(1)
 من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال قولهم "العرب أمة شاعرة" . وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم .
**********
عزيزي القارئ، نفتح هذه المرة ديوان العرب لنرى: ماذا يقول الشعر عن الشعر، وماذا يقول الشعراء عن شعرهم، وماذا يقولون عن شعر غيرهم، لنضع أيدينا على وجه الصواب فيما نسمع، ونضع أقدامنا على الطريق الصحيح إلى الأدب الرفيع، والمنطق السليم، والشعر القويم.
كان أبو فراس الحمداني هو أول من التقينا به ليشنف أسماعنا بالأبيات الآتية :
الـشـعر ديوان العرب
لـم أعـدُ فيه مفاخري
ومـقـطـعـات  ربما
لا في المديح ولا الهجاء
 
 
أبـدا  وعـنوان الأدبْ
ومـديـح آبائي النجب
حـلـيت  منهن الكتب
ولا  المجون ولا اللعب
والشعر الحقيقي مرآة صافية تعكس – في صدق وأمانة - شخصية الشاعر وتفكيره، كما يقول حسان بن ثابت :
وإن أشعر بيت أنت قائلة            بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وهذا الصدق مع النفس بعيدا عن الإسراف والشطط يعتبر عاملا مهما من عوامل خلود الشعر .
 وقيمة الشعر لا تقاس بالكم والطول، ولكن تقاس بالكيف والمضمون . يقول محمود سامي البارودي .
والشعر لمح تكفي إشارته             وليس بالهذر طولت خطبهْ
**********
ويفصل لنا ابن رشيق – صاحب كتاب العمدة – ملامح الشعر الجيد ، فيقول – من قصيدة طويلة :
إنما  الشعر ما يناسب فى النظ
فـأتـى  بعضه يشاكل بعضا
كـل مـعنى أتت منه على ما
فـتـنـاهى من البيان إلى أن
فـكـأن الألـفـاظ منه وجوه
 
 
 
م ، وإن كان في الصفات فنونا
وأقـامـت له الصدور المتونا
تـتـمنى  لو لم يكن أو يكونا
كـاد سـحـرا يبين للناظرينا
والـمـعاني  ركبن فيه عيونا
 **********
ويفصل الناشئ الأكبر فيما يجب أ ن يلتزمه الشاعر في الأغراض الشعرية المختلفة ، فطريق المدح غير طريق الرثاء ، غير طريق الغزل أو العتاب . فلنستمع إليه أذ يقول :
الشعر ما قومت زيغ صدوره
إذا  مـدحت به جوادا ماجدا
أصـفـيته بنفيسه ورصينه
وإذا بـكيت به الديار وأهلها
 
 
وشددت  بالتهذيب أس متونه
وقـضيته بالشكر حق ديونه
وخـصصته بخطيره وثمينه
أجريت للمحزون ماء شئونه
ولكن البارودي يرى أن الشعر المثالي مادار حول المثل العليا ، والحكم القيمة بعيدا عن المدح والهجاء فيقول :
الشعر زين المرء مالم يكن
قـد  طـالما عز به معشر
فاجعله ماقد شئت من حكمة
 
وسـيـلـة لـلمدح والذام
وربـمـا ازرى بـاقـوام
أو  عـظـة أو حسب نام
ومثل هذا النوع من الشعر الأبي الكريم ، يبقى خالدا لا يعرف الفناء ، ويؤتى ثماره في بناء الأخلاق والأمجاد والأمم . يقول البارودي .
صـحائف  لم تزل تتلى بألسنةٍ
يـزهى بها كل سام في أرومته
فـكم  بها رسخت أركان مملكة
والـشعر ديوان أخلاق يلوح به
كم شاد مجدا ، وكم أؤدي بمنقبة
 
 
 
لـلدهر  في كل ناد منه معمور
ويـتقي  البأس منها كل مغمور
وكـم بها خمدت أنفاس مغرور
ما  خطه الفكر من بحث وتنقير
رفـعا وخفضا بمرجو ومحذور
 ولا شك أن مراعاة ( الصنعة العروضية ) مهمة جدا في نظم الشعر ، بحيث يتفادى الشاعر ما يعيب الشعر من كسور في الوزن ، ومن عيوب فى القافية ، ويتجنب المستكره من الضرورات والزحافات والعلل . فيأتي الشعر :
لـم  تـبـن قافية فيه على خلل
فـلا  سناد ، ولا حشو ولا هذر
لا  تنكر الكاعب الحسناء منطقه
 
كلا. ولم تختلف في شكلها الجمل
ولا سـقـوط ولا سهو ولا علل
ولا  يـعـاد عـلـى قوم فيبذل
**********
عزيزي القارئ ، تلك كانت أهم ملامح الشعر شكلا ومضمونا ، عرضها ديوان الشعر العربي بأمانة ووضوح ، ومن الحقائق التي لايختلف عليها اثنان ، أن أساس الشعر هو الموهبة الفطرية التي يخص الله بها بعض الناس ، ولكن هذه الموهبة يشحنها ويقويها كثرة التجارب وسعة القراءة وتحصيل المعارف ، وإلا تراخت الموهبة ، وأصابها الذبول . فطريق الشعر إذن ليس بالسهل الميسور .
ولعل هذا المعنى هو ماقصد إليه الحطيئه بقوله :
الشعر صعب وطويل سلمه
إذا ارتقى فيه الذي لايعلمه
زلت به إلي الحضيض قدمه
يريد أن يعربه .. فيعجمه
**********
 ولكل مهنة خبراؤها ، والعالمون بأسرارها ومتطلباتها ، ولكن هناك من يتسلل إلي مجالها من الأدعياء الذين يسيئون إليها بزعمهم المعرفة والخبرة بها . والأمر كذلك في الشعر ، فهناك في سوق الأدب – قديما وحديثا – أدعياء من الشعارير والمتشاعرين . وهذا ما دفع أبن رشيق القيرواني أن يفضح أمثال هؤلاء ويهتك سترهم فى قوله :
لـعن  الله صنعة الشعر ماذا
يؤثرون  الغريب منه على ما
ويرون المحال معنى صحيحا
يجهلون  الصواب منه ولا يد
فـهـم  عند من سوانا يلامو
 
 
 
من صنوف الجهال فيها لقينا
كـان سـهلا للسامعين مبينا
وخـسـيس الكلام شيئا ثمينا
رون– للجهل – أنهم يجهلونا
ن ، وفي الحق عندنا يعذرونا
**********
وهذا الشعر أو هذا النظم المثقل بالعيوب والآفات ، هذا النظم الذي لعن ابن رشيق ( صنعة الشعر ) بسببه ، هذا النظم وماشابهه حمل عليه الشاعر السعودي محمد حسن عواد حملة ساعرة ، وسماه " نقيقا " و:" نتن النفوس " و" أدب الصنعة " ، وأبرز عواره بصورة أشد وأعتى حين وازن بينه وبين الشعر الأصيل : شعر الطبع السليم والقريحة المشرقة . يقول محمد حسن عواد :
أيـن  هذا النقيق من أدب القو
أين  نتن النفوس من أرج يعـ
نبعه الطبع . ناعيا أدب الصنـ
أين قلب يحطم الخطب فالخطـ
ليس بالنكال الجبان ولا الرعـ
 
 
 
ة  كـالـصـبـح حينما يتبسم
بـق  بـالـصـدق فتنة تتكلم
عـة عـنـد الجهول كي يتعلم
ب  . وقـلب من الوعيد تحطم
ديـد ، كـلا ولا الـذي يتلعثم
**********
عزيزي القارئ : إن الشعر الراقي بملامحه التي رسمها ديوان العرب : هو العطاء الكريم الذي يقدمه الشاعر المطبوع ، وهذا الشاعر المطبوع الذي يؤدي رسالته الإنسانية والقومية والخلقية تطالعنا صورته كثيرا : زاهية شامخة في ديوان العرب ، فعنه يقول خليل مطران :
شاعرهم وهو لسان الهدي         بينهم ، وهو عليهم إمامْ
ويرى فيه على محمود طه :
لـمـحة  من أشعة الروح حلت
ألهمت أصغريه في عالم الحكمـ
وحـبـته البيان ريا من السحـ
 
فـي  تـجـالـيد هيكل بشري
مـة والـنـور كل معني سري
ربـه لـلـعـقـول أعذب ري
 ويلح الشاعر محمد حسن عواد على نفس الفكرة بخطوطها النفسية والروحية فيقول :
وله  الفن  قائما  في أصول        قد تبث الهوى وترمي الشعاعا
الجمال المثير ، والقوة العل        يا ،  وصدق  الحقيقة  اللماعا
**********
لقد عرض علينا ديوان العرب في سخاء حديث الشعر عن الشعر ، وسمعنا منه حديث الشعراء عن غيرهم من الشعراء ، والآن نسمع منه حديث الشعراء عن أنفسهم .
(2)
عزيزي القارئ : كان هرم بن سنان يجزل العطاء دائما للشاعر العظيم زهير بن أبي سلمى ، وكان زهير " يقول فيه أصدق المدح وأحسنه ، ويروي أن بنت هرم بن سنان " وفدت على عمر بن الخطاب رضى الله عنه – فسألها عمر :
-  ماذا أعطى أبوك زهيرا حتى قابله من المديح بما قد سار فيه ؟ فأجابت :
-  قد أعطاه خيلا ، وإبلا وثيابا ومالا . فقال عمر :
-  لقد فنى ما اعطيتموه زهيرا ، ولكن ما أعطاكم زهير لايبليه الدهر ، ولا يفنيه العصر .
 وقد عشنا من قبل مع صورتين : صورة الشعر في الشعر ، وصورة الشاعر المثالي المطبوع كما رسمها الشعراء .
وفي السطور الآتية سنعيش مع " الشاعر في مرآة ذاته " ، لنرى ماذا يقول الشاعر عن نفسه ، لا بإطلاق ، ولكن في حدود شعره وحدود شاعريته ، وهو يرسم أبعادها بكلماته . ونفتح ديوان العرب ، فيواجهنا المتنبي الذي يصر على أن يكون لقاؤنا الأول معه ، ولا عجب في ذلك فقد عاش طيلة حياته معتدا بنفسه ، معظما ذاته إلى درجة الإسراف والشطط ، فهو يعظم ذاته حتى وهو يرثي جدته التي كان يدعوها بأمه ، فيقول :
ولو لم تكوني بنت أكرم والد        لكان أباك الضخم كونك لي أما
وهو يقول في مجلس سيف الدولة .
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا            بأنني خير من تسعى به قدم
ويقول عن شعره :
أنا الذي نظر الأعمي إلى أدبي          وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها          ويسهر الخلق جراها ويختصم
ويأخذه الاغراق في المبالغة أكثر من ذلك فيقول :
وما الدهر إلا من رواى قصائدي           إذا قلت شعر أصبح الدهر منشدا
فسار به   من  لا يسير  مشمرا            وغني  به   من لا يغني  مغردا
والمتنبي يشهد بشعره هذه الشهادة ، دون أن يقدم تعليلا لها ، كأنها حكم بدهي يعلو على الجدل والمعارضة . ولا كذلك الشاعر ذو الرمة الذي يصور معاناته في تجربته الشعرية وتجنبه عيوب الشكل والقافية ، وتنزهه عن طلب نوال اللئام بأماديحه ، فيقول :
وشعر قد أرقت له غريب
أبـيـت أقـيمه وأقد منه
ولم أمدح لأرضيه بشعرى
ولـكـن الكرام لهم ثنائي
 
 
أجـنـبه المساند والمحالا
قـوافـي لا أعد لها مثالا
لئيما أن يكون أصاب مالا
فلا  أخزى إذا ما قيل قالا
**********
ويقول الرضى الموسوي من قصيدة أجاب بها شاعرا
وصلت جواهر الألفاظ منها         بأعراض المفاصل والمعاني
كأن   أبا عبادة  شق   فاها         وقبل ثغرها الحسن بن هاني
ويفخر محمود سامي البارودي بأنه شاعر الطبع بعيدا عن التنطع والتصنع والتكلف ، فيقول :
أقول بطبع لست أحتاج بعده                    إلى المنهل المطروق والمنهج الوعر
إذا جاش طبعي فاض بالدر منطقي              ولا عجب فالدر ينشأ فى البحر
ويتردد في ديوان العرب كثيرا فكرة يلح عليها كثير من الشعراء وهو خلود الشعر الراقي ، وتخليده لصاحبه بعدموته .
يقول احد الشعراء :
فإن اهلك فقد أبقيت بعدي                       قوافي  تعجب  المتمثلينا
لذيذات المقاطع محكمات                        لو ان الشعر يلبس لارتدينا
ويقول البارودى عن شعره :
سيبقى به ذكرى على الدهر خالدا               ذكر الفتى بعد الممات خلوده
ويقول :
سيذكرني بالشعر من لم يلاقني           وذكر الفتى بعد الممات من العمر
**********
تلك كانت أقوال بعض الشعراء عن أشعارهم ، أو بتعبير أخر : صورة شاعريتهم بألسنتهم ، ومن معايشتنا لهذه الأشعار في ديوان العرب نلاحظ عليها ما يأتي :
-  أن أغلبها جاء في سياق قصائد كاملة في الفخر ، كملمح من ملامح مفاخر الشاعر وتصويره الكلي لذاته .
-  أن بعضها جنح نحو الإغراق في المبالغة ، كما رأينا عند المتنبي ، وجاء بعضها الآخر مبررا معللا لايخلو من الاعتدال والمعقولية .
-  أن بعضها أبرز قيما نفسية وخلقية عالية مثل الحرص على الكرامة الذاتية ، وتنزيه الشعر عن الهبوط إلى تدليك عواطف اللئام في سبيل الحصول على المال .
على أن الشاعر المتكامل هو ذلك الذي يجمع بين شاعرتين : شاعرية النظم ، وشاعرية الإنشاء ، أي الإلقاء ، وهما موهبتان يخص الله بهما من يشاء ، وإن كانت الموهبة تشحذ وتصقل وتقوى – كما ذكرنا – بتوسيع المعارف وكثرة الاطلاع ، وطويل الدربة – والممارسة والخبرة . ورب شعر حسن قبحه إلقاء ردىء ، ورب شعر هابط رفع منه الإلقاء الحسن المعبر المبين .
وقد عبر الشعراء عن حسن إلقاء بالإنشاد تارة ، و" بالتغنى " تارة أخرى . يقول حسان بن ثابت :
تغن في كل شعر أنت قائله       إن التغني لهذا الشعر مضمار
ويقول أحد الشعراء :
وإذا الشعر لم يهززك عند سماعه       فليس خليقا أن يقال له شعر
ويقول البارودي عن شعره :
فألق   إليه  السمع  ينبئك أنه            هو الشعر لاما يدَّعي الملأ الغمْرُ
يزيد على الإنشاد حسنا كأنني            نفثت به سحرا ، وليس به سحر
**********
وقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي - على شاعريته وشهرته – ضعيف النبر ، سيء الإلقاء ، لذلك لم يكن يقوى على مواجهة الجمهور بإنشاد شعره ، فينيب عنه من يقوم بهذه المهمة ممن عرفوا بقوة الإنشاد وبراعته . وعلى العكس من ذلك كان حافظ ابراهيم فقد كان له من قوة الإنشاد ، وبراعة الإلقاء ما يمكنه من شد الأسماع والأنظار والقلوب ، والهيمنة على مشاعر الجماهير ، في وقت لم يكن الناس قد عرفوا فيه مكبرات الصوت .
وفي شاعرية حافظ ، وموهبته في الإلقاء يقول خليل مطران :
هنيئا لكم أن تسمعوا شعر حافظ            وأن تسمعوا إنشاده الشعر فى آن
هما  تحفتا دهر ضنين ظفرتمو            بكليتهما ، من مسعف غير ضنان
وبعد أن مات حافظ إبراهيم رثاه بقصيدة يقول فيها:
يـنـشـد  الـحفل فاتنا كل لب
يـنبر  النبرة العزوف ، فما تس
وكـأن الأثـيـر يـحـمل منها
ذاك  أن الـروح الـمـردد فيها
 
 
بـبـديـع  الإيـمـاء والإنشاد
مـع إلا أصـداؤهـا فى الوادى
كـهـربـاء  تـهـز كـل فؤاد
روح شعب والصوت صوت بلاد
 

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع