شهدت قاعة الندوات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان التابعة لجامعة عبد المالك السعدي حدثا استثنائيا مؤخرا تمثل في مناقشة أطروحة لنيل دكتوراه الدولة تقدم بها الباحث محمد الحيرش بإشراف اللساني والمفكر الدكتور عبد السلام المسدي، وموضوع الأطروحة المذكورة هو «تفسير النص وتأويله في علوم القرآن: دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة». ويعد هذا الموضوع طرحا جديدا وطريفا نظرا لما اتصف به من جرأة ومن دقة للتناول وتمكن من المنهج والوسائل البحثية. وقد أجمعت لجنة المناقشة المكونة من الأساتذة: د. محمد الأمين المؤدب رئيسا، د. عبد السلام المسدي مشرفا ومقررا، د.عبد الرحيم جيران عضوا، د. عبد العزيز العلاتي عضوا، د. محمد الولي عضوا، على أهمية الأطروحة وقوتها وعلى أنها تشكل منعطفا مهما في دراسة التراث وتعميق أسئلته. وقد
نال الباحث نتيجة ذلك درجة دكتوراه الدولة بميزة حسن جدا مع توصية بالطبع. وقد ارتأينا تقديم هذا التقرير إلى القارئ نظرا لما تشكله هذه الأطروحة من قيمة علمية وآفاق جديدة في تناول أسئلة التراث وقضاياه، ومن حوار بين الماضي والحاضر. وفي ما يلي نص مداخلة الباحث:
حين اخترت في مستهل التسعينيات البحث في موضوع:" تفسير النص وتأويله في علوم القرآن: دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة " بإشراف أستاذي الجليل الدكتور عبد السلام المسدي، كان الطموح العلمي الذي يوجهني هو أن أوفق في تطبيق قراءة حديثة على ذلك الموضوع وإخضاعه لمتطلباتها النظرية والمنهجية. ذلك أن الاقتناع الذي كان يلازمني حينئذ هو أن للمناهج القرائية الحديثة ما يكفي من النجاعة والوجاهة اللتين تستطيع بهما إخراج قضايا التراث التأويلي وإشكالاته من دائرة التقليد والإتباع والدفع بها نحو دائرة من التجديد والإبداع.
لكن وأنا مطمئن إلى ذلك الطموح وموجه بخطواته الواثقة، طيلة المراحل الأولى من إعداد هذه الرسالة، سرعان ما بدأت عناصر الارتياب تتسرب إلي وتسائلني في رجاحة ما كنت مقتنعا به وواثقا منه. إذ من خلال ترددي على عدد من التفاسير، ووقوفي على جمهرة من المؤلفات المصنفة في علوم القرآن أو في أصول التفسير، و مراجعتي لما كتب في قوانين التأويل ومذاهبه، بدا لي أن تراثا تأويليا يتسع لكل ما ذكر ويشمل كثيرا غيره هو أعقد وأرحب من أن تحيط به مناهج قرائية مازالت في طور تبحث فيه من خلال تنويع تطبيقاتها على النصوص عما تحقق به مستلزمات الملاءمة والشمول. أضف إلى ذلك أن عديدا منها يشكو في تمثله للنصوص من آفة الاختزال، الأمر الذي يعرضه لانتقادات قاسية من قبل المناهج المنافسة تفرض عليه إما أن يراجع أنظاره ويعمل على توسعيها و تجويدها، وإما أن ينزوي إلى حيث يطويه النسيان.
وهكذا، ومنذئذ، تحول ما كان مجرد مظهر من الارتياب إلى إشكال حقيقي بدأ يستحكم بالبحث ويوجه خطواته متخذا صيغا استفهامية من نحو:
- هل بإمكان طائفة من المناهج القرائية والتأويلية المعاصرة المستندة إلى مقاصد واستلزامات خاصة أن تنطبق على تراث تأويلي متشعب وممتد له هو أيضا مقاصده واستلزاماته الخاصة؟
أو بمعنى آخر، هل يقبل تراث تأويلي غزير ومتنوع أن تجري عليه المقتضيات المعرفية للتصورات التأويلية القائمة دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بغناه والتقليص من رحابته؟ وهل بإمكان تحصيل آليات ذلك التراث وبيان خبرته النوعية بالنص القرآني فهما وتأويلا انطلاقا من مناهج تأويلية معاصرة تضبطها علائق محددة بالنصوص وخبرات مخصوصة بها؟ هذا إلى جانب كون التأويل القديم هو مما ارتبط بالوحي وأخذ على عاتقه مسؤولية بيان حقائقه ومعانيه، في حين ارتبطت مناهج التأويل المعاصر بنصوص بشرية ودنيوية، واتخذت منها مجالا لتنسيب الحقيقة وتنويع السبل الهادية إليها.
هذه الأسئلة وغيرها جعلتني أواجه في المنطلق إشكال العلاقة بين التراث والحداثة وما يقترن به من تصورات متباينة ومواقف متفاوتة. كما جعلتني في صلب المسافة الزمنية والمعرفية التي تفصل بين ما تحقق في الماضي من منجزات وما يتحقق في الحاضر. ولم يكن أمامي وأنا أسعى إلى تطوير أجوبة ممكنة عن تلكم الأسئلة إلا خيار من اثنين: فإما أن أصدر عن موقف يقضي بأن التراث حلقة من الفكر مضت وانقطعت عنا وانقطعنا عنها ولا يمكن التعامل معه إلا في ضوء ما يكون به موضوعا ناجزا لأنظار منهجية حديثة تعيد بناءه وفق معتقدات الحاضر ومسلماته. وإما أن أصدر عن عكس ذلك وأسلم " بالكفاية الأبدية " للمنجز التراثي على نحو ما يذهب إلى ذلك التقليديون.
والحق أني لو كنت سرت ببحثي على خطى هذا الخيار أو ذاك لما استطعت الخروج من دائرة الصراع المحتدم في فكرنا العربي المعاصر بين الحداثيين والتقليديين حول من له أحقية امتلاك مضامين التراث واستثمارها على نحو فاعل. ذلك أن مجريات هذا الصراع ومضمراته المستترة فيه لم يلزم عنها إلا ما يزداد به التقاطب بين التراث والحداثة اشتدادا ويترسخ من خلاله التنافر بينهما.
لأجل ذلك بحثت عن أفق آخر ينظر فيه إلى التراث من زاوية أرحب لا هي بالتي تقول بكماله وتعاليه على التاريخ، ولا هي بالتي ترده إلى الحاضر وتسقط عليه أحكامه ويقينياته. إنها زاوية يتحدد فيها التراث على أنه أفق من الفكر لم ينقطع عما تواتر بعده من آفاق. إنه تلك الأرضية التي انغرست فيها جذور الفكر وتشكلت فيها تقاليده المسبقة التي لا تكف الآفاق الفكرية ما بعد التراثية عن استيحائها ومحاورتها ومواصلة تأويلها. التراث ذاكرة حية لا تفتأ عن التشكل والتجدد، لأن الفكر –كل فكر- لا يتحدد إلا وهو في حوار متواصل معها وفي تفاعل متواتر مع تجلياتها.
وهكذا، وانطلاقا من هذه الزاوية من النظر إلى التراث، سمحت لنفسي أن أخوض في قضايا تفسير النص وتأويله في علوم القرآن وأتناولها بالدرس والتحليل. وهي زاوية اتخذ فيها البحث صيغة محاورة مرنة ومفتوحة بين التأويلية القرآنية وطائفة من التأويليات المعاصرة المتبلورة عقب ما يعرف في الأدبيات بالانعطاف التأويلي(tournant herméneutique). ذلك أن الحرص كان شديدا على أن تجري المحاورة بين التأويليتين من دون أن يمثل أي من طرفيها أصلا قارئا لفرع مقروء. فما رمته هو أن يتجاذبا معا أطراف الكلام على ما هو بينهما قيد السؤال، ويفيدان بعضهما من بعض بما يغني فاعلية التأويل ويفضي إلى أقوم مسالك الفهم وأوسعها.
من هنا، واستنادا إلى ما تقدم، جاء البحث منتظما في مدخل عام وقسمين. ففي المدخل دافعت عن وجوب إعادة الاعتبار إلى التراث ومعاملته لا على أنه مدونة ساكنة من النصوص الفاقدة لمقومات الحياة، بل بما هو نصوص حية وناطقة يتكلم بعضها مع بعض وتتواصل فيما بينها بصورة لا انغلاق فيها ولا تقوقع. وهو بموجب ذلك لا يتطلب من المتعاملين معه إلا أن يتنبهوا إلى طريقته الخاصة في الكلام ومنطقه النوعي في إنتاج الحقائق وتداولها. وحين يُستطاع إلى ذلك سبيلا فإن التراث لا يكشف لنا عن وجه من وجوهه فحسب أو يفصح عن ملمح من هويته، بل يكشف لنا عن مكامن غناه وعن ذاك الذي ما انفك ينقال في نصوصه الحاملة ويتناسل من معان بها قائمة. وبذلك تطرد استمرارية التراث عبر العصور وتمتد تقاليده ومسبقاته حية منصهرة في الأحقاب والآفاق.
على هذا النحو إذن من إعادة الاعتبار إلى التراث، وفي ضوء الروح التجديدية التي ينطوي عليها، انتقلت إلى مدارسة مشاغل التأويلية القرآنية وبحث أبرز إشكالاتها. ففي القسم الأول من الرسالة قمت بإعادة بناء الإطار العام الذي تلتئم داخله تلكم المشاغل مستحضرا إمكانات الإفادة المتبادلة المتاحة بينها وبين مشاغل التأويليات المعاصرة. وهكذا تناولت بالتعريف علوم القرآن وتعاملت معها باعتبارها خطابا نظريا واصفا للمعرفة التفسيرية (méta-exégèse) يُعنى فيه علماء القرآن بصوغ قواعد التأويل وتجريد كلياته التي يعملها علماء التفسير في فهم النص القرآني وبيانه. وبذلك كان التفسير ممارسة فهمية عملية مرتبطة بالنص، وكانت علوم القرآن تقعيدا لتلك الممارسة وتجريدا للمعايير والمقومات المعرفية والقيمية التي تشرطها وتوجهها.
وقد ارتبطت بهذا التأطير العام إشكالات متعددة وقفت فيها على علم التفسير ومقوماته البرنامجية، وبينت أن الموسوعات العلمية التي يتوسل بها المفسرون في الفهم لا يمكن اعتبارها بأي حال مجرد تجميع لركام متنافر من الآلات والأدوات العلمية، بل تقوم عندهم على ضروب دقيقة من التداخل والتكامل تصبح معها تلك الموسوعات بمثابة منظومات تخاصية (interdisciplinaires) متناسقة معرفيا ومتآلفة.
وانتقلت بعد ذلك إلى بحث مراتب الفهم الإجرائية على نحو ما حددها علماء القرآن في مفهومات "المعنى" و"التفسير" و"التأويل". والمعروف أن العادة الجارية عند الدارسين المحدثين في تناول هذه المفهومات لا تتجاوز حدود التمييز الاصطلاحي فيما بينها، ولا تتعدى في أحسن الحالات الإشارة إلى المجالات النصية التي تنطبق عليها. وقد انصرفت الرسالة إلى جانب آخر في تلك المفهومات هو الذي تكون به ذات علاقة بطبيعة الإنتاجية المعنوية (signifiance) في النص القرآني. ذلك أن ما من مفهوم منها إلا ويجري على نمط محدد من أنماط إنتاج المعنى فيه، لأن المعاني القرآنية بحسب المفسرين وعلماء القرآن لا تأتي كلها على نمط واحد ظاهر ومكشوف، وإنما تأتي أيضا على أنماط متفاوتة بالغة الخفاء والإبهام.
وبالموازاة مع هذا، خصصت لضوابط التأويل وأخلاقياته في نهاية القسم الأول من البحث وقفة تحليلية أوضحت فيها أن التأويل
ية القرآنية لا تعتبر فقط صوغا نظريا لقواعد التأويل وضوابطه، بل تعتبر أيضا تسطيرا للمعايير الأخلاقية التي يتعين على كل ممارسة تأويلية أن تهتدي بها في فهم القرآن. وبذلك كان الفهم في وعي علماء القرآن هو مما لا ينفصل فيه النظر المتوسل بالعلم عن العمل المتوسل بالقيم، لأن فهماً مستندا إلى العلم بإطلاق ومجردا من كل ما يفضي إلى تخليقه ينقلب إلى شطط لا رادع له وإلى سلطة تستبد بالنص وتمارس قهرها عليه...
أما القسم الثاني من الرسالة فجاءت محاور الاهتمام فيه مندرجة تحت إشكال نظري عام هو إشكال نمذجة النص (modélisation) في علوم القرآن. وعلى الرغم من أن هذا الإشكال هو مما تُعنى به مناهج التأويل الحديث ويتعلق بطرائقها في تحديد النص وتمثيله، فقد دافعت عن أن ما من تأويل قديم أو حديث إلا وتستتر خلف إجراءاته صيغة نظرية محددة للكيفية التي يفترض أنه يتعين بها ويتحقق. الأمر الذي يجعلنا لا أمام صيغة موحدة ومثالية لنمذجة النصوص، وإنما أمام صيغ متباينة ومتنافية.
ومن عرض عينة بارزة من هذه الصيغ ومناقشة بعض من مآزقها اهتديت إلى صيغة نمذجية تركيبية تأخذ في الحسبان مجموع أبعاد العملية النصية من دون تفضيل أي بعد منها وتمتيعه بحظوة ما على غيره.
وبالنظر إلى الطابع المتوازن للنمذجة المقترحة وكفايتها النظرية من جهة استيفائها لكل من علاقة النص بمنشئه، وعلاقته بذاته، وعلاقته بمؤوليه، فقد اطرد انطباقها على مختلف ما حفلت به علوم القرآن من مباحث مختصة بهذا البعد أو ذاك من أبعاد النص القرآني.
وهكذا جاءت نمذجة النص في علوم القرآن على مقتضى النحو الآتي:
- بعد تكويني(poïetique) عالجت فيه علاقة النص بمختلف قرائنه ومحدداته الخارجية (الواقعية والخارقة) التي انطلق علماء القرآن من أنها تدخل في تجلية سيرورة تنزيله وفي تبيان أنحاء تكونه وتشكيله. وقد وقفت في تلك القرائن والمحددات على ما يتصل منها بالسياقات التاريخية والفضائية للنص، فتناولت "أسباب النزول" وحللتها باعتبارها ظرفيات زمنية مرشدة إلى الفهم وموصلة إليه. كما تناولت بالتحليل علاقة النص بفضاءات النزول ومواقعه وأبرزت أهميتها التفسيرية عند القدماء؛ إذ لا تمثل هذه الفضاءات بالنسبة إليهم مجرد أمكنة خارجية يقيم بها النص ضربا من التعلق المحايد، بل إنها توجه عملية التفسير وتشرطها. لهذا لم يعملوا على فهم المتأخر في النزول (المدني) إلا مبنيا على المتقدم (المكي)، وكذلك المكي بعضه مع بعض والمدني بعضه مع بعض (الشاطبي، الموافقات). وهو ما يعكس وعيا متميزا بوحدة النص القرآني وانبناء أجزائه بعضها على بعض انبناء تشهد عليه السياقات الفضائية للتنزيل.
وتولى المحور الأخير من البعد التكويني بحث الروابط التي يقيمها النص بسياقه الإنجازي (performatif). فمن تحليل آلية «النسخ» كما تحددت عند علماء القرآن بينت كيف يتعذر الإلمام بالناسخ والمنسوخ وكيف يستعصى تمييز أحدهما من الآخر دون فتح النص على سياقاته التكوينية، ودون الاسترشاد في ذلك الإلمام والتمييز بما تتيحه هذه السياقات من تسويغ لوقوع النسخ، ومن مراعاة لأحوال المكلفين، واستحضار لمدى استعداد هؤلاء المكلفين نفسيا واجتماعيا لإنجاز الأحكام المترتبة على النسخ والعمل بها.
وتجدر الملاحظة أن الخيط الناظم الذي قام عليه البحث في تحليل علاقة النص بسياقاته التكوينية هو ما توفره الدراسات التداولية الحديثة من مكاسب وإمكانات نظرية وإجرائية تسمح بتأطير السياق، زمنيا كان أو فضائيا، تأطيرا نصيا دقيقا.
واسترسل البحث، بعد ذلك، في تفصيل محاور:
- البعد النصي التي ترجع في ملمحها العام عند علماء القرآن إلى العناية بخصوصية النص القرآني والاهتمام بأنحاء تميزه وفرادته. ففي محوره الأول درست منظور القدماء إلى الإعجاز وبيَّنتُ كيف ارتقوا به من حيز المسلمة الإيمانية إلى حيز البحث والاستدلال العلميين. وهو ما صارت معه البلاغة في وعي القدماء أقدر أداة علمية على بحث الإعجاز القرآني وكشف سماته ووجوهه. بل إنها استطاعت أن تستدل على أن الهوية الإعجازية للقرآن لا تنهض فقط على سمات نصية يغاير بها ما سواه من النصوص ويعلو عليها. إنها تنهض أيضا على ما أسميته بالتقويض الجذري لفكرة المثال؛ لأن القدماء لم ينظروا إلى القرآن لا بوصفه منسوجا على مثال سبق، ولا بوصفه "مثالا" لنصوص محتملة يمكن أن تضاهيه أو تنسج ذواتَها على منواله.
كما وقفت في المحور الموالي وقفة تحليلية مستفيضة عند الدلاليات الأصولية ونظرتها إلى الكيفية التي يعرب بها النص القرآني عن معانيه وقصوده الذاتية. وركزت في هذا الخصوص على نظرة الأحناف إلى الوضوح والإبهام الدلاليين، وتتبعت مراتبهما تتبعا مكنني من إبراز خاصية التوازي الدلالي (parallélisme) التي تنشد بها كل مرتبة إلى أخرى وترتد إليها.
وخُصص المحور الأخير من البعد النصي لدراسة مبحث "التناسب" الذي انصرف فيه اهتمام القدماء إلى التدليل على وحدة النص القرآني وتناسب أجزائه. وقد تناولت بالدرس والتحليل طائفة من اجتهاداتهم التي استنبطوا من خلالها الآليات النصية التي تشهد على ذلك التناسب وتكشف عن الأوجه التي بها يتآلف القرآن ويتآخذ. كما ناقشت بالموازاة مع هذا أهمية مبحث التناسب وعمقه عند القدماء، وأشرت إلى الإمكانات الواسعة والغنية التي يتيحها لتطوير منظور متجدد إلى النصوص بقدر ما يكون قادرا على بحث ما يستتر فيها من وجوه الوحدة والانسجام يكون قادرا أيضا على بحث ما ينتشر فيها من وجوه التشذر والتشظي؛ وذلك من منطلق يقضي بأن وحدة نص من النصوص لا تلغي اختلافاته وتشظياته، وأن هذه الاختلافات لا تلغي تلك الوحدة ولا تنفيها.
- أما البعد التأويلي فيشمل كافة المباحث التي تندرج عند علماء القرآن فيما يكون به النص في علاقة بمفسريه ومؤوليه. وبالنظر إلى أن هذا البعد يقبل أن يدخل تحته مجموع المنجز التفسيري والتأويلي بما يطبعه من تمثلات فهمية متفاوتة مذهبيا وغير متقايسة (incommensurables)، فقد اختار البحث التركيز على أكثر القضايا إثارة للخلاف والخصام المذهبيين. وهكذا أفرد محورا لقضية "المحكم والمتشابه" ودرسها باعتبارها قضية تأويلية خلافية تابعة في تحديدها وتمثلها لخصوصية هذه المرجعية المذهبية أو تلك التي يستند إليها كل مؤول. لهذا لم يكن البحث معنيا بالدفاع عن الموقف القائل بوجوب تأويل المتشابه أو عن الموقف القائل بامتناع ذلك، بل كان بالأساس معنيا بكشف الإستراتيجية المعرفية والتأويلية المضمرة التي يدافع بها كل موقف عن دعواه. وهو ما جعله يخلص إلى نتائج تعيد النظر في عديد من الأحكام والتصنيفات السائدة، ومنها على سبيل المثال أن ابن تيمية الذي عادة ما يصنف معاديا للتأويل هو غير ذلك. إنه يذم استعمالا محددا للتأويل هو الاستعمال الذي رام القبض على "أنطولوجيا" نص إلهي مفارق بمقولات ومحددات أنطولوجية مشتقة من عوالم معهودة ومشهودة. وبذلك فهو لا يرفض استعمالا للتأويل يكون مرادفا للتفسير والتدبر، وإنما يرفض رفضا جذريا استعماله المفضي إلى التخليط بين مجالين إحاليين تستحيل التسوية بينهما: أحدهما مرتبط بلغة القرآن وبما تحيل عليه من عوالم إلهية مفارقة أنطولوجيا. والثاني مرتبط بلغة التخاطب وبما تحيل عليه من عوالم دنيوية معهودة ومشهودة.
والى جانب هذا عالج البحث في الشق الأخير من البعد التأويلي الحدود التي تفصل عند القدماء بين ما يوصف بأنه تأويلات غالية وتأويلات معتدلة. ومن تحليل هذه الحدود ومناقشتها خلص إلى أن الغلو والاعتدال لا يعدوان كونهما صفتين صراعيتين لصيقتين بالتقويمات المذهبية والأيديولوجية التي كانت تطلقها التوجهات التأويلية القديمة بعضها على بعض. لذلك لم يتوقف البحث عندهما بمعناهما الصراعي الخارجي الذي يتمظهر أيديولوجيا على هامش الممارسة التأويلية لكل توجه، وإنما توقف عندهما بمعناهما الصراعي الداخلي الذي يتخفى معرفيا في ثنايا تلك الممارسة وفي مجرياتها. ذلك لأن صراع التأويلات في المجال العربي الإسلامي القديم لم يكن صراعا مذهبيا أو أيديولوجيا فحسب، بل كان أيضا صراعا معرفيا يعكسه اختلاف استراتيجيات التأويل وتباين برامجه . وبناء عليه دافعت الرسالة، وهي تفصل القول في تلكم البرامج لدى القائلين بالظاهر(ابن حزم) والباطن (القاضي النعمان) والوسطية والاعتدال (الشاطبي) ، عن أن اختزال صراع التأويلات إلى ما هو مذهبي صرف فيه كثير من التضحية بجوانب الغنى المعرفي التي تميز تلكم البرامج، وفيه أيضا طمس لحقيقة تاريخية لائحة وهي أن التأويل عند القدماء انبنى في منشإه وصيرورته على مبدإ التعايش مع التعدد والتساكن مع الاختلاف...
من هنا، واستنادا إلى ما هو مبسوط في هذه الرسالة من إشكالات وقضايا تفصيلية وإلى ما هو مبلوغ فيها من نتائج وخلاصات، أكون قد انتهيت إلى نظرة أخرى إلى التأويلية القرآنية هي غير النظرة الشائعة في عدد من الأبحاث والدراسات. ففي هذه النظرة إبراز لقدر كبير من الغنى والعمق المعرفيين الذي تتسم بهما هذه التأويلية، واستدلال على الإمكانات الواسعة التي تتيحها لتطوير أساليب التعامل مع النصوص وإغناء أشكال مقاربتها. وفي كل ذلك لم تكن الرسالة إلا ملتزمة بمقتضيات مواجهة حوارية مفتوحة بين تأويلية تراثية وتأويليات معاصرة، مواجهة سمحت لها بكشف بؤر التلاقي والاتصال الجارية بينهما والتقاط أصداء التفاهم المنبعثة منهما. إنها في خلاصة القول مواجهة ينهار على أرضيتها التقابل المصطنع بين التراث والمعاصرة، وتتهاوى أسسه الميتافيزيقية الزائفة.
المراجع
almothaqaf.com
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع