إذن نحتاج أن نعرف ما هي المشكلة التي كانت بين إبراهيم وقومه؟ وما هي علاقة الموضوع بالشرك والتوحيد؟ ولماذا فصل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بينهم بهذه الآية؟ ثم ما معنى هذا الفصل؟ فأما ما وقع بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه، فقد ذكره الله تبارك وتعالى قبل هذه الآية في قصة في سورة الأنعام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] فكان قوم إبراهيم عليه السلام يعبدون الكواكب، ويبنون الهياكل لعبادتها، وينحتون التماثيل ويعبدونها من دون الله، كما بين الله تبارك وتعالى في كتابه. فالله تبارك وتعالى أراد أن يجعل إبراهيم عليه السلام من الموقنين: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76] فهو يسأل قومه الذين يعبدون الكواكب: هل هذا ربه؟ وهذا من المناظرة والمجادلة والمحاجة: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76] ومعنى أفل، أي: غاب وغرب وذهب، فإله يعبد ويرجى ويخشى ويدعى ويستجار به ويستغاث به، وعند الهموم والمصائب والنوازل يكون الاضطرار إليه، والحاجة إليه، والافتقار إليه، وإذا بهذا الإله يغيب ويذهب ويأفل عن عبيده، هذا ليس إلهاً. فقال: قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام:76]. فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه العقل الراجح،والبيان والحجة على قومه. ثم قال: فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] والقمر أكبر وأوضح وأجلى للناظرين من ذلك الكوكب: فَلَمَّا أَفَلَ حدث نفس الشيء للقمر أيضاً، فهو يغيب ويأفل ويذهب: قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] وانتظر، فإذا بالشمس: فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78] فالشمس أكبر من القمر. أي: إن كانت الألوهية بالنور أو كانت بالحجم، فإذا الشمس أولى بالعبادة من القمر ومن ذلك الكوكب، وهذا على سبيل المحاجة، لأن قومه لا يعبدون الشمس، وقد ذكر الله سبحانه تعالى أن أمة من الأمم كانت تعبد الشمس من دون الله، وهم قوم سبأ: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24] لكن قوم إبراهيم عليه السلام لم يكونوا مثل قوم سبأ يعبدون الشمس -علماً أن عباد الشمس إلى الآن موجودين- ولكن أراد أن يجادلهم. قال هذا أكبر: فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] فالآن ليس هناك مجال للمجادلة، فهذا الكبير وهذا الذي قد يُعظَّم، وقد ينظر إليه على أنه هو المستحق للعبادة من دون الكواكب الأخرى غاب، فأنا بريء منه، وبريء منكم ومن شرككم: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79]. إذاً وجَّه إبراهيم الخليل وجهه لله الذي فطر السماوات والأرض، والذي خلق الشمس والقمر، والكواكب، وخلق العباد هؤلاء، وخلق المعبودات المنحوتات: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96] كيف تنحته بيدك وتعبده، والله خلقك، وخلق هذا الصنم المنحوت المعبود؟ إذاًَ أعلن إبراهيم عليه السلام عبوديته لله، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:79] فوجه وجهه، وتوجه بوجهه هو تعبير عن الاتجاه الكلي، فهو لا يلتفت إلى غير الله، فالشرك التفات إلى غير الله، وإنما يوجه وجهه إلى الله بالتوحيد الخالص. إذن فالاتجاه إلى الله وتوحيد الله، هذا هو ما فطن إليه إبراهيم عليه السلام، وألزم به قومه: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ [الأنعام:80] فلم يسلم له قومه، بل جادلوه فيما قاله، ولا بد من المحاجة والمجادلة: قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] أي: أتحاجوني في الله، وهذه المجادلة والمحاجة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد هداني، وعرفت التوحيد وعرفت أنه الواحد الأحد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه المستحق للعبادة: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:80-81] فوصل الجدال والنقاش بين إبراهيم وقومه إلى هذه النقطة، حيث خوفوه بالآلهة أنها سوف تنتقم منه، إذ كيف يكفر بمعبوداتهم. والآن كثير من الناس إذا قلت: هذا القبر أو غيره -مما يعبد من دون الله- لا يذهب إليه ليستشفى به، وهو لا يشفي، فإنهم يقولون: لا تذكره بسوء، ولا تتكلم فيه، لأنك لو ذكرته في غير الخير فسينتقم منك، فهم يحاولون أن يخيفوا المؤمن الموحد، وهم على الشرك والعياذ بالله. فإبراهيم عليه السلام يقول: أنا أخاف، وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل عليكم به سلطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]؟ فهنا فريقان، كل منهما يدعي أنه على الحق، وأن الآخر يجب أن يخاف من معبوده: إبراهيم عليه السلام يقول: أنا على الحق وربي الله، ويجب أن تخافوا من الله تبارك وتعالى، لأنكم مشركون، وقومه يزعمون أنهم على الحق، وأن آلهتهم هي الآلهة المعبودة، ويخوفون إبراهيم عليه السلام بهذه الآلهة، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:82-83] فهذه فصلٌ من الله تعالى بين الفريقين. فمن هو الآمن إذن؟ الإجابة صريحة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أن لهم الأمن وهم مهتدون. ولقد سمعنا -كما في الشرح- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية وقرأها على الصحابة رضي الله عنهم شق عليهم ذلك، لأنهم يتدبرون كتاب الله، وإلا فنحن نقرأ هذه الآية، ولكن ربما لا نلقي لها بالاً أبداً -والله المستعان- لكن هم لما سمعوا الآية: { قالوا: يا رسول الله أيُّنا لم يظلم نفسه؟ } وكيف ننال الأمن، وكيف ننال الهداية، ونحن ظالمون لأنفسنا؟ فخافوا وشق ذلك عليهم.

المراجع

www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&contentID=1332

التصانيف

فتاوى