وقفتُ أرثي أبي فوجدتُني أرثي نفسي
سوف تمضي الحياةُ عاماً فعاما وستُطوى النفوسُ هاماً فهاما
تلك ساعاتُنا تدورُ على العُمْــــــرِ لتُحصي ليومِـنا الأيّامـا
* * *
معَ كلِّ ولادةِ صوتْ
تُولَدُ بِذرةُ موتْ
ويشُبُّ الإنسانْ
ويَشُبُّ بداخلِه الموتْ
ينمو الإنسانْ
ينمو الموتْ
يمضي الإنسانْ
يبقى الموتْ
يذوي عُودُ الإنسانِ ويغدو جـافّاً منحــولاً أصفرْ
وعُودُ الموتِ بداخلِهِ أخضرُ أخضرْ
* * *
أيّها الراحلُ المفارقُ أهلَــكْ هل ضللتَ السبيلَ ويحَكَ مهلَكْ
راحلٌ أنتَ؟ أم تُراكَ مقيــمٌ ونفوسُ الباكين ترحلُ قبلَـكْ؟
أشعرُ أنّي أهلَكْ
أشعرُ أنّي أتهاوى
أتلاشى
أجزاءٌ منّي تتطايرْ
عِقدي يتناثرْ
صوتي يتلاشى معَ صوتِهْ.. صوتي صوتُهْ
عيني تتآكلُ معَ عينِهْ.. عيني عينُهْ
وجهي وجهُهْ، سَمْتي سَمْتُهْ، أطرافي أطرافُهْ، أنفاسي أنفاسُهْ، أحلامي أحلامُهْ
وجهي، سَمْتي، صوتي، أطرافي، أحلامي، تتهاوى.. تتهاوى
وتغيبُ بأحشاءِ الأرضْ
الأرضِ الأمِّ الطفلْ
الأرضِ الوالدةِ المولودةْ
نتناسلُ فيها.. تتناسلُ فينا
آكلُ منها.. تأكلُ منّي
* * *
يُعجبُني.. لا يُعجبُني..
أفعلُ.. لا أفعلُ، أقبلُ.. لا أقبلُ، يُرضيْني.. يُغضِبُني..
يأتي الموتْ.. يلطِمُني.. ويقولُ: اهدأ..
اِنتظرِ الدّورْ..
هذا يمضي اليومَ وأنتَ الغدْ
هذا يمضي الفجرَ وأنتَ العصرْ.. أنتَ الظُّهرْ.. أنتَ الساعةَ.. أنتَ الآنْ..
أُغمِضُ عيني.. أفتحُ عيني..
يمضي (الآن) ليُصبحَ (أمسْ)..
أُصبِحُ (أمسْ)..
ويُنادَى: يا أيّتُها النفسْ...
ويُقالْ: كان رحِمهُ الله كريماً..
كان بخيلاً.. كان بليداً.. كان عظيماً..
كان يقولْ..
يفعلُ.. يأكلُ.. يشربُ.. يتحدّثُ.. كانَ وكانَ وكانْ..
في ماضي الأزمانْ...
هذا ما يبقى منّي.. هذا ما يبقى منكْ
هذا الإنسانْ:
بِضعُ سنينْ.. بضعُ ليالْ..
لا يبقى غيرُ خيالْ..
كلماتٌ تُحكَى وورودْ..
* * *
ضُمّي يا أحشاءَ الأرضِ المولودْ
بالأمسِ منَ الأرضِ أتى، واليومَ إلى الأرضِ يعودْ
هذا المولودُ اليومَ إلى الموتْ
كنتِ له الأُذْنَ وكان لكِ الصوتْ
ضُمّيه يا أحشاءَ الأرضْ
اِنفضَّ المدعوّون وهدأ العَرضْ
* * *
ضُمّيه أيّتها الأمُّ الأرضْ
أنتِ الآنَ لهذي الغرسةِ حوضْ
أنتِ له الآنَ اللحمُ وأنتِ الروحُ وأنتِ النبضْ
أنتِ الآنَ امرأتُهْ
أنتِ الآنَ فِراشُهْ
أنتِ الآنَ بنوهْ
أنتِ الآنَ بناتُهْ
ضُمّيهِ.. ضُمّيني، رُدّيهِ.. رُدّيني
بالأمسِ بكى أبويهِ أبي.. واليومَ أنا أبكيهْ
وغداً ولدي يبكيني..
ضُمّيني.. رُدّيني
أيّتها الأرضُ البِكْرْ
* * *
برحيلِ أبي ينكشفُ أماميْ السِّرّْ
العبدُ سيغدو تحتَ ترابِ الأرضِ الحُرّْ
وثراهُ تحتَ حصاها الدُّرّْ
ترابُ الأرضِ سيمنحُكَ الحرّيةْ
حرّيةَ ما تحتَ الأرضْ.. ممّا فوقَ الأرضْ
تراباً سيكونُ لباسُكْ
وتراباً ستكونُ غِراسُكْ
وتراباً آلامُكْ
وتراباً أعراسُكْ
لن تَنْشَقَ بعدَ اليومِ بقايا أنفاسِ الأحياءِ – الأمواتْ
لن يغْذوَكَ هشيمُ لحومٍ – تغذوهمْ – ونباتْ
لن تشربَ مِن فضلاتِ سُقاةْ
وكما تغذو الأرضُ العشبَ.. الأوراقَ الخُضرَ.. الشجرَ.. الثمَرَ.. الزهْرْ
تتنفّسُ منذُ الآنَ هواءَ الأرضِ البِكْرْ
يغذوْكَ رحيقُ الأرضِ البِكْرْ
يَسقيكَ شرابُ الأرضِ البِكْرْ
الأرضُ الأمُّ ستمنحُكَ فِراشاً لم يتوسّدْهُ أبداً حيّْ
وغطاءَ حنانٍ لم تعرِفْهُ مِن قبلُ ولن يعرفَهُ حيّْ
وتغنّيكَ نشيدَ رعودْ
وتغنّيها لحنَ خلودْ
ضُمّي يا أحشاءَ الأرضِ المولودْ
* * *
بأمانِ اللهِ نفوسٌ ودّعناها
وفسيحَ رِضاهُ ورحمتِهِ أودعناها
لا حُزْنْ
لا خوفْ
لا حسرةْ
الرحمنُ براها.. ولنا أعطاها
واليومَ لعُهْدتِهِ يسترجعُها وبرحمتِهِ يرعاها
* * *
أعجبُ ما في البابْ:
شِبْرُ ترابْ
كلُّ الفرقِ المضحكِ ما بين الميّتِ والحيّْ
ما بين الميّتِ والحيّْ
لا شيْ