إن أشرف لغة على وجه المعمورة هي لغتنا العربية، عزها الله - سبحانه وتعالى - أن خص بها كتابه الكريم، ورفع من شأنها أن جعل رسالته الأخيرة للبشرية بها. وهي أجمل ما نطقت به الألسن، سُحِرَ أهلها في روعتها وبيانها: ((إن من البيان لسحرا))[1].
وأعجزت اللغات في بديعها ومعانيها، وتفوقت على غيرها بسلاستها وسهولتها وجزالتها، لكل حرف فيها مخرجه وصوته الخاص به وإن الناظر والمتمعن في لغتنا العربية ليدهش من كثرة مفرداتها وتعدد تراكيبها وغنى ألفاظها، ولأدرك بأنها من أقوى اللغات اختصاراً وأكثرها عمقاً وغوصاً في المعاني، وأن ما بها من مجازات واستعارات وكنايات ومجاز
وطبقات وجناس ومقابلة وسجع وتشبيه وما تحويه من محسنات ليرفعها فوق لغات العالم أجمع، وإن العارف في اللغات ممن تعلم لغتين أو أكثر لو أراد نقل المعاني الحسنة من العربية إلى أي لغة أخرى لضعفت وخست وإذا ما نقلها إلى العربية زادت جمالاً ورونقاً، قـال ابن جنــي في كتابه "الخصـائص": "إنا نسأل علماء العربية ممن أصله أعجمي، وقد تدرب قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمع بينهما، بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك لبعده في نفسه وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه". وللغة العربية خصائص في الأساليب لا يوجد في غيرها، وهي أفضل اللغات وأجملها في التعبير والوصف وتستطيع الوصول إلى أدق خلجات النفس والفكر والعقل بأسهل الكلمات وأقصرها. قال الإمام الثعالبي إمام اللغة: في مقدمة كتاب "فقه اللغة وسر العربية": "من أحب الله - تعالى - أحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عُني بها، وثابر عليها، وصرف همّته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب، كالينبوع للماء والزند للنار. ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة، التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلاً يَحْسُنُ فيها أثره، ويطيب في الدارين ثمره، فكيف أيسر ما خصَّها الله - عز وجل - به من ضروب الممادح يُكِلَّ أقلام الكتبة ويتعب أنامل الحسبة"[2].
ولغتنا العربية هي هوية أمتنا واجب علينا حفظها والاهتمام بها لأننا بحفظها والاهتمام بها لا نحفظ حروفاً وقواعد بل نحفظ ديننا الذي هو عصمة أمرنا ونحفظ ثقافتنا التي تميزنا عن غيرنا.
قال الإمام ابن تيمية: "وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصوراً على اللسان، بل يتعمق حتى يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً؛ ويؤثر أيضاً مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - أيضاً: "معلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، نصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيبا"[3].
وقال أيضاً: "اعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق، وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب"[4].
وقال ابن القيم الجوزية - رحمه الله -: "وإنما يَعرفُ فضل القرآن من عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة العربية وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقالاتها في مواطن افتخارها ورسائلها.."[5].
وقال الفارابي في ديوان الأدب: "هذا اللسان كلام أهل الجنة، وهو المنزه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً".
ولعل من أعظم الأدلة على جمال لغتنا ما قاله غير العرب عنها، قال جوستاف جروينبام: "عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمد أنزلها قرآناً عربياً والله يقول لنبيه: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ * وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا)[مريم: 97] "وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السعة فالأمر فيها واضح، ومن يتبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات.
وتزين الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكشف له نظائر في أي لغة أخرى، مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها ليبين ذلك أن الصورة العربية لأي مثل أجنبي أقصر في جميع الحالات، وقد قال الفقاجي عن أبي داود المطران -وهو عارف باللغتين العربية والسريانية- إنه إذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوة وحسناً.
وإن الفارابي على حق حين يبرر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنة، وهو المنزه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً[6].
وقالت المستشرقة الألمانية زيفر هونكة: "كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار ليتكلمون اللغة العربية بشغف، حتى إن اللغة القبطية مثلاً ماتت تماماً، بل إن اللغة الآرامية لغة المسيح قد تخلت إلى الأبد عن مركزها لتحتل مكانها لغة محمد"[7].
وقال الدكتور جورج مارتون: "وهب الله اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي أحسن تدوين.. بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن تعبر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة"[8].
ومتى ذلت اللغة وضعفت ذلت الأمة وضعفت وذابت وانصهرت في لغات وثقافات وديانات أخرى، قال مصطفى صاد ق الرافعي - رحمه الله -: "ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض المستعمر الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المُستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستحلفهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبعٌ"[9].
قال حافظ إبراهيم:
كم عـز أقوام بعز لغات
وإنه لمن الخزي والعار أن نجد شباباً عربياً وقد تنكر للغة وانسلخ منها واستثقلها واشتغل بغيرها، وأصبح بين كل كلمة وأخرى يدخل كلمة أعجمية ليبرهن عن ثقافته وفكره وأنه راقٍ في تعامله وشخصيته، بل إن بعضهم يتفوهون بكلمات أعجمية وهم لا يفقهون منها شيئاً ولكن مجاراة لقرناء ضلوا وأضلوهم.
فإذا ما أردنا أن نحفظ لغتنا ونحافظ على ديننا وهويتنا فعلينا أولاً أن نداوم على تلاوة القرآن الكريم فسماعه ينمي الملكة اللغوية في النفس لأنه كلام الله أفصح الكلام وأن نتعلم أحكام التجويد لأنها تضبط النطق السليم وتكسب اللسان فصاحة تلقائية، وهذان الأمران "سماع القرآن وتلاوته وتعلم أحكام التجويد" أمران سهلان متيسران فدروس تعليم القرآن متوفرة في كثير من المساجد كما أن الأشرطة والأقراص تملأ المكتبات السمعية والبصرية...
كما أنه لابد من تعلم شيء ولو يسير من أساسيات النحو لأنه هو السبيل الوحيد لنطق جمل عربية سليمة، كما أن المداومة على قراءة الكتب النافعة بصوت جهور يساعد على تصحيح اللسان وتقويمه، واعلموا حفظكم الله - تعالى - أنه كلما أحسنا تعلم اللغة وإتقانها فإنه يحسن فهمنا للقرآن والحديث، وكلما اقتربنا من لغتنا اقتربنا من ديننا ومن ربنا -جل جلاله-.
المراجع
islamselect.net/mat/92525المختار الاسلامي
التصانيف
ثقافات اللغة العربية