يتجلى إبداع المرأة في الإنترنت عبر الحديث الفكري والإبداع الأدبي، وتتجلى المرأة السعودية في النت حين التعرض للشأن النسوي السعودي خصوصا في حديث الفكر..وتحكمها عدة تيارات فكرية وأطياف ثقافية قد تتزاوج وقد تتنافر..
ويتجلى إبداعها الأدبي في تلك النصوص البارعة التي تزدحم بها الشبكة العنكبوتية بشكل متخم.. والغريب أن أغلبها يستحق التصنيف كروائع ومع ذلك يضخ في الشبكة العنكبوتية، التي لم تأخذ بعد حجمها من الاحترام
ولئن كانوا من قبل يقولون عن الكلام الفاهي (كلام جرايد) فهم يقولون الآن (كلام انترنت)، ولكن مادمنا في رصد ذلك التجلي لإبداع المرأة تحديدا على شبكة الانترنت، فلابد أن نحاول استقصاء العوامل والأسباب التي بسببها استطاعت المرأة أن تتفوق وتبدع على الشبكة:
1- هامش الحرية الأكبر وارتفاع سقف الحريات والمسؤولية في النت عنه في الثقافة المطبوعة، وهذا أمر يتشارك فيه مبدعو النت عموما رجالا ونساء، فالرقيب لا يستطيع الاحاطة ولا السيطرة على ما سيطرح في المنتديات العنكبوتية التي كل ما تتطلبه هو كتابة الموضوع ومن ثم نقر زر الإضافة.. بخلاف الصحافة المطبوعة التي تمر على عدد من المحررين المقيدين بقوانين المطبوعات وقوانين المؤسسة نفسها ومعطيات الاتجاه الفكري الذي تنتمي إليه المطبوعة، كل هذا يمر عليه الإبداع قبل أن ينشر في الصحافة المطبوعة..
ونعرف جيدا كيف أن حرية المبدع هي السبيل لنمو إبداعه، وكما أن أقدام الصينيات مثلا كانت تحبس سابقا في أحذية حديدية لتمنعها من النمو بعد البلوغ كنوع من علائم الجمال، كذلك لا يستطيع المفكر ولا المبدع النمو في بيئة أطرها الفكرية ضيقة وخانقة وغير قادرة على توفير مقومات الإبداع..
الإبداع يقتل حينما يختنق ولو بقليل من الحواجز الخارجية، والأمر يتجلى في ضعف الإبداع الأنثوي المطبوع عنه في الإنترنت..
ومن هنا يعاني المبدعون العرب بشكل عام، والنساء منهم على وجه الخصوص من أزمة الحرية على عدة مستويات، ونلاحظ على الكثير منهم سمات المعاناة والآلام النفسية الغريبة التي تنجم من عملية التكميم المنظمة التي تمارسها قوانين المطبوعات ويمارسها المجتمع أحيانا والأسرة أحيانا.. وهذا ما يؤدي إلى حصول ردود فعل فكرية عنيفة في حالة التحرر ولو الجزئي منه (الانترنت منفذا على سبيل المثال).
ما زلنا نطالع بكل أسف موجة رد الفعل المضادة المتمثلة في المواضيع التي تتجرأ على التابو لمجرد أنه تابو، وتتمرد عليه وتتحدث عنه بلا وعي وفي كثير من الأحيان بنوع من الصفاقة والاستفزاز..مازلنا نعاني من صدمة منتديات تنشأ من أجل الجعجعة حول الحرية، والحقيقة إن الحرية التي يتحدثون عنها هي صفاقة همها النيل من المقدسات والثوران دون قضية. وكأن المهم أن تثور وتسخر وتسفه بغض النظر عن لماذا تفعل ذلك.. وربما في بعض الأحيان لمجرد خالف تعرف.. وأرى أنني أحياناً أصل لقناعة أن خالف لم يعد يعرف من كثرة المخالفين.. والكل بات يستخدم لهجة التعدي على المقدسات للحصول على شهرة سريعة وباهتة... فبئس ما يشترون وكأن العملية الفكرية الإبداعية ـ بكل أسف ـ تحولت لميدان تحدي بين فرقة وفرقة أخرى، وضاغط ومضغوط.
إن إعادة النظر في سقف حريات المطبوعات، سيكفل ضبط التدفق الإنترنتي اللا واعي في كثير من الأحيان، والذي نما فيه مثقف النت بشكل ملحوظ فيما لا يتجاوز الخمسة عشر سنة على الأكثر التي هي عمر الإنترنت العربية. ما يدفعنا للقول إن الحرية التي يجدها المثقف في عالم النت هي أكبر عوامل نموه السريع على الإطلاق.
ولدينا حرية من نوع آخر في الإنترنت هي حرية حجم النص غير المقيد، والمقيد بصرامة في المطبوعة؛ إذ إننا نعاني من قضم أطراف المقالات حتى تناسب حجم الزاوية والمكان المتاح الذي يتركه لنا المحرر.. وهذا أمر لا يحدث في النت.
2- ضخامة حجم المتلقين.. وتنوع أطيافهم ومستوياتهم الثقافية بما يكفل تعدد الرؤى حول المادة المطروحة.. وتباينها في كثير من الأحيان، وهو الأمر الذي يحتاجه الحراك الثقافي في أي مكان.. ففي الوقت الذي نجد فيه الثقافة المطبوعة محكومة تقريبا برؤية واحدة هي توجه المطبوعة أو توجه المجتمع ككل، نجد متلقي النت مختلفا تماما من هذه الناحية تحديدا، وبالتالي لم يعد المثقف يكتب وهو يعرف ردة الفعل التي ستترتب على ما يكتب.. وإنما يتوجس خيفة من كل الأطياف التي تضعه تحت مجهرها وتحاكم إبداعه وفقا لنظرتها.
هذا الأمر الذي يشعل المعارك الثقافية في المنتديات الحوارية خصوصا.. والمعارك النقدية حول النصوص في المنتديات الأدبية.. وإن كان موسوما بالشللية ومدفوعا بكل أسف بالدوافع النفسية البحتة (الغيرة والرؤية المسبقة والحالة التفكير القطيعي) إلا أنه بشيء من الوعي يمكن أن يتحول إلى تظاهرة ثقافية ضخمة..
3- يسر النشر والتغاء النخبوية بحيث يكون الاحتفاء بالإبداع أكثر من الاحتفاء بالمبدع، رغم أن كثيرا من الأسماء المستعارة (اليوزرات) تلمع وتظهر بشكل جيد (الخفاش الأسود، فتى الأدغال، نورماس، أكاي، حصة مكيافيللي، شون، ومشاعل العيسى، أجنادين، بنت الرعد، ممتعض، حاطب ليل، أنين، محبة فلسطين، هيلدا، وهج وغيرها من الأسماء).
ويمكننا القول أن سهولة النشر وإتاحة المشاركة للجميع من أهم العوامل على الإطلاق في انتفاضة مثقف النت واستمراريته.
وعلى هامش ذلك فإن مبدع النت يجد حماسا أكثر في نشر ومتابعة وتجويد إنتاجه نظرا لأنه يرى رده فعل المتلقي فور نشره لإبداعه.. وأعني بها خاصية الردود التي تحتفظ بها المنتديات كذلك خاصية التعليق على المقال التي تحتفظ بها بعض المواقع.. بعكس كاتب المطبوع الذي قد ينتظر أياما قبل أن يرى ردة فعل واحدة على نص نشره.. أو تجاوب أو حتى تشجيع.
4- وفيما يخص المرأة يمكن التركيز على قضية الاسم المستعار وقابلية التخفي به الأمر الذي يمنح هامشا من الأمان للمرأة لا تمنحه الصحافة المطبوعة التي تطالب بالاسم الصريح مثلا.. فمازال لدى المجتمع توجس خفي من اسم المرأة ربما ليس كالأول طبعا.. ولكنه مازال موجودا على استحياء.. ونحن لن نتخلص من هذا الهاجس حتماً |
وقد وجدت الكثيرات من مبدعاتنا متنفسا كبيرا في النت والاسم المستعار لدرجة خارجة عن المألوف أحيانا.. لكنها تعكس حالة اختناق الإبداع في الصحافة المطبوعة، والذي تهرب منه المرأة للنت, لذلك ووفقا لإطلاعي الطويل على المنتديات الإبداعية أجد أنه وبرغم أن الرجل مهيمن في كل مكان وزمان عددا وإبداعا إلا أن المرأة تغلبه في النت.. وتتفوق عليه.. مشاركة وأداء وحضورا أيضا |
1- نطمح أن تفرز لنا مطحنة الإنترنت أسماء نسائية لامعة نضجت في وقت قياسي في أتون النت نضجا أدائيا وفكريا قادرا على نقل المشهد الفكري السعودي لسنوات قادمة للأمام.. وانتقال أديب الإنترنت من النت للمطبوع أمر بالغ الصعوبة حينما يكون ذلك الانتقال امتدادا لمشوار النت بأشواكه وخطيئاته ونظرة المجتمع القاصرة له.. ولكنه أمر ضروري جدا لتحريك العجلة للأمام.. فلا ننتظر من مبدع بحجم فتى الأدغال أو نورماس أو تمر حنا وهي أديبة وروائية كاتبة (أنت لي) ظهرت ونمت في منتديات واحة الهجير.. لا نطمح كثيرا أن يبقوا في سراديب النت للأبد.. وان تبقى كتاباتهم حبيسة الشبكة دون أن تظهر في كتب مطبوعة.. وقد كانت هناك محاولة قوية من منتدى المحاور لتجميع إبداع أعضاء المنتدى على شكل مقالات تنشر في كتاب، كما بدأت الآن تظهر مجلات تبدأ الكترونية، ومن ثم تتحول لمطبوعة مثل مجلة الإسلام اليوم التي يرأس تحريرها الشيخ العودة ومجلة الساخر ومجلة الوسطية وغيرها الكثير.. وهي خطوة في سبيل خطوات إن شاء الله.
2- وفي سبيل ذلك لابد من الاعتراف بإبداع النت الذي صار مبتذلا في الحديث الفكري الثقافي.. ولا ينتظر من مجتمع يحاكم الإنترنت دائما ويصفها بأنها مقلب قاذورات | أن يحترم كاتبا تخرج من هذا المكان.. لذلك نطمح لمجتمع واع بدور النت السلبي والايجابي معا حتى لا نتحول إلى دون كيشوتات تصارع الزمن بلا جدوى.. والتنبيه على أن تضخم المنتديات لدرجة التورم يمكنه أن يكوّن انطباع ابتذال لثقافة النت عند المتلقي، وبالتالي فإن نوعا من الوعي وضبط حجم المنتديات وعددها وتحديد مشاركات الأعضاء بشكل يمنع من حدوث تخمة ثقافية غير مستساغة كفيل باستمرارية متابعة المتلقي واحترامه لما يطرحه الإنترنت..
3- ومهما قلنا عن استقلالية مفكر ومثقف ومثقفة النت فإننا لا نكاد نختلف أن الثقافة النتية لا تختلف عن المطبوعة في أنها مرآة العصر الذي تعيش فيه، ووفقا لذلك فإن مزيدا من الرقي الفكري في المجتمع سيدفع بثقافة الانترنت للأمام أكثر.. والعكس بالعكس.
4- ثقافة النت رغم أنها توسع الشقاق الفكري من جهة إلا أنها يمكنها أن ترأب الصدوع من جهة، ويمكن التعويل عليها في رأب الشقاق الفكري بمزيد من التوعية الفكرية بأهمية الحوار ومحوريته في تكوين الفكر.
لماذا لا تستغل منتديات الإنترنت من قبل جهات أعلى؛ جهات مسؤولة لتوظيف الأفكار النيرة الفعالة التي تتفق عليها كافة الأطياف الفكرية المختلفة؟ الليبرالي والإسلامي يتفقان على تجريم الإرهاب مثلا، ومكافحة الجريمة والظلم والعنصرية.. كل هذه القضايا لم لا يتم توظيف المنتديات لطرحها وحلها وتفعيل حلولها على الواقع؟ على الأقل لتكون خطوة في رأب الشقاق الفكري العظيم الذي يتجلى ويزداد كل يوم في الحوار الفكري الإنترنتي؟
وعلى مستوى المرأة.. لم لا يتم تكوين منتديات نسوية فكرية يمكنها أن تتطور فيما بعد لتصبح شبيهة بمراكز الحوار الثقافية؟ لو سلمنا أن حوار النساء بينهن أهدأ وأكثر تسامحا من حوار الرجال كما نشهد دائما؟
5- في سبيل التطور للأفضل لابد من مراعاة أن هامش الحرية الذي يمنحه الاسم المستعار لا يعفي الأديبة والمفكرة من المسؤولية التي تترتب عليها كما يفترض بأي عقلية متطورة أن تفكر، فالحرية لا تتوفر دون مسؤولية والمسؤولية تقتضي الحرية.. والنماذج السيئة التي اتخذت الحرية رمزا للتفلت الذي وقعت فيه لا تعني أن الحرية أمر مستهجن ومرفوض والعكس صحيح، لا يعني كون الحرية مطلبا أن هذه الحرية لا تترتب عليها أي التزامات.
وأتصور أن الحديث عن هذه النقطة يطول والمعول عليه أولا وأخيراً هو فكر المفكرة والأديبة وأخلاقياتها وضميرها... ومراقبتها للخالق عز وجل.. والكلمة أمانة يقول الله تعالى في كتابه الكريم: }إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الآية 71) الأحزاب.
المراجع
lahaonline.com
التصانيف
التقنيات تكنولوجيا العلوم التطبيقية
|