا تزايلُ عن طيب خاطر،
ليس لكَ منْ خاطر، عدا وشوشات ترتسّ في الأذن كالنّمش.
أيْنَ خطؤكَ يا هذا؟
ولمَ استمرارُكَ في اللّعبة، وقد انكشفت قواعدُها كعاهرة عند الناصية، لا تجيدُ الرتوش؟
أنتَ وضعتَ قدماً في الضّفة المقابلة، ولم يبقَ غير أن تسحبَ القدم الأخرى، وتلحقَها بالأولى.
هل تنقصُ شيئاً إن فعلتَ دونَ استئذان؟
تخشى أن تكونَ فعلت،
وتقولُ:
بعدَ الذي جرى، بعدَ كلّ الذي جرى، ما جدوى الاستمرار على هذا النحو؟
يا الذي قرّرَ يوماً أنّني وُلدت،
يا الشاهدُ خلفَ الأكمّة،
يا الغائبُ شطرَ الجبل العالي،
يا السالكُ إلى المتاهة المقدّسة،
متى يلتحمُ العقربان في الغرّة، أو في العزّة، وتقضي بالمؤجّل إلى كلّ حين؟
وتقولُ كذلكَ:
ما الذي يفرقُ بيْن الآن والغد؟
هاتِ المبرّر الرحيم،
أم لا يكفيكَ أنّني أمنحُك إيّاه؟
صدقاً، ما الذي يفرق؟
السباسبُ تغوي فيكَ الصهيل،
ولكَ فيها شأنٌ،
ولكَ منها ألوانٌ لسفرٍ متدرّجٍ وبعيد،
ولكَ عليْها دَيْنُ معنى،
ولكَ عنها بيانٌ للتأسيس.
أنتَ لم تفعل سوى أنّكَ فتحتَ باباً، ثمّ لم تدرِ، في اللاحق، أيّ الأبواب تغلقُ.
دخلتَ، ولم تعرفْ كيفَ تخرجُ،
هبطتَ، ولم تعد تعلمُ كيفَ تصعدُ.
وهذا البابُ صارَ أبواباً، كغرفِ أصداء، فأيّهم البابُ الأنسبُ، حتّى تكشف عن حسابكَ؟
وهل منْ كشفٍ يلزَمُكَ، وتلكَ سنواتٌ مضت؟
وأنتَ لو تصغي قليلاً إلى تواترِ السنين، وهي تستضيفُك، بلا أجنحةٍ، نحو الذروة،
وهي تنزعُ عنكَ اللّبسَ في الجيئة والذهاب منْ أيّامك، لكنتَ أدركتَ، في التوّ، أنّه لا مناص منْ أن تمحي عنكَ حروفَ المتشكّلِ منْ حضورك، وتبقي على اللامتشكّل منه فقط، إذْ هو جسرُك، بالتأكيد، نحو العماء.
وأنتَ الهاوي للبيْن في مقاماتك، كيف تَقنَع؟
سخيفٌ هذا الولع.
وتلكَ أعشابُ الدخيلةِ منكَ اشتعلت، في غفلةٍ منكَ، تحسبُ. وأومضت نُجيْماتُها في الهباء. ثمّ أقبلت زوابعُكَ تعيدُ تركيبَ العالقِ منْ ملكوت الضرورة في جدارِ صمتكَ. وتستعلمُ القادمَ عن أخبارِ الحيودِ منَ الجسدِ، يومَ اكتشفتَ وجهيْ المجرّة، النّاطق منها والغارق في عيّه. ويومَ هلّلتَ بملكوت الحرّية، وقد نضَبَ رحيقُ العظْم، وباتَ لا يغري أنثى.
يا الذي أنبأكَ بمقتضيات الحالِ، ثمّ نسيَ أن ينبئكَ بأنّكَ ستعجزُ بعدَ حين، وستظلُّ خلياً، تحصي عثراتكَ عندَ المساء، وهي شتّى.
يا الذي أخلفَ الموعدَ معك ، ذاتَ عطفةِ دربٍ، ولم يلتفت إلى ضَيْمك،
أنتَ الآن لستَ معنٍ به،
يكونُ أو لا يكونُ، لا يهمُّ، فأنتَ قرّرت..!
القنيطرة