تزايدت النظريات التي تدحض كروية الأرض منذ عام 2010، وازدادت انتشاراً هذا العام بالذات، بعد نشر العديد من الحقائق والأدلة التي تشير إلى أن شكل الأرض أقرب ما يكون الى قرص دائري تنتشر على سطحه القارات الخمس المعروفة محاطة بالمياه، فيما تُغلّف محيط هذا القرص صحراء جليدية مُظلمة تمتد إلى ما لا نهاية، بشكل يستعصي على البشرية اكتشافها أو سبر أغوارها، وهي المنطقة التي تعرف بقارة أنتاركتيكا (القطب الجنوبي). وهذا بدوره يتماشى مع نظرية العوالم الأخرى أو الأكوان المتوازية، ولكن ضمن بُعد الأرض الأفقي، وليس الفضائي.
المثير أن الدراسات والأبحاث التي تدحض كروية الأرض (التي نادى بها غاليليو فبل نحو 500 عام، وأكّدتها «ناسا» بعد الصعود الى القمر) جاءت من مختلف بلدان العالم، فهناك فريق أبحاث برازيلي قام بعدة تجارب لإثبات عدم وجود انحناء في سطح الأرض، وأن انعدام الرؤية في الأفق ناتج عن محدودية الرؤيا وليس لانحناء الأفق.
كما أسس عدد من العلماء الغربيين في لندن، مؤسسة (الأرض المُسطّحة) وأنشأوا مجتمعاً افتراضياً على الشبكة العنكبوتية، يعرضون فيه كل المواد المتعلقة بالموضوع theflatearthsociety.org
وقد تملكتني الدهشة من كمّ المعلومات والأبحاث التي يعرضونها، وقدرتهم على إجابة العديد من الأسئلة المحيّرة، سواءً عن رحلة ماجلاّن، واكتشافات جيمس كوك، وقفزة فيليبس، بالإضافة إلى الاستشهاد بخطوط الطيران التي تتعارض مع كروية الأرض، والكشف عن استخدام تقنية «عين السمكة» في الكاميرات الحديثة لإظهار انحناء الأفق (الوهمي).
كما قام عدة ناشطين بالتنقيب وراء رحلة «أبولو» الشهيرة، وتفنيد الفيديو الذي نشرته «ناسا» للهبوط على القمر عام 1969، وعلى الرغم من أن هذا ليس بجديد، إلا أن نفي وصول ناسا إلى القمر، يخلق إشكالاً حول حقيقة الصور التي نشرتها (وما تزال) للكرة الأرضية، وهنا بالذات يُقدّم هؤلاء الناشطون العديد من الشواهد والاثباتات على خضوع هذه الصور للتعديل عبر تطبيقات الحاسوب، وتعارضها مع بعضها البعض، عدا عن إثارة الشك في إمكانية أخذ صور «حقيقية» للأرض من خارج الغلاف الجوي.
وهناك مجموعة من العلماء الأمريكان الذين يتساءلون عن سبب حظر زيارة قارة أنتاركتيكا أو حتى الطيران من فوقها، ويتحدثون عن مؤامرة تشترك فيها الدول العظمى، والتي ما زالت تبحث في أسرار هذه المنطقة المجهولة.
يترتب على نظرية (الأرض المُسطّحة)، أن تكون هذه الأرض ثابتة ولا تتحرك، وبالتالي فإن الشمس والقمر هما اللذان يدوران فوق قرص الأرض، في مدار يتولد عنه الليل والنهار، واختلاف فصول السنة، حيث يقول مؤيدو هذه النظرية إن الشمس أصغر من الأرض والدليل أننا نراها بالعين المجرّدة، ونرى مسارات أشعتها تتكسر من خلال طبقات الجو، وهذا لا يمكن ان يحصل لو كانت بعيدة في الفضاء، حيث يقدّرون المسافة بين الأرض والشمس بخمسين ألف كم فقط، كما يشيرون إلى أن القمر مضيءٌ بنفسه ولا يعكس ضوء الشمس، كما أنه لا علاقة له بالمد والجزر!
ويتساءل مؤيدو هذه النظرية، هل سبق لأي انسان عادي التثبت أو التحقق من انحناء الأرض؟ حتى أن المسافر لو نظر من شباك الطائرة على ارتفاع شاهق لن يرى انحناء الأرض.
هل سبق لأحد أن دار حول الأرض شرقاً أو غرباً وعبَرَ المحيطات ثم عاد الى مكانه؟
هل سبق لأحد اكتشاف الوجه الآخر للأرض، أو عبور منطقة القطب الجنوبي المُتجمّد؟
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اشترك فيه علماء الدين، فقد صدرت مؤلفات حديثة تؤكد نظرية (الأرض المُسطّحة) وتستدل عليها من القرآن، كما انتشرت العديد من الفيديوهات والمحاضرات لدعاة معاصرين يؤكدون أن الأرض مستوية ولها سقف ثابت، وأنه ثابتة بالضرورة، في حين أن الشمس والقمر قد تم تسخيرهما للدوران حول الأرض.
بالطبع، أنا لا أستهدف إثبات أو دحض النظرية، من خلال هذا المقال، ولكني أرغب في جذب انتباه القرّاء والمتابعين الأعزاء إلى هذا الموضوع وإثراء النقاش فيه، بالإضافة إلى استحضار بعض الدروس والعبر من انتشار هذه النظرية التي تُخالف كل مفاهيمنا وكل ما درسناه وتعلّمناه.
بدايةً، لا توجد ثوابت علمية مؤكدة مهما اعتقدنا خلاف ذلك، وكل ما نصل إليه من العلم هو علم نسبي، قد تتقدم معارفنا يوماً ما ويثبُت لنا عكسه، أو عدم صحته ولو جزئياً. (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)
لذا، لا يجوز لأي شخص التقليل من علم أو ذكاء الآخر بسبب قناعته التي قد تبدو غريبة، وقد علّمتنا كتب الفلسفة والتحليل النفسي، أن أذكى الأسئلة هو ذلك النوع الذي يصطبغ بالغباء! (وقل رب زدني علما).
ومن هنا نقول، إن الرد على أي وجهة نظر، يكون بالحُجّة والمنطق والبرهان وإن الاستخفاف بآراء الآخرين هو نوع من الضعف وعدم امتلاك القدرة على الدفاع عن الثوابت والمُسلّمات التي نؤمن بها.
النقطة الثانية، هي إقحام الدين والقرآن في نقاشات علمية جدلية، تضر أكثر مما تفيد، على عكس ما يعتقد العلماء الذين يحاولون تسخير الدين لخدمة هذه النظرية أو تلك. لقد انقسم العلماء المسلمون بين مؤيد لكروية الأرض وبين معارض لها، وكل فريق لديه من الأدلة والشواهد، ويا ليتهم يشيرون الى أن ما يقولونه هو اجتهاد قد تثبت صحته وقد لا تثبت، بل على العكس تماماً تراهم يؤكدون أفكارهم وكأنهم أنبياء هذا الزمان، والمؤسف أنهم لم يقدّموا دليلاً علمياً إلاّ وكان منقولاً عن علماء غير مسلمين، فيما اعتمدوا على النص أكثر مما اعتمدوا على الدليل العلمي المادي.
في النهاية، يؤخذ على نظرية (الأرض المُسطّحة) عدة أمور، أولها أنها تعتمد على نظرية المؤامرة، والتي تعتمد في الأساس على إثارة الشك أكثر مما تعتمد على إثبات وجهة نظرها. ثانياً، انحناءُ الأرض، يُثبته صعود الشمس خلال النهار إلى كبد السماء ثم هبوطها، ولو كانت الأرض مسطحة لحافظت الشمس على ارتفاعها. في حين أن نظريتهم تفيد أن حركة الشمس فوق الأرض تتضمن الصعود والهبوط، وهذا تخمين وافتراض، لا يقوم عليه أي دليل. أضف الى ذلك أن جميع بلدان العالم اليوم بما فيهم دولنا العربية قد أطلقوا أقماراً صناعية خاصة بالبث الفضائي، وقد تم تصميمها بناءّ على كرويّة الأرض ودورانها حول نفسها، ولو أن الأرض ثابتة لتاهت هذه الأقمار وانقطع البث، ولكان القائمون على هذه الأقمار قد اكتشفوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرض ثابتة ولا تتحرك، فهل يُعقل أن تشترك دول العالم من الشرق والغرب في مؤامرة (كروية الأرض)!
هذه الأسئلة وغيرها بعثتُ بها الى القائمين على النظرية والنشطاء الذين شاركوا بنشرها، بانتظار وصول الرد المُقنع من عدمه، ولعلنا نعود للحديث في هذا الموضوع لاحقاً.
ختاماً، أعتقد أننا أمام قضية معقدة ليس من السهل الوصول إلى قناعة مؤكدة فيها على نحو سريع، ولكني أجزم أن نظرتنا للكون وللحقائق الكونية لن تعود كما كانت من قبل، حتى على فرض أن هذه النظرية ستفشل في إثبات نفسها، إلا أنها على أقل تقدير ستنجح في تعديل بعض المفاهيم وتصحيح بعضها الآخر مع كشف بعض الزيف هنا وهناك، وإثبات عدم صحة بعض المسلّمات التي نؤمن بها، ولم لا، السير باتجاه نظرية جديدة حول طبيعة الكون وشكل الأرض، قد تكون هي الأصح، ولنا في رحلة سيدنا إبراهيم للبحث عن الحقيقة، والتي قادته من الشك إلى اليقين، أكبر مثال يُحتذى.


المراجع

alquds.co.uk

التصانيف

شعر  أدب  قصائد  شعراء