التجربة الشعرية والتجربة الصوفية تعبران عن معاناة ووجد وشوق، ومن رحم المعاناة تولد الكلمات، وتتفجر ينابيع الحكمة، التي تأتي بعد هذه التجارب، درسا مفيدا، وإحساسا دفينا يصور انفعالات النفس، وخطرات الحس، ومشاعر الأفراح والأتراح في أبيات تعلو تحلو وفي جنباتها خفق النسيم وقوة الإعصار.
إن الشاعر والصوفي يفنيان في تجاربهما ويخرجان من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن ثم اتسع الخيال عندهما اتساعا لفت أنظار النقاد من القدم وحتى الآن، في الشرق والغرب على حد سواء، فدرست العلاقة بين الشعر والتصوف دراسات عامة وخاصة، فأما العامة فتمثلت في دراسة علاقة التصوف بالشعر بصفة عامة، وأما الخاصة فتمثلت في دراسة إحدى ظواهر هذه العلاقة كالخيال عند الصوفية والشعراء مثلا، أو دراسة ظواهر التصوف جميعها عند شاعر معين.
ونعرض هنا للنوع الأخير؛ حيث نقرأ قراءة نقدية دراسة بعنوان "الأثر الصوفي في شعر محمود حسن إسماعيل"، للباحث ياسر حسين، وهي دراسة ماجستير نوقشت مؤخرا بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
ومحمود حسن إسماعيل شاعر معاصر ولد بقرية النخيلة بمحافظة أسيوط بصعيد مصر عام 1910م، وتخرج في كلية دار العلوم 1936م، ونبغ في الشعر صغيرا وظل يرتل أنغامه التي حفظتها دواوين كثيرة منها أغاني الكوخ، والتائهون، وقد كرم بجوائز متعددة أبرزها جائزة الدولة التقديرية، وتوفي سنة 1977م.
لقد كان إنتاج محمود حسن إسماعيل متميزا كيفا وكما؛ ولذا ولى الباحثون وجههم شطر شعره، فدرسوه في بحوث جامعية، وكتب نقدية، وما زالت الحركة النقدية حول نتاج هذا الشاعر قائمة، ومنها هذه الدراسة التي يحاول فيها الباحث تتبع الأثر الصوفي في شعر إسماعيل بما يعنيه من تجارب روحية اتسمت بالتجرد، والميل إلى تجاوز الواقع الحسي وتحقيق نوع من الاتحاد بالوجود، يقول الباحث: "يهدف الشاعر إلى الوصول إلى الحقيقة، والامتزاج بها، ثم الاتصال بالله أو بالعوالم الأخرى التي لا يمكن الاتصال بها في الأحوال العادية، وليس المقصود – بطبيعة الحال - الشعر الذي يتتبع النظريات الصوفية وينظمها على نحو ما تنظم في المتون، إنما المقصود الشعر الذي يستلهم خاطرة تتصل بهذه الأشياء في انفعال شعري حار، يخرج بها عن تقريرية العلم إلى رحابة العاطفة وتدفق الإحساس".
ترجع أهمية هذه الدراسة من وجهة نظري إلى أنها تستجلي تجربة شعرية تشربت بالوجد الصوفي الذي خرجت فيه اللغة من الحقيقة إلى المجاز، كما خرج الخيال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وذلك المجاز يعد عنفا في التعامل مع الكلمات كما يقول جان جاك لو سريكل في كتابه عنف اللغة.
وعندما نتأمل شعر محمود  حسن إسماعيل نرى أن عنف اللغة كان باديا فيه وإن اتسم بالرقة في الصور، والابتكار في المعاني والأفكار؛ فمن صور هذا العنف استخدام الرمز بصورة واضحة؛ فلقد كان كثيفا في كمه، لطيفا في كيفه؛ إذ جرد الشاعر من ذاته نفسين، إحداهما نورانية ، والأخرى أمارة بالسوء (مظلمة)، وبين نفسه النورانية ونفسه المظلمة نلحظ كم كان عنيفا في حوارهما.
إن محمود حسن إسماعيل من خلال إدراك النفس النورانية لصعوبة الطريق ومشقته، وكثرة عوائقه ووعورته،  وما يعترض السالك من عقبات توحي بها النفس الأمارة تطالعنا نغمة العنف في الأبيات التالية، وقد بلغت أوج قوتها وعنفوانها. وما زال الخطاب الحاد موجها من النفس النورانية التي تقوم بدور المرشد إلى النفس الأمارة بالسوء (المظلمة)، حيث يقول:
مَزِّقِي عن وجهك اليانع أسمال القناعِ
وارفعي الستر، بلا خوف على أي متاع
زادك النور، وفي دربك ينبوع الشعاع
فانفذي فالسر إن سرت على قيد ذراع
واصرعي الموج، ولو أقبلت من غير شراع
واركبي الإعصار والإصرار في وجه القلاع
إنما الخائف عند الزحف محتوم الضياع
فاكشفي ذاتك وامضي واتبعيني في صراعي
إن الباحث يأخذ مثل هذا العنف ويسلط عليه الضوء فيقول: "جسدت مجموعة الأفعال التي وردت بصيغة الأمر في هذا المقطع نغمة العنف وعلو نبرته، وبلغ الشاعر قمة رفيعة في تصوير هذه الاندفاعة الجارفة التي تكتسح كل العقبات التي تعترض طريق الوصول إلى الهدف (النور)، مستغلا كل طاقات لغته الإيحائية العالية، حتى ليكاد القارئ يسمع عصف هذه الاندفاعة، ويشعر بشدة عنفوانها، فالأفعال: "مزقي"، "ارفعي"، "انفذي"، "اصرعي"، "اكشفي"، "امضي"، "اتبعيني"، بصيغة الأمر وبدلالة: التمزيق، والرفع، والنفاذ، والصرع، والركوب، والكشف، والمضي تجسد شدة الانفعال، وتوحي في الوقت ذاته بالعنف الناتج عن مكابدة نوع من أنواع الصراع، والصرامة في اجتياز عقبات كأداء تقف في سبيل هذه الأفعال.
ولكي يبرر الشاعر فنيًّا عرامة هذا العنف وشدة الانفعال، وينأى به عن أن يكون مجرد مبالغة تصويرية غير ذات معنى، فإنه يلجأ إلى تحقيق نوع من "التعادل التصويري"، عن طريق إبراز ضخامة العقبات التي تعترض طريق النفس إلى النور، وتقطع السبل التي توصل إلى الله، فجعل أمام كل اندفاعة عقبة كئودا تعترض سبيلها: أمام "مزقي"، "أسمال القناع" هذه الأسمال التي تنتج دلالة الاحتجاب والخفاء، لذا يجب رفعها بكل قوة ممكنة حتى ينجلي النور، وهو ما نجحت في التعبير عنه دلالة التمزيق، ومما يزيد من عرامة هذا التمزيق وعنفوانه أن "أسمال القناع" هذه بالية متهتكة. وأمام "ارفعي"، "الستر"، والستر أيضًا ينتج دلالة الاحتجاب والخفاء، وهذا الاحتجاب في حد ذاته ظلمة؛ لأنه يحجب الرؤية كما يحجب النور؛ لذا يجب رفعه ليتمكن من رؤية النور. وأمام "اصرعي"، "الموج"، الذي ينتج دلالة التلاطم والتيه والتخبط، من ثم يتحول الموج إلى رمز لكل ما يعوق هذه النفس عن الانطلاق إلى النور من شهوات وذنوب ومعاص وغير ذلك. وأمام "اركبي"، "الإعصار" الذي يعني الحركة العنيفة الدائمة، وهو هنا رمز للمعاناة وصعوبة الطريق ومشقة الرحلة المعبر عنها بالقلاع، وركوب الإعصار يعني الإصرار على المضي قدمًا في الطريق، وعدم الاستسلام للعقبات،التي تعترض السالك مهما كانت صعبة وشاقة.
إذن كل هذه العقبات مجتمعة قد نجحت في خلق "معادل تصويري" برَّرَ نغمة العنف السارية في هذا المقطع وفي كل مقاطع القصيدة. وبخاصة إذا كان الخوف يعني الضياع، لأن "الخائف عند الزحف محتوم الضياع"، وكذلك "السر إن سرت على قيد ذراع"، لأنها بكشف السر سوف تقترب من منطقة النور، وفي النور جلاء كثير من الحقائق.
ويستمر الباحث في تحليل عنف اللغة وإيحاءاتها في دواوين الشاعر، ويخلص إلى جملة من النتائج منها أن محمود حسن إسماعيل كان "مثل غالبية الشعراء المعاصرين- لا ينتمي إلى فرقة صوفية بعينها يؤمن بمبادئها وفلسفتها، لكن القارئ المتعمق لشعر الرجل يجد أنه ينتمي بفكره إلى المدرسة الإشراقية؛ لأن كثيرا من أشعاره تحمل في مضمونها شكل هذه المدرسة وأصولها" كما انتهى إلى أن "الأثر الصوفي بمعناه الإسلامي – خاصة - له تجليات واضحة في شعر محمود حسن إسماعيل، وهذا الأثر يحتاج إلى تتبع دقيق لا يكتفي بظاهر الأشياء، فلا يكفي بحال من الأحوال أن نجد في شعره بعض المصطلحات الصوفية، مثل: "السكر"، و"الوجد"، و"الحقيقة"، و"السر"، و"سر السر".. وغير ذلك، لنحكم بوجود الأثر الصوفي في شعره – أيضا- لا يكفي أن ندرك من عناوين دواوينه: "قاب قوسين"، "نهر الحقيقة"، "موسيقى من السر"، " صوت الله"، وكذلك الحال في عناوين قصائده: "أنا والنفس والطريق"، " الطريق"، " شاطئ التوبة"، "الله.. والناي"، " الله.. والنفس"، "موسيقى من النور"، " موسيقى من الروح".. إلخ، لا يكفي كل هذا لإثبات تأثره بالفكر الصوفي، لأنه استمد هذه التعبيرات من مصطلحات الصوفية وأفكارهم، وإن كانت هذه المصطلحات لم تأتِ مصادفة من وحي الشاعر، لكنها عميقة الدلالة مرتبطة بمعانٍ صوفية أصيلة تؤكدها هذه العناوين للدواوين والقصائد، فكل هذه الأشياء الظاهرة قد تكون هادية إلى وجود الأثر الصوفي، الأمر الذي يحتاج إلى تعمق في جوانب شعره، ومعرفة ما فيه من مضامين وأشكال".
تلك كانت قراءة سريعة لهذا الرسالة، وهي حلقة من حلقات دراسة الشعر والتصوف التي يرجى مواصلة السير فيها من قبل الباحثين، فما زالت أشعار محي الدين بن عربي وابن الفارض وكبار المتصوفة لم تدرس دراسة أكاديمية رغم ما فيها من إبداع الفكرة وبراعة المعالجة.

المراجع

hamassa.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع