أسرج حصانكَ وانطلق، واعبر المدى محلقاً، نجماً وسط السماء..
فالأرض ها قد أينعت رغم الدماء، وتطايرت رسائلنا فعبرت السور شاهقَ الارتفاع..
نحن هنا .. العاشقون لتراب الوطن، والكاتبون على ألواح القدر بدمائنا قصص الفداء
لا ... يا قاتلي لن تنال مني إلا الجسد، فالروح بيد رب السماء..
حاصرني، اقتلني بسلاسلك، بجدرانك، بمعازلك لكن كن واثقاً أنني سأعود فينيقاً يهوى الاحتراق..
بالأمس كانت قلقيلية .. المدينة المأسورة بجدار الضم والتوسع العنصري تعانق ُ قدس الأقداس، تتوحدُ معها، وتبعثُ برسائل تطيرُ عبر الفضاء مع «البالونات» التي طارت في سمائها تحملُ علم فلسطين متجاوزةً سورهم، وعسكرهم، حملت العلم، وروح قلقيلية النابض بالحياة، هكذا قرأتُ تلك الرسائل في عيون قلقيلية، وهي ترسلُ بروحها في المدى الفسيح إلى مدينة القدس التي هبَ الفلسطينيون بجميع أطيافهم يدافعون عنها، بصدورهم العارية، وبصدقهم المعهود.
ليس الأمر دائما كما يبدو عليه، فمهرجان اختتام فعاليات نصرة القدس والمقدسات الذي كان أمس في قلقيلية، كان عمليا بداية لفعاليات جماهيرية انطلقت من ضمائر الحشد الجماهيري غير المسبوق الذي اقتظت به قاعة بلدية قلقيلية، مقاعد القاعة الكبرى لم تكف، والواقفون حدث ولا حرج، فعندما يتعلق الأمر بالقدس والمقدسات تتوارى كل الخلافات الضيقة وتتلاحم الفعاليات الرسمية مع الفعاليات الجماهيرية محدثة نوعا من الوحدة التي لا نظير لها إلا في ساحات القتال، وأمام الرصاص الذي لا يفرق بين الناس على اختلاف توجهاتهم الفكرية. في القاعة كل ألوان الطيف الفلسطيني تتداخل كما تتداخل الكوفية الفلسطينية، وفي الوقت الذي يكون إقبال الجماهير على الفعاليات الرسمية قليلا؛ فهي غالبا ما تأخذ طابعا مملا وقليل التأثير بما يشوبها من مجاملات أو نفاق أحيانا.
أمس السادس عشر من آذار، كان يوما مميزا بكل تفاصيله فيه الكثير من الأمور اللافتة:
أولها: ارتباط الفعالية بحق بكل ما هو مقدس لدى الفلسطيني الذي أصبح أكثر من أي وقت مضى يشعر بخطر الاعتداءات الإسرائيلية على القدس والمقدسات مع أن هذا الخطر لم يزُل يوما، لذا فإنه يهب بكل ما أوتي من عزم وقوة للدفاع عنها ومعبرا عن حبه لها وارتباطه بها بكل الوسائل المتاحة، وخلق وسائل لم تكن متاحة من قبل.
ثانيها: زيارة السفير التونسي الحبيب بن فرح للمدينة والمشاركة في المهرجان، وفعالياته، إذ ألقى كلمة بين فيها خصوصية العلاقة بين تونس شعبا وحكومة وبين فلسطين وأهلها، تلك العلاقة القديمة المتجددة، ثم موقف أهل تونس من القضية الفلسطينية الموقف الداعم والمؤيد، والذي يحول البعد الجغرافي دون التواصل الدائم والمستمر بينهما، ومع ذلك تظل تونس معلقة قلوب أهلها بفلسطين وشعبها وقضيتها. وقد كان تقديم عريف الحفل الشاعر الدكتور زاهر حنني - الذي جعل الشعرَ يزهو في لحظات - للسفير مؤثرا إذ قدمه بقطعة شعرية مزج فيها بين وصية محمود درويش عندما خرج من تونس التي منها قوله:" كيف نشفى من حب تونس" وبين مزيج من عبق الفرح بلقاء الشقيق التونسي على الأرض الفلسطينية، لقد استطاع الدكتور حنني بروحه الشعرية العذبة أن يخطفَ الأذهان وهو يرتلُ للقدسِ آيات الفداء.
أما الأمر الثالث فهو الإعداد الجيد لهذه الفعالية التي دأبت محافظة قلقيلية على بذل كل جهد ممكن لنجاحها، وربما من يعرف محافظة قلقيلية ممثلة بمحافظها العميد ربيح الخندقجي الذي أعطى توجيهاته، وسخر كل الإمكانيات ليكون المهرجان بحلته النهائية يليقُ بالقدس، لقد قرأنا في تعليماته ما بين السطور، فكان الطاقم تلميذاً نجيباً لأستاذ فقيه. وهذا يبدو واضحاً من خلال بصمات الموظفين العاملين الجنود المجهولين الذي واصلوا الليل بالنهار للإعداد لهذه الفعالية.
المحافظ الذي أطلق الكلام من لجامه وجعل جدران القاعة تهتز، في كلمته التي بدأها بالترحيب بالسفير الشقيق على أرض قلقيلية تحدث عن أهمية التكاتف والتكامل بين جميع الفعاليات من أجل إسقاط أهداف إسرائيل في النيل من المقدسات، وعبر عما يجول بخاطر الفلسطينيين.
أما الدكتور المتوكل طه/ وكيل وزارة الإعلام، ابن مدينة قلقيلية فقد بين في كلمته أسباب جعل مدينة قلقيلية تحتضن ختام فعاليات هذا الأسبوع ومنها هذه الظروف الخاصة التي تعيشها المحافظة كلها، مضافا إلى ذلك جدار الخنق العنصري الذي التهم جل أراضي قلقيلية حتى باتت المدينة يحيطها الجدار كسور سجن.
وكانت وزارة الإعلام هي التي قامت بتوجيهات من الرئيس بعمل أسبوع نصرة القدس والمقدسات في الوقت الذي تمارس إسرائيل سياساتها بمزيد من الاعتداءات على الفلسطينيين وأرضهم وتاريخهم ومقدساتهم، وخصوصا بعد الاعتداء الأخير على تاريخية الأماكن الفلسطينية المقدسة وفي مقدمتها الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال وغيرها من الاعتداءات المتلاحقة.
أما الأمر الآخر فهو تكامل الفعاليات الرسمية والشعبية فبلدية قلقيلية ممثلة برئيسها السيد سمير دوابشة وجمع من موظفيها، أعدوا كل ما يلزم من احتياجات المهرجان وفي مقدمتها قاعة البلدية وقد قدم السيد رئيس البلدية والسيد المحافظ والسيد وكيل الوزارة هدية قلقيليّة تذكارية رمزية للسفير الشقيق.
وحضور فعاليات من منظمة التحرير الفلسطينية فقد تحدث السيد بسام الصالحي الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني عن أهمية تواصل الفعاليات الشعبية والرسمية وعدم الاكتفاء بالدوران في حلقة مفرغة من المفاوضات غير المجدية في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل بمواصلة اعتداءاتها على الأرض والإنسان والمقدسات.
وكذلك حضور كلمة السيد عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، الذي أشاد بمواقف كل من يقدم العون للفلسطينيين، وأكد أن الدعم العربي والإسلامي لصمود الفلسطينيين أقل بكثير من المطلوب، فشخص واحد قدم لإسرائيل أربعة عشر مليار دولار دعما لها ولاعتداءاتها على الحقوق الفلسطينية، فأين دعم الأشقاء من هذا؟!.
وهناك أمر آخر في غاية الأهمية وهو أن كلمات جميع المتحدثين كانت تدق ناقوس الخطر دون مواربة أو مجاملة لأحد، إضافة إلى عرافة المهرحان التي كانت متميزة في تقديم المتحدثين والتعريف بهم شعرا يخاطب مشاعر الجميع، الأمر الذين أكده انفعال الجمهور المحتشد وتفاعله مع الكلمات التي تغنت بعمق بالقدس والمقدسات، وتأكيد ارتباط الفلسطيني بها واستعداده للدفاع عنها.
أمر آخر هو حضور الفعاليات الأكاديمية ممثلة بجامعة القدس المفتوحة بمديرها الدكتور يحيى ندى وطلبتها وأساتذتها، وكذلك كلية الدعوة ومديرها وطلبتها.
الأمر الآخر وليس الأخير وهو انطلاق الفعالية بعد نهاية المهرجان إلى جوار جدار الخنق والضم العنصري والتحشد بقربه وإطلاق بالونات تحمل ألوان العلم الفلسطيني لتعلن في السماء والأرض أن هذه الأرض فلسطينية منذ الأزل وستبقى فلسطينية إلى الأبد.
هذه هي قلقيلية تعود فينيقاً من تحت الرماد تتمرد على القيد، كانت رسالتها واضحة لا تقبل التأويل، غنت للقدس، وتضامنت مع القدس، وعبر أهلها الطيبون عن عشقهم للقدس.