بقلم إميل أمين
منذ أيّام النهضة، ظهر بعض الشِّقاق بين العِلم والدّين، بدأ حين اتّجه العلماء إلى اتّخاذ سُبل تجريبيّة وموضوعيّة في البحث، بطريقة مستقلّة عن المعلومات التي استقاها النّاس من الكِتاب المقدَّس لفترة طويلة. وقد عاشت الكنيسة أوّل أزماتها بهذا الخصوص أيّام غاليليو. فلأوّل مرّة في التاريخ يظهر تناقض بين ما يقوله العلماء وما يعتقده رجال الدّين.

منذ ذاك الوقت وحتّى اللّحظة، اتّسعت الفجوة بين العِلم والدّين يوماً بعد يوم، حتّى أنّه في القرن الماضي، شعرنا بهزّة كبيرة حين أُعلن عن الاعتقاد أنّ العالَم قد تكوَّن نتيجة تطوّر من المادّة إلى الكائن الحيّ، لا من خلق مباشر من الله.

لقد حاول كثير من اللاهوتيّين الفلاسفة أن يسدّوا هذه الفجوة عن طريق التوفيق بين هذين المجالَين (Concordisme) ولكن كلّ هذه المحاولات لم تفلح، ولم تأتِ بنتيجة مُرضية في الكنيسة، ولم تُقنِع العلماء على الجانب الآخر. وقد كان هناك جانب سلبي في أغلب تلك المحاولات وهو أنّها كانت فلسفية أكثر منها علمية. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ضرورة تناول هذه القضيّة بطريقة مختلفة تنطوي على حلٍّ جذري لها لا يكون فلسفياً.

الإنسان الوحيد الذي نجح في القيام بتلك المهمّة الصعبة هو تيار دي شاردان، المولود في 1 أيّار (مايو) 1881 في فرنسا، والذي ربَّته أمّه تربية دينية وأعطاه والده، بفضل ثقافته الواسعة وحبّ الطبيعة اللتَين اتّصف بهما، تلك الروح الوضعية في النَّظر إلى الكون ومختلف أطواره. وفي العام 1899 انتسب إلى الرهبانية اليسوعية. وفي أيلول (سبتمبر) 1905، أُرسل إلى القاهرة ليتعلَّم الكيمياء والفيزياء في مدرسة العائلة المقدّسة في الفجالة حتّى سنة 1908. ثمّ أتمّ علومه اللّاهوتية وتمَّت رسامته الكهنويّة في 14 آب (أغسطس) 1914.

طوال حياته، كان مهتمّاً بالعلوم التي تتناول آثار الإنسانية وأصل الإنسان. وإلى جانب ذلك، كان شغوفاً بعِلم الأرض، وكان ميّالاً جدّاً إلى عِلم الحشرات. وقد تعمَّق في هذه العلوم وكان دقيقاً في أبحاثه، وهو، إلى جانب ولعه بهذه العلوم، كانت له اهتماماته الأخرى. فلو اكتفى بالجانب العِلمي، لما استطاع أن يقدِّم نظريّته الشهيرة، إذ وجب عليه أن يهتمّ بنواحٍ أخرى حتّى يجمع بين هذه المجالات. فما أكثر العلماء، ومع ذلك لم نجد أحداً منهم يقوم بهذه المهمّة. فتكوين دي شاردان في الرهبانية اليسوعية أعطاه خلفيّة فلسفيّة قويّة، وكان عنده حسن تصرّف، ممّا أعطاه نوعاً من الانسجام والتجاوب مع الطبيعة.

كان دي شاردان مُحبّاً للتنقّل، وقد عاش 25 سنة في الصين حيث شارك في اكتشاف حلقة أساسية من تطوّر الإنسان، وهو ما يُعرَف بإنسان الصين (Sinanthrope)، كما عاش الجزء الأخير من حياته في أميركا. وعاش فترة في أفريقيا وأوروبا، وقد ساعده هذا على أن يحتكّ احتكاكاً مباشراً بالعلماء الكِبار المعاصرين في أثناء حياته.

يمكن القول إنّ هذا الشخص قد أثَّر تأثيراً بالغاً في عصرنا، وقد أثار بعض الجدل حوله، بعد أن نشر أفكاره، وهذا الجدل لم يكن في مجال العِلم فقط، بل في عالَم الكنيسة أيضاً، فهي لم تقبل أفكاره لمدّة 30 سنة. وحتّى الآن هناك بعض رجال الدّين الذين يرفضون نظريّته.

في العاشر من نيسان (أبريل) 1955، مات دي شاردان وقال متذكّراً كلّ ما قاساه من صعوبات وآلام في حياته:"ربّي إنّي فتّشتُ عنك بكلّ ما فيّ من قوى، وبكلّ ما أعطتني الحياة من ظروف قاسية. لم أتوانَ أبداً عن التفتيش عنك، وعن وضعك في قلب المادّة الشاملة، وليكنْ لي الفرح في أن أغمض العين يوم النور الشفّاف الشامل، يوم يشعل كلّ شيء بشمول نارك اللّاهبة".

كتب الأب دي شاردان مئات الأبحاث التي لم تُحصر كلّها حتّى اليوم، وكان من سوء حظّه ألّا يُطبَع له كِتاب علميّ وهو على قيد الحياة، ذلك أنّ الكنيسة منعته من نشر كتبه الفلسفية. والسبب في ذلك أنّ رؤساءه الدينيّين اعتبروا، منذ وقت طويل، أنّ بعض أقواله المتعلّقة بالخطيئة الأولى وصِلة ذلك بالتطوّر البيولوجي لا تُطابِق تماماً العقيدة الكاثوليكية. وبعد موته، تكوَّنت لجنة من أصدقائه ومريديه، مهمّتها نشر تراثه العلمي والفلسفي، وصدرت منها مجلدات عدّة يذكر منها: الظاهرة الإنسانية، الطّاقة البشرية، مكان الإنسان في الطبيعة، الوسط الإلهي، مستقبل الإنسان، نشيد الكون.

ماذا عن جوهر نظريّة دي شاردان؟
لقد وجد أنّ هناك قوانين شاملة تجمع بين كلّ المخلوقات. فقد ساد الاعتقاد لفترة طويلة أنّ عالَم الإنسان هو عالَم مغلق له قوانينه الخاصّة، وأنّ عالَم المادّة هو أيضاً عالَم مُغلق له قوانين خاصّة به. وليس من تشابه بين المادّة والحياة، لكنّ دي شاردان استطاع أن يضع أصابعه على قانون شامل فتح له باب أسرار العِلم، على قانون واحد يسود العالَم بكامله ويقود تطوّر هذا الكون. وقد توصَّل إلى قانون أسماه قانون التناسب بين التعقيد والوعي. وملخَّص هذه النظرية هو أنّ العالَم فيه كائنات معقّدة، أي أنّها مركَّبة تركيباً منظّماً يخضع لقانون الوحدة. فعلى سبيل المثال، لا يُمكن اعتبار كوم من الحجارة معقّداً، لكنّ جسم العصفورة معقَّد لأنّ فيه كمّية أقلّ من المادّة، لكنّها منظَّمة ومركَّبة تركيباً تسوده الوحدة. هذا هو التعقيد. فماذا عن الوعي؟ الوعي هو البحث عن الحقائق والبحث عن الكائنات.

من ناحية وجدنا كائنات فيها قدر من التعقيد، ومن ناحية أخرى وجدنا كائنات فيها قدر من الوعي. ومن الصعب أن نحدِّد أو نعرف كلمة وعي، فالوعي هو القدرة على إدراك الأشياء، قد يكون وعياً ذاتياً أو وعياً موضوعياً، ولكن كلاهما مرتبطان، وقد توصَّل الأبّ دي شاردان إلى أنّ هناك تناسباً بين درجة تعقيد الكائن ودرجة وعيه، فكلّما ازداد جسم الكائن تعقيداً، ازدادات فيه درجة الوعي. وأَطلق على هذه العلاقة قانون التناسب بين التعقيد والوعي، وبهذا استطاع أن يفتح لنا سرّ التطوّر، لأنّ التطوّر ما هو إلّا حركة تنطلق من كائنات بسيطة أو قليلة التعقيد، وتتصاعد إلى كائنات فائقة التعقيد، وكلّما زاد التعقيد فيها ازدادت درجة الوعي فيها حتّى نصل إلى مرتبة الإنسان، وهو الكائن الواعي الأعلى في عالَم الكائنات.

وجد دي شاردان أنّه، كلّما عدنا إلى الماضي، تتراجع الكائنات في التعقيد والوعي، وكلّما تقدَّمنا في المستقبل في سير التاريخ، وجدنا أنّ الكائنات الأخيرة أكثر تعقيداً وأكثر وعياً من أسلافها. في أقصى الماضي وجدنا المادّة المندثرة المخفّضة، وفي أقصى المستقبل نجد المادّة متجمّعة ومركّزة، وكلّ حركة التاريخ ما هي إلّا محاولة إلى التوحّد من المندثر المتعدّد إلى الواحد المركَّز.

بهذه الطريقة، سنرى ما هي الخطوات والمحاولات التى سلكها التطوّر في سبيل تحقيق هدفه، وبإيجاز يمكن القول إنّ كلّ حركة التطوّر والتاريخ ما هي إلّا محاولة توحيد عناصر العالَم حتّى تصل إلى وحدة مركَّزة شاملة وهي نقطة الوصول أو الهدف الوحدة. وهي النقطة الموضوعة أمامنا التي أطلق عليها اسم نقطة أوميغا (وهي آخر حروف الأبجدية إليونانيّة التي تبدأ بحرف ألفا).

إنّ نقطة أوميغا في نظر الأب دي شاردان، هي نقطة البشرية والعالَم النهائية. هذه النقطة تركّز في نفسها كلّ العالَم بما فيه من جماد وحياة وروح، نقطة جامعة شاملة وواحدة، هي قمّة التعقيد وقمّة الوعي في المخلوقات.

هذه هي الثورة التي فجّرها دي شاردان، فكيف تخيَّل هذه النهاية التي لم يرها، ومع ذلك وضعها كقانون وعلَّق عليها كلّ الآمال لأنّ الحركة كلّها لا تُفهم إلّا إذا وجدت هذه الحقيقة أمامنا، فحين يكون عندك هدف وتسير وتسعى نحو تحقيقه، يمكن تفسير كلّ حركة من تحرّكاته، وكلّ خطوة من خطواتك، بأنّها تهدف إلى هذه النقطة وهذا الهدف. ومن غير هذا الهدف، لا يمكن أن نفسِّر هذه الحركات. فحين تقرِّر حضور محاضرة ما، ماذا تفعل؟

قد تفكّر أنّ هذه المحاضرة ستطول ولذلك تحاول أن تنام في الظهيرة، ثمّ ترتدي ملابسك، ثمّ تأخذ وسيلة مواصلات إلى المكان الذي ستكون فيه المحاضرة، كلّ هذه الحركات كان هدفها أن تأتي إلى هنا في زمن معيّن، فإذا لم يكن أمامك هذا الهدف، فكلّ ما فعلت يُعتبر عبثاً دون جدوى، الهدف يبرِّر الخطوات التي تُتَّخذ في سبيل تحقيقه.

يمكن القول أيضاً إنّ العالَم في حركة. كنّا نتصوّر في القرن الثامن عشر أنّ العالَم ثابت في حالة جمود، وحين عرفنا أنّ العالَم يسير نحو هدف، وجدنا أنّ حتميّة الخطوات التي اتّخذها العالَم والإنسانية حتّى اليوم تحتّم وجود هذه النقطة التي هي بالضرورة موجودة أمامنا حتّى نستطيع أن نفسّر حركة الكون كلّها.

ومن دون ذلك تكون حركة من دون مبرّر، حركة مفرغة، وهذا ما نسمّيه افتراضاً حتمياً، مثل قولي إنّ هذا البيت، الذي لا أرى أساسه الآن، بل أؤكّد أنه يجب أن يكون، له أساس لأنّه ما زال قائماً ولم يسقط، فهناك افتراضات حتميّة عليها تتعلّق بالحقيقة.

لقد وجد دي شاردان أنّ كلّ الحركة هي حركة جمع وتركيب، ورأى أنّها من أجيال وأجيال تسير في اتّجاه واحد نحو التركيب، ولا بد أن تتّجه في اتّجاه حتمي إلى الأمام إلى نقطة النهاية (نقطة أوميغا)، فهذه النقطة ضرورية لأنّها تعلّل الحركة كلّها وتبرّرها منذ البدء.


المراجع

monliban.org

التصانيف

علم الكونيات  الفيزيائي  الايمان بالآخرة  الغائية  دين  علم  فلسفة   الدّيانات   علم النّفس