دمشق

«أنشدها في الحفل الذي أقامه لتكريمه علاَّمة الشام رئيس المجمع العلمي العربي الأستاذ محمد كرد علي عند حلوله بدمشق في آب 1937».

مَنْ عَذيِرٌ مِنَ الهوَىَ وَمُجيرُ؟
فَضَحَ الشَّوْقُ ما أجَنَّ الضَّمِيرُ [1]
أنا في قَبْضَةِ الجْمَالِ. فَخَوْدٌ
تَسْتَبِينيِ، ورَوْضَةٌ، وغَديِرُ [2]
هاذِهِ جِلَّقٌ.. تَبارَكَ رَبِيّ!
«بَلَدٌ طَيِّبٌ، ورَبٌّ غَفُورُ» [3]
الهَوَى، والهَواءُ، والجَدْوَلُ الرَّقْ
راقُ، والرَّوْضُ، والسَّنا، والحُورُ
حَيْثُما تَغْتَدِ، فَرَوْضٌ أرِيضٌ
عَنْبَرِيُّ الشَّذا، وماءٌ نَمِيرُ [4]
وظِلالٌ مَمدْودَةٌ وَهْيَ تَنْدَى،
وشُعاعٌ يَرِفُّ وَهْوَ مُنِيرُ
مِنْ سَنا الشَّمْسِ فَوْقَها، ومِنَ الزَّهْرِ..
دَنانِيرُ عَسْجَدٍ، وعَبِيرُ
يُقْتَلُ القَيْظُ في ذَراها، ولاكِنْ
في ذَراها يَحْيَا الهَوَى ويَسُورُ [5]
جِئْتُ آوِي مِنَ الحَرُورِ إليها
فَإذا في الحَشا يَشِبُّ الحَرُورُ! [6]
أنا.. مِنْها، ومِنْ مَهاها اللَّوَاتي
يَتَقَتَّلْنَ رِقَّةً، مَسْحُورُ [7]
كُلُّ بَيْضاءَ في لَواحِظَ سُودٍ
رَفَّ في خَدِّها الدَّمُ المُسْتَحِيرُ [8]
في قَوامٍ لَدْنِ المَجَسَّةِ رَيّانَ،
وخَصْرٍ مِنَ الضَّنَى يَسْتَجِيرُ [9]
وَصِباً ناضِرِ الشَّبابِ.. غَذاهُ
تَرَفُ العَيْشِ، والنَّعِيمُ الوَثِيرُ
وَأديِمٍ مُنَعَّمٍ في حَبِيرٍ
يُوهِمُ العَيْنَ ماؤُهُ والحَبِيرُ [10]
لمَعَا.. كالسَّرابِ شَفَّ، فلا تَدْرِي:
أماءٌ لألاؤُهُ، أمْ نُورُ؟[11]
تَنْفُثُ السِّحْرَ في الخَلِيِّ فيَشْجَى،
وتُثيِرُ الهَوَى بِهِ فَيَثُوُر [12]
وَلَقَدْ زانَها النُّفُورُ، وحُسْنُ ال
حُسْنِ في الغادَةِ العَرُوبِ النُّفُورُ! [13]
كَرَّمَ (الله) وَجْهَ كُلِّ نَوارٍ
صانَها الطُّهْرُ والحيَاءُ الوَقُورُ [14]
لِيَ مِنْ هَيْكَلِ الجْمَالِ المَعِاني،
يَجْتَلِيها قَلْبِي ويَذْكُو الشُّعُورُ
(وَطَنُ العُرْبِ)، جَنَّةٌ.. و(دِمَشْقٌ)
رَفْرَفٌ أقْدَسُ المَطافِ طَهُورُ [15]
شَرِقَتْ بِالرُّؤَى مَسارِحُها الخُضْرُ،
وَرَوَّى نَعِيمَهُنَّ السُّرُورُ [16]
رُبَّ نادٍ، تَخِذْتُهُ في الرَّوِابي
أقْرَأ الحُسْنَ مِنْهُ وَهْوَ سُطُورُ
فَعَلى (الغُوطَتَيْنِ) والشَّمْسُ تَبْدُو
وَعَلى (النَّيْرَبَيْنِ) وَهْيَ تَغُورُ [17]
فإذا (جِلَّقٌ) رِياضاً ودُوراً
كالمصابيحٍ حَفَّها الدَّيْجُورُ [18]
عالَمٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ، طافَ بالدُّرْرِ
، وأذْكاهُ بِالرُّواءِ النُّورُ
سِاحرُ المُجْتَلىَ.. أطَلَّ عَلَيْهِ
(قاسِيوُنٌ)، كَأنَّهُ مَذْعُورُ [19]
يَغْرَقُ الحِسُّ في سَناهُ، وَيَفْنَى
في تَهاوِيلِ سِحْرِهِ التَّفْكِيرُ
أنا إنْ أنْسَ لَسْتُ أنْسَى لَيالِيَّ
إذ البَدْرُ ضاحِكٌ والثُّغُورُ
وَكَأنَّ الأكْوانَ في دافِقِ النُّورِ
بُحُورٌ قَدْ أغْرَقَتَهْا بُحْورُ!
يَمْرَحُ الَقْلبُ في سَناها، كَما يَمْرَحُ
في الماء سابِحاً عُصْفُورُ!
قَدْ تَفَرَّدْنَ بالصبَّاحَةِ، لَوْلا
وَجَناتٌ نازَعْنَها وَنُحُورُ!
حَبَّذا (الشّامُ) ماؤُها وهَواها
وَمَسارِي أنْهارِها، والقُصُورُ،
ومَيادينُ حُسْنِها وَهْيَ شَتَّى،
وَمَغانِي اللّذات وَهْيَ كَثِيرُ
جادَها الغَيْثُ مِنْ مَعاهِدَ.. لا اللُّطْفُ
عَداها، ولا النَّعِيمُ الحَبِيرُ[20]
مُحْسَناتُ الأوَقْاتِ، حَتَّى ضُحاها
وَشَّحَتْهُ بِلُطْفِهِنَّ البُكُورُ
وبِنَفْسِي خَرِيرَ (أنْهارِها السَّبْعَةِ)
دَوّامَةً عَلَيْها الطُّيُورُ [21]
تَتَلَوَّى كالأيْنِ ريِعَ، وتَهْتَزْزُ
ارِتعاشاً، وَتْرتَمِي، وتَمُورُ[22]
وَهْيَ آناً في السَّهْلِ تَعْدُو، وآناً
في الرَّوابِي المُسَلْسَلاتِ تُغِيرُ
تَغْمُرُ (الغُوطَتَيْنِ) بِشْراً وزَهْواً
مِثْلَما يَغْمُرُ النُّفُوسَ الحُبُورٌ
وَعَلى صوْتِها الطُّيُورُ تَغَنَّى
وَلَقَدْ يُطْرِبُ الطُّيُورَ الْخَرِيرُ
عَشِقَتْ لَحنَهُ، وَلِلْماءِ لَحْنٌ
يُسْكِرُ السَّمْعَ جَرْسُهُ المَخْمُورُ [23]
حَيْثُ تَغْدُو، يُلْهيك مِنْها سَماعٌ
وَمِنَ الرَّوْضِ مُؤنِقٌ مَنْضُورُ [24]
عُرُسٌ.. قامَ للِطَّبِيعَةِ فِيها
يَسْتَخِفُّ الإنْسانَ وَهْوَ وَقُورُ
تَهْزِجُ الطَّيْرُ والأنَاسِيُّ فِيهِ
ويَموُرُ السنَّا ويَذْكُو العَبِيرُ
قِفْ تَمَتَّعْ مِمّا تَراهُ قَلِيلاً،
وقَلِيلٌ مِمَّا تَراهُ كَثِيرُ!
لِلأنُوفِ الشَّذا أرِيجاً، وَللِسَّمْعِ
الأغانِي، وَلِلِّحاظِ البُدُورُ!
 

[1] العذير: العاذر. - أجن: أخفى.

[2] الخود: الشابة الناعمة الحسنة الخلق «بفتح الخاء». - تستبيني: تأسرني بجمالها.

[3] جلق: من أسماء دمشق.

[4] أريض: كثير النبت حسن المرأى. - ماء نمير: طيب ناجع في الري.

[5] الذرا، بفتح الذال: الكنف، والظل. - يسور: يشب ويثور.

[6] الحرور: حر الشمس.

[7] يتقتلن: يتثنين في مشيهن، ويتكسرن من الرقة والدلال.

[8] المستحير: الدائر في الوجنات.

[9] اللدن: اللين. - المجسة: موضع الجس.

[10] الحبير: الثوب الناعم الموشى.

[11] السراب: ما يرى في نصف النهار كالماء في الصحارى. - شف: رق حتى يرى ما خلفه.

[12] الخلي: الخالي البال من الهم.

[13] العروب: المتحببة إلى زوجها، النفور من غيره.

[14] النوار:النفور من الريبة.

[15] الرفرف: البساط.

[16] شرقت: امتلأت.

[17] الغوطتان: غوطتا دمشق، الغوطة الشرقية والغوطة الغربية. ولا يقال الآن في دمشق إلا «الغوطة». وهي أحدى متنزهات الدنيا الأربعة المشهورة قديماً في الشرق: غوطة دمشق، ونهر الأبلة في البصرة، وصفد سمرقند فيما وراء النهر، وشعب بوان في فارس. و(النيربان): موضعان في صالحية دمشق من أنزه الأماكن، كانت بهما مساكن الرؤساء والأعيان.

[18] الديجور: الظلمة.

[19] قاسيون: جبل دمشق، يحدُّ الغوطة من شمالها.

[20] الحبير: الثوب الناعم الموشي.

[21] دوامة: محلقة في الهواء.

[22] الأين: الحية.. - ريع: أفزع. - تمور: تضطرب وتموج.

[23] جرسه: صوته الخفي.

[24] مؤنق: معجب رائع الحسن. - منضور: محسن ومنعم.


المراجع

alukah.net

التصانيف

شعر  أدب  قصائد  شعراء  ملاحم شعرية