تبدو المسافات أحياناً مصدر تعب، بعيدةً تلهبنا بسوطها الغامض الذي لا نراه، وفي دواخلنا تزرع هالات من الحنين والشجن المُندس بين مساماتنا، كأنما هي ساعات طيفُ رحمة، وتالية فيض عذاب وارتقاب. المسافات هي أيضاً حالات إنسانية تتنوع باختلاف الظروف والأماكن والاحتياج، في الظروف المتعددة تقطع بنا الدروب، من دون أن نختار طريقنا الذي نريد.
وللمسافات انتظاراتها، ومحطاتها اللاهبة، اللاعبة بمشاعرنا كيف ما شاء ظرفها، وكيف ما اقتضت الفصول، وتلوّنت، وكيف ما اتسعت حدقاتها ونظراتها، وبصيرتها التي لا تشبهنا، فللمسافات عدساتها الخاصة، وحساباتها الطقسية، هي كالريح تقطع ما تريد من دون أن تفكّر فينا، أو تتعاطف معنا. ولأننا نقطع المسافات طولاً وعرضاً، براً وبحراً وجواً فنحنُ نمارس هواياتنا المفضلة في قراءة التفاصيل من حولنا، ذلك أن للتفاصيل غواياتها، وبهجتها، ورونقها، وتنوعها، وارتداداتها الرمزية في دواخلنا حيث اللحظة، والصورة والالتقاطة الملوّنة، المزركشة بأحلام الصغار، وأمنيات الكبار التي تتجلى في هيئة ذكرى تعبر الفؤاد فتدميه.
والمسافات التي تترك أثرها في الأذهان والأرواح تغنّى بها الشعراء وكتبها الأدباء، فمنهم من رفضها، ومنهم من تعلق بها لأنها تربطه بقلب ٍيحبه، وفي داخله تنبت ألف حكاية وحكاية. ولعل أشهر القصائد التي عرفها الأدب، قصيدة الأمير بدر بن عبدالمحسن «أرفض المسافة والسور والباب والحارس» ذاك الأثر الأدبي الذي أجّج في أعماق الكثيرين مشاعر الحب، واللوعة، والوجد، والانتظار.
وللمسافات تأثيرها العميق فينا، فالأم التي تنتظر أبناءها تذرعها جيئة وذهاباً حتى يعانق بصرها أطيافهم مطلةً من على بُعد طريق، أو صديق. والصديق الذي اعتاد ارتياد الأماكن التي تجمعه بأصدقائه يقطع المسافات كثيراً من أجلهم، ولقاء سويعات تبعث في روحه الفرح والسعادة.
والحبيب الذي طال انتظاره لمن يحب تلعب المسافات بقلبه حتى يكاد لا يحتمل ذاته، فهو مشحون بعاطفته، وانتظاره، ورهبة اللقاء، والاحتياج الحقيقي لأن يلغي كل تلك المساحات من الأمكنة التي تقطع عليه لحظة العمر التي يتمناها، فيبدو كمن فقد ظلّه يبحث عن قلبٍ قادمٍ من وراء طريق طويل، حينما يلتقيه يذوب. المسافات حلمٌ أبيض تأخذنا معها حيث تريد، ونحن معها سائرون.


المراجع

alkhaleej.ae

التصانيف

أدب   الفنون