من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال قولهم " العرب أمة شاعرة " ، وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم ومسيرة حياتهم .
**********
عزيزي القارئ: في حلقة جديدة من " ديوان العرب " ندعوك لتصحبنا في رحلة نفسية فنية إلى " القدس والمسجد الأقصى " . وحادينا قوله تعالى : " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لِنُرِيَه من آياتنا ، إنه هو السميع البصير " (الإسراء 1)
فالقدس بلد مبارك بنص القرآن لأنها تحتضن المسجد الأقصى . والمسجد الأقصى هو قبلتنا الأولى . والمسجد الأقصى هو البقعة الطيبة التي شاءت إرادة الله أن يُسرِيَ بنبينا الكريم إليها من المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى لا تشد الرحال إلا إليه بعد المسجد الحرام ، ومسجد النبي ص بنص الحديث الشريف .
فلهذه المكانة الروحية السامية للمسجد الأقصى لهَجَت به ألسنة الشعراء ارتباطا بالإسراء . يقول أحمد شوقي في همزيته المشهورة :
أسـرى بـك الله لـيـلا إذ ملائَكُهُ
لـمـا خـطـرت به التفوا بسيدهم
صـلّـى وراءك منهم كل ذي خَطَرٍ
والرسْل في المسجد الأقصى على قَدَمِ
كـالـشهب بالبدر ، أو كالجند بالعَلَمِ
ومـن يـفـزْ بـحـبيب الله يَأْتَمِمِ
**********
وكان للمحن التي نزلت بالقدس وفيها المسجد الأقصى أثر قوي في تفجير طاقات الشعراء ، والتعبير عن حبهم وولائهم ، في مناجيات حارة صادقة ، كما نرى في الأبيات التالية للشاعر يوسف العظم :
يا قدس يا محراب يا مسجد
سُفوحك الخضر ربوع المُنى
كـم رُتّـلـت في أفقها آية
أقدام عيسى باركت أرضها
يـا دُرَّة الأكوان يا فرقَدُ ..
وتُـربُـك الياقوت والعَسجَدُ
وكـم دعـانا للهدى مُرشِد
وفـي سماها قد سرى أحمدُ
**********
ويمضي الشاعر بوجدان متدفق بالحب للقدس ، فيبرز مكانتها الروحية فيقول :
الوحيُ والتنزيل والأحرفُ
وسـورة الإسراء ما رتلت
تـبارك القدسُ وما حولها
في كل صدْرٍ من دمي دَفْقَةٌ
والآيُ والإنجيل والمصحفُ
إلا وأسـماع الدُّنَى تُرهف
وصـخرة القدس بنا تهتف
وكـل عـينٍ دمعةٌ تُذرفُ
**********
ونرى الشاعر السوري " محمود مُفلِح " يناجي القدسَ بلدَ الإِسراء ، ويخلع عليها من صفات الأمومة ما يشخصها في عين المتلقي فيقول :
يـا قدس يا بلد الإسراء ، يا لُغَةً
يا وردة الجُرح، يا أم العيال، فهل
مـن قال إن المآسي لا تضاجعنا
كـالـجمرِ يُتقنها من كابد الشَّجنا
ينسى بنوك النَّشَامى الثَّديَ واللبنا؟
وأنـنـا بـعـد لم ندفع الثمنا؟؟
**********
ويعبر الشاعر عن الولاء الدائم ، والوفاء الحي الذي لم تقتله المحن ، ولم تنل مته النكبات ، بل زادته قوة وتوهجا وتجذُّرا . يقول محمود مفلح :
نـعم ترنّحت الأجساد يا وطني
نـعم تساقطت الأحلام مجهضةً
نعم ذبحنا ، وكان الذبح متصلا
لـكننا ما خفضنا قط جبهتنا ..
ولا نـسينا بدرب القدس سُنبلة
ولا تعبنا من التجديف في لُجَج
نـعم ركبنا إليك المركَبَ الخَشِنا
وقد عرينا ، وذقنا الويل والحزَنَا
ومـاا رأيـنا على جزَّارنا وهَنا
ولا نـكـسـنا سيوفا حرة وقَنَا
ولا رغـيفا بماء القلب قد عجنا
كـانت تهز صوارينا .. لتُغرقَنَا
**********
وفي ترنيمة متفائلة نرى الشاعر " سليم الزَّعْنون " :
يـا أمة القدس قد أصبحتِ في الأمم
غـنـى لك الشعر من أحلى قصائده
لا تـحـسبوا الدمع من حب أُذَل له
أو مـن بـقايا شباب عاودته رؤى
إن الـلـواتي أثرن الحب في كبدي
دفـعـنَ كـل عـزيز في مُظاهرة
زغرودة النصر خلف الأهل صارخة
أعـزَّ أشـهـر مـن نار على عَلَمِ
"ريـم عـلى القاع بين البان والعلم"
أو "مـن تـذكـر جيران بذي سَلَمِ"
أضـحت مع العمر أحلاما من الحُلُمِ
خـطـرن في جنبات المهد والحرم
فالزوج والطفل في الأقصى على قدمِ
لا لـلـخضوع ، ولا للظلم والظُّلَمِ
**********
وكان للنكبات التي نزلت بالقدس ، وإصرار الصهاينة على تهويدها ، وتشبثهم بها ، وإسالة الدم العربي في ربوعها .. كان لكل أولئك أثر كبير في جنوح كثير من الشعراء إلى البكائيات والسوْداويات في شعرهم ، كما نرى في الأبيات التالية للشاعر " حلمي الزّواتي " :
يا قدس يا أَلَقَ الطفولة ناعسا
مـدّ الظلام على رباك جناحَه
والـمسجد الأقصى يقلب كفه
حشدوا له الأوغاد رغم أنوفهم
الحلم بات على هضابك باكيا
والليل من فوق المآذن ساجيا
وأذانه صوت العواصف داويا
فـتـجمعوا سدّا ونهرا طاميا
**********
ويفزع الشاعر يوسف العظم لتلك الحال التي صارت إليها القدس فنسمع منه هذه الصرخة الإيمانية المدوية :
يـا قدس يا محراب يا مِنْبرُ
أقدام من داست رحاب الهدى؟
وكف من تزرع أرضي ، وقد
مـن لوَّث الصخرة تلك التي
وأمـطـرَ الـقـدس بأحقاده
ودنّـس الـمـهد على طهره
يـا نـور يـا إيمان يا عنبرُ
ووجـه من في ساحها أغبر؟
حـنا عليها ساعِدِي الأسمرُ؟
كـانت بمسرى أحمد تفخر؟
فـاحترق اليابس والأخضر؟
إلا عـدو جـاحـد أكـفرُ؟؟
**********
وحينما تهل ذكرى الإسراء يستبد الحزن بالشاعر : جابر قميحة لما نزل بالقدس من محن وبلاء ، كما يستبد به الشوق إلى زيارة المسجد الأقصى ، ويحقق ما أراد ولكن في سياحة روحية ، ولّدتها أحلام اليقظة ، وفي محراب الأقصى تستغرقه روحانية غامرة ، لم تنتزعه منها إلا الأيادي السود .. أيادي الصهاينة الغادرين الأدعياء . يقول الشاعر جابر قميحة :
لـقد هلت رؤى الذكرى
وقـد نزّت جراح القل
فطِرتُ على جناح الشوق
وهـا قـد جئت يا محرا
ودمـع الحب في الصلوا
أنـا لـن أبـرح المحرا
ذرونـي أرتـوي مـنه
ولـكـن الأيـادي السو
وقـالـوا لـم يـعد لكمُ
هـنـا قـد كان هيكلنا
ومـلءُ قـلـوبـنا الآهُ
ب مـمـا قـد لـقـيناه
ق لـلأقـصـى لأحياه
ب أسـتـدفـي بذكراه
ت روَّان___ـي وروّاه
ب حــتـى يـأذن الله
وأشـبـع مـن نَـجاواهُ
دَ شـدّتـنـي . فَوَا آه!!
ولا حـتـى بـقـايـاهُ
بـنـيـنـاهُ وشِـدنـاهُ
**********
ولكن منطق الدين الحق ، وحقائق التاريخ الدامغة تُدين هؤلاء في أكاذيبهم وادعاءاتهم ، وستبقى القدس عربية إسلامية إلى الأبد بمشيئة الله .
(2)
عزيزي القارئ : إن الشاعر يوسف العظم يبرز المفارقة الهائلة بين حال القدس التي كانت , وحال القدس التي صارت , حتى تتبين فداحة الجناية الصهيونية على البلدة الطيبة المباركة . يقول يوسف العظم :
أبَـعْـدَ وجهٍ مشرق بالتقى
وبعد ليث في عرين الشَّرى
وبـعـد شعب دينه رحمة
يُـطـلُّ وجه كالح أسودُ ؟
يـحُل كلبٌ راح يستأسد ؟
يـحل مَنْ وجدانه يحقد ؟
**********
ويمضي الشاعر عمر بهاء الدين الأميري شريدا في الله , يضرب في فجاج الأرض تحت لهيب الغربة , ويحل عليه ... عيد الفطر وهو في مدينة الرباط بالمغرب , فلا نرى على وجهه ابتسامه الفرح , وأقول له " إنه العيد , أين بشاشتك " فكان جوابه :
ما العيد والقدس في الأغلال رازحة
وزأرة المسجد الأقصى مُضرَّجة ال
والـلاجـئون صيام العيد فطرهم
وفـي الـخـلـيل ملمات وتشريد
أصـداء بـالدم , والويلات ترديد
وبـشـر أطـفـالـهم همٌّ وتسهيد
**********
وكان حرق المسجد الأقصى من أخس الجرائم التي ارتكبها الصهاينة في تاريخهم الطويل , وتتوهج مشاعر الشعراء وقرائحهم أمام هذه الجناية الفادحة . وبعد مرور عام على هذه الجناية البشعة يقول الشاعر عبد الرحمن علي العبادي :
جـرَعْـنا لوعة الذكرى
وأنـت فـي حَـنَايانا ..
ونـار فـي رحاب القد
وذي أعـوامُـنا تمضي
ويمضي الجيل في صمت
وأهـل الـمسجد المقهو
بـيـوم القدس والمسرى
قـلـوب مـلت الصبرا
س قـد أذكـت بنا جمرا
عـلـى آلامـنـا تترى
لـيـصرع بالردى سرا
ر في الأغلال كالأسرى
**********
وفي الذكرى الكئيبة نفسها يعجز الشاعر عمر بهاء الدين الأميري أن يحُول بين نفسه وبين البكاء , ولكن دموعه لم تكن دموع الضعف والاستسلام , ولكنها كانت دموع الحُر الأبي التي تشحن النفس بطاقة العزم , وضِرام الإقدام . يقول عمر الأميري :
يا يوم معراج الرسول وأنت في
عـذرا إذا خـنق البكاء تحيتي
لـكـنـه الأقصى , وفي نكباته
دمـع الأبـي الحر بعض جهاده
فالقدس نار محاجرى ومشاعري
هل تطمئن بي الصلاة وقبلتي ال
في عين إيماني قذًى وأذًى, وفي
كَـرِّ الـدهـور هـداية وسلام
لـك , والأبـي على البكاء يُلام
وحـريـقه حبس الدموع حرام
وزفـيـره عـنـد الوغى إقدام
هـول يَـغُـولُ هَناءتي وحِمام
أولـى يـدنـسـهـا خنًا وأثام
قـلـب الـسكينة للهموم عُرام
**********
وقد يُفجع الشاعر , ويمزقه الجزع والأسى الأليم إذاما رأى في حاضره تقاعدا وتكاسلا عن تخليص مسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – فيفزع بوجدانه إلى الشخصيات الإسلامية التاريخية ذات البطولات والأمجاد والأريحيّة , وخصوصا صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من أيدي الصليبيين كما ترى في قول الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود :
قـم يـا صلاح فقد حُمَّ القضاء بنا
قم يا صلاح , فذا مسرى النبي غدا
الـخـصم جمّع أموالا وأعتدة ..
ونحن قحطانَ أسْدُ الغاب قد جفلت
قم يا صلاح فلن نبقى على الهُون
مـأوى الـذ ئاب وملجا كل مأفُون
وجـنـد الـغيد في ساح الميادين
قـلـوبـنـا ونـزلنا حمأة الطين
ويقول الشاعر يوسف العظم :
هـذه خـفقة قلب في الحنايا
خـطـهـا نَسْر جريح شامخ
بات في الأقصى يناجي جُرحه
فـمـتـى يبسم للكون غدي
ودمـاء قد تنزت من جراحي
نـهـشته الطير من كل جَناح
يـالـحـطين تباهي بصلاح
ومـتى يشرق للدنيا صباحي؟
**********
بل إن الشاعر ليستصرخ – في تاريخنا الزاهي – خلفاء وقادة وأمة وجيوشا فيقول :
وفـؤاد الأقصى الجريح ينادي
أيـن رايات خالد وصلاح ..
أيـن عهد الفاروق غير ذليل
وجـيـوش قد أشرعها سيوفا
ونـداء لـلتائهات حيارى ..
ورمـاحٌ في كف خولة تزهو
أين عهد اليرموك والقادسية ؟
وزحـوف لـطارق.. وأُميّة ؟
عف قولا , وطاب فعلا ونيّة ؟
وقـلـوب نـظـيفة ونقية ؟
أيـن خنساؤنا , وأين سمية ؟
وسـيوف في راحة المازِنيَّة ؟
**********
وإذا كانت الجنايات التي ارتكبها الصهاينة , والمحن التي نزلت بالقدس والأقصى قد جعلت الشعر العربي ينز دمعا وأسى وحزنا , فإن كثيرين من الشعراء كانت لهم رؤية متفائلة تستشرف فجر النصر , وتؤمن بطلوعه في المستقبل القريب كما نرى في قول عمر بهاء الدين الأميري :
سـتـرى أعينُ العصور انبلاجا
كان دين الإسلام – مذ كان – هديا
وسـتـبـقـى فينا حوافزه المث
سـنـوالـي جـهادنا في فلسطي
مـوعـد مُـبـرم إذامـات عنه
مـن ديـاجـيـرنـا لنور هدانا
لـلـبـرايا .. ورحمة .. وأمانا
لـى , ويـبـقى في أمرنا فرقانا
ن نـقـيـم الـصلاة في أقصانا
شـيـخـنـا القرم فيه ينمو فتانا
**********
والشاعر علي العبادي يرى أن العدو الصهيوني إن كان قد نجح مؤقتا في احتلال أرض , فإنه قد عجز عن استعباد نفوس درجت على الحرية , وعاهدت ربها على الصبر والثبات . يقول الشا عر :
ولـكنا برغم القهـ
ولـو من حقدهم منا
ليفعل ذلك الطاغوت
فلن يسطيع أن يثني
ولن يسطيع أن يلبس
ر لن نستمرىء الذلا
أبـاحـونا لهم قتلا
مـا يـنوي بنا فعلا
لـنا عزما ولا قولا
فـي أعـناقنا الغلا
**********
وتتدفق آمال الشاعر الإحسائي يوسف أبو سعد على رحاب أكثر امتدادا واتساعا فيرنو – لا إلى تحرير القدس فحسب – لكن الأرض السَّليبة كلها , إن لم يكن على أيدينا فعلى أيدي أبنائنا :
ويعود ما سَلَبَ العدا من أرضنا
نصرمن المولى اللطيف يحوطنا
وغدا لعرس القدس يُسرع ركبنا
ونـنام ملء جفوننا في حضنها
وعـلـى الدخيل مذلةٌ وصَغارُ
وعـلي الرءوس يرفُّ ثمة غار
ويـقـر من بعد الضياع قرارُ
نـومـا يرينا ما يرى الأبرار
**********
عزيزي القارئ: إن بين اليأس والأمل مساحة نفسية يجب أن نشغلها بالصبر والعزم والإيمان , وإنها لقيم لوأخذنا أنفسنا بها لقادتنا إلى النصر . لنذكر ذلك – يا عزيزي القارئ – بعد أن عشنا هذه الأصوات الشعرية المخلصة في .. ( ديوان العرب ) . وعلى حب وخير وحق نودعك على وعد باللقاء في الحلقة القادمة من ديوان العرب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع