الخمر له معانٍ عدَّة، منها التغطية والستر، وسُمي الخمر خمرًا لمخامرته العقلَ وتغييبه عن حسِّه وإدراكه، فاستُعِير الاسم في نقيعِ التمر أو العنب أو ما شابه ذلك؛ حيثُ إن من شرب هذا النقيع يغيب عن حسِّه وإدراكه ويخامِرُ هذا المشروبُ عقلَه فأسموه خمرًا.
وكثُر في شعر العرب وصفُ الخمر، والتغني بها والتفنن في مدحها، كلُّ ذلك على سبيل الحقيقة أو المجاز، حيث كانوا يشربون الخمرة ويصفونها ويتغنون بذكرها.
ولما جاء الإسلام وبيَّن أن للخمرة أضرارًا بالغة على المتعاطي لها، وأنها تفتِك في جسمه وتعطِّل خلاياه – حرم حينها الخمر ومنع شربها.
ولكننا نرى في العصور بعد مجيء الإسلام يكثر في كلام الشعراء ذكر الخمر والتغني بها ووصفها، وذلك في عصر قريب من عصر النبوة، وكذلك في العصر الأموي والعصر العباسي وهكذا إلى يومنا هذا.
ولكن البَون يكمُن في أن ذكر الخمرة في الشعر بعد مجيء الإسلام وتحريمه لها -كان ذكرًا مجازيًّا من بعض الشعراء، حيث وُصف الهيام بالمحبوب والسُّكر في حبه كأنه خمر يغيب من شَرِبه عن وعيه وإحساسه، واستعاروا ما للخمرة من آثارٍ ووَسموا بها الغَرام وما يفعل بصاحبه، كالسُّكر والنَّشوة والغياب عن الحس والثَّمالة وهكذا مما تفعله الخمرة الحقيقة من آثار.
ومنهم من تكلم بها وذكرها على سبيل الحقيقة، إذ إنه كان ممن يتعاطاها ويشربها ويهيم بها فينشئ قائلا في مدحها ووصفها.
وإن أردنا أن نتكلم من ناحية الحِلِّ والحُرمة في تضمين الشعر ذكر الخمر، فإننا نقول إن الذي يذكر الخمر ويوصفها ويذكر ما تفعل استعارةً وكنايةً عن أمر يريده الشاعر، فليس في ذلك بأسٌ؛ لأنه إنما استَعمَل اللفظَ العربي في الدلالة على مضمون هذه الكلمة وهو المخامرة والغياب عن الإدراك من فَرط الحبِّ والهيام.
إذا لا بأس في ذلك ولا حرج إن كان مَقصِد الشاعر كذلك، والتشديد فيه تعنُّتٌ في غير محله.
وأما من يذكرها على سبيل المدح لها وشربها والترغيب فيها، فغير خَافٍ عدم جواز ذلك، وأنه يَحرم.
ولعلَّنا نذكر ما جاء عن الخمر ووصفها حقيقة ومجازا في شعر المتقدمين والمولدين:
يقول الشاعر الجاهلي لَبيد بن ربيعة العامري:
كِرامٌ إذا نابَ التجارُ ألذَّةٌ مَخارِيقُ لاَيَرْجُونَ للخَمرِ وَاغِلا
إذا شربُوا صدوا العواذِلَ عنهمُ وكانُوا قَديماً يُسْكِتُونَ العَوَاذِلا
ويقول عنترة بن شداد:
كم ليلة ٍ قد قطعنا فيكِ صالحةٍ رغيدةٍ صفوها ما شابهُ كدرُ
مع فتيةٍ تتعاطى الكاس مترعةً منْ خَمرةٍ كلَهيبِ النَّار تَزْدهر
تُدِيرُها منْ بناتِ العُربِ جاريةٌ رشيقةُ القدِّ في أجفانها حور
ويقول أيضا:
وإن طَرِبَ الرِّجالُ بشُرْبِ خَمْرٍ وغيبَ رشدهم ْ خمرُ الدنان
فَرُشْدي لا يُغيِّبُهُ مُدَامٌ ولا أُصْغي لِقَهْقَهة ِ القناني
فنراه يذكرها حقيقة ويمتدحها ويذكر ساقيها ومديرها.
أما شاعر الجاهلية الماجن امرأ القيس صاحب الشرب والنساء فيقول:
فَظَلِلْتُ في دِمَنِ الدّيَارِ كَأنّني نَشْوَانُ بَاكَرَهُ صَبُوحُ مُدَامِ
أنفٍ كلونِ دم الغزال معتق من خَمرِ عانَةَ أوْ كُرُومِ شَبَامِ
وكأن شاربها أصاب لسانهُ مومٌ يخالطُ جسمه بسقام
فيبدع في وصف لونها وطعمها وشعور شاربها.
وأما فيما بعد العصر الجاهلي، ومع ظهور الإسلام فنجد الشاعر المخضرم كعبَ بن زهير قائلا:
ما يجمعُ الشوقُ إنْ دارٌ بنا شحطت ومثلها في تداني الدارِ مهجورُ
نشفى بها وهي داءٌ لو تصاقِبنا كما اشتفى بعيادِ الخمرِ مخمورِ
فإننا نجده يتكلم على حالة شوقه للديار وتعلقه بها، كتعلق الـمَخمُور –وهو من تولَّع بالخمر وما استطاع فراقًا لها- للخمرة وتَوقِه لها، وشفائِه ونَشوَته إن هو شرِبها.
وفي العصر نفسِه نجدُ سيِّدة الشعر الخنساء تصف حالتها عند وفاة أخيها فتقول:
لقدْ صوَّتَ النَّاعي بفقدِ أخي النَّدى نداءً لعمري لا أبا لكَ يسمعُ
فقمتُ وقدْ كادتْ لروعةِ هلكهِ وفَزْعَتِهِ نَفسي منَ الحزْنِ تَتْبَعُ
إلَيْهِ كَأنّي حَوْبَةً وتخَشّعاً أخُو الخَمْرِ يَسمو تارَةً ثمّ يُصرَعُ
فتذكر صفة الخمر من الصرع والنَّشوة والسموِّ
وهذا شاعر الإسلام المخضرم حسان بن ثابت في قصيدته التي ينافحُ بها عن الرسول الكريم ويهجو قريشا، يصف الخمرة قائلا:
كَأنّ سَبِيئَة ً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ،
عَلى أنْيَابهَا، أوْ طَعْمَ غَضٍّ
إذا ما الأسرباتُ ذكرنَ يوماً،
نُـوَلّيَها المَلامَة َ، إنْ ألِمْنَا،
ونـشـربها فتتركنا ملوكاً،
عَـدِمْنَا خَيْلَنا، إنْ لم تَرَوْهَا
يُـبَارِينَ الأعِنّة َ مُصْعِدَاتٍ،
تَـظَـلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ،
يَـكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
مـنَ الـتفاحِ هصرهُ الجناءُ
فَـهُـنّ لِطَيّبِ الرَاحِ الفِدَاءُ
إذا مـا كـانَ مغثٌ أوْ لحاءُ
وأسـداً مـا يـنهنهنا اللقاءُ
تُـثِيرُ النَّقْعَ، مَوْعِدُها كَدَاءُ
عَـلَى أكْتافِهَا الأسَلُ الظِّماءُ
تـلـطـمهنّ بالخمرِ النساءُ
ففي الأبيات من الوصف للخمر وذكر النشوة بعد شربها، وذكر مصدرها وكيف تمزج، ما يشير إلى مكانة هذه الخمرة في نفوسهم واشتهارها عندهم.
وهذا هو يصرح بشربها ووصف كأسها وصفا بديعا، فيقول:
ولقد شربتُ الخمرَ في حانوتها،
يـسـعى عليَّ بكأسها متنطفٌ،
إنّ الّـتـي نَـاوَلْـتَني فَرَدَدْتُها
كِـلْتاهُما حَلَبُ العَصيرِ فَعَاطِني
بِزُجاجَة ٍ رَقَصَتْ بما في قَعْرِها،
صـهباءَ، صافية ً، كطعمِ الفلفلِ
فـيـعـلني منها، ولوْ لم أنهلِ
قُـتِـلَتْ، قُتِلْتَ، فهاتِها لم تُقتَلِ
بِـزُجـاجَة ٍ أرْخاهُما للمِفْصَلِ
رَقَصَ القَلوصِ براكبٍ مُستعجِلِ
ولم يكتفِ بذلك بل أمر بشربها:
لما صحا وتراخى العيشُ قلتُ لهُ: إنّ الحياة َ، وإنّ الموْتَ مِثلانِ
فاشربْ من الخمرِ ما آتاكَ مشربهُ، واعلمْ بأنْ كلُّ عيشٍ صالحٍ فانِ
وبعد عصر المخضرمين يطلع علينا الحطيئة فيذكر أنها زينة تتوج الصدور كما الحلي :
طربتَ إلى من لا يؤاتيكَ ذكرهُ ومن هو ناءٍ والصَّبابةُ قد تضرّ
إلى طَفْلَةِ الأطرافِ زَيَّنَ جِيدَها مع الحلي والطّيب الجاسدُ والخمرْ
ويأتي بعده الأخطل صاحب اللسان البذيء مصرحا بشربها كما صرح بذلك حسان بن ثابت قائلا:
بان الشّبابُ ، ورُبّما عَلّلْتُهُ بالغانياتِ وبالشرابِ الأصهبِ
ولقدْ شربتُ الخمرَ في حانوتها ولعبتُ بالقانياتِ كلّ الملعبِ
ونرى فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري ينحو منحًا آخرَ عن ما تقدم فهو يُحذر منها ومن شربها فيقول:
إيّـاكَ والـخمرَ، فهي خالبةٌ،
خـابـيـةُ الرّاح ناقةٌ حفَلَت،
أشأمُ من ناقةِ البَسوس على النا
غـالـبـةٌ، خابَ ذلك الغَلَبُ
لـيس لها، غيرَ باطلٍ، حلَبُ
سِ، وإن يُـنَلْ عندها الطلب
ويفضح ما تفعله الخمرة بقوله:
وأمّا الخمرُ، فهي تزيلُ عقلاً،
ولـو ناجتكَ أقداحُ النّدامى،
تـذيـعُ السرّ من حُرٍّ وعَبدٍ،
وينفضُ إلفُها الرّاحاتِ، حتّى
وزيّـنـت القبيحَ، فباشرَتْهُ
ويـشرَبُها، فيقلِسُها، غويٌّ؛
ويـرفعُ شَربُها لغطاً بجهلٍ؛
فـتـحتَ به مَغالِقَ مُبهَمات
عـدَت عن حَملها متندِّمات
وتُعربُ عن كنائز مُعجَمات
تـعودَ من النّفائس مُعدمات
نـفـوسٌ كُنّ عنه مُخزَّمات
لـقد شامَ الخفيَّ من الشِّمات
كـأسـرابٍ وَرَدْنَ مُسدَّمات
ويُكثِر في شعره التحذير منها والاستخفاف بشاربها وتبيين ما تجلُب للإنسان من عارٍ وخَبَلٍ.
وهكذا كثر الكلام عن الخمر في كلام الشعراء من مادحٍ وواصفٍ ومشبِّه ومنفِّرٍ .
وأما المعاصرين من الشعراء فإنهم يتَّبعون مَن قبلهم مِن أهل صنعتهم...
فنجد معروف الرّصافي يذكر الخمرَ وميلَه بميلِ القَدِّ :
تميلُ بقدِّك خمرُ الدلال فيضحكُ في مَيله الاعتدال
ونرى محمد إقبال ينصح فيشبه بالخمر وما تفعله من نشوة، فيقول:
جاهلا سرَّ الحياةِ اجْتهد وامضِ نشوانَ بخمرِ المَقصِدِ
وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يقول:
إن مَـنْ يـحـملُ الخطوبَ كباراً
لـم نـفـقْ مـنك يا زمان فنشكو
فاصرف الكأس مشفقاً ، أو فواصلْ
لا يـبـالـي بـحـلمهن صغارا
مُـدْمـنُ الخمر لا يُحس الخُمارا
خـرج الرشدُ عن أَكُفِّ السُّكارى
ويصف بصورة بديعة قائلا:
هياكلُ تفنى ، والبيانُ مخلدٌ أَلا إنّ عِتْقَ الخمرِ يُنْسِي الأَوانيا
إذ أجود الخمر ما طال زمنُه وعَتق.
أما حافظ إبراهيم فيقول وصفًا من أروعِ وأجملِ ما قاله في دقَّةِ وصفٍ وتشبيهٍ وحُسنِ استشهادٍ:
يا غلامُ ، الـمُدامَ والكاسَ ، والطّا
أطلِقْ الشمسَ من غَياهِبِ هذا الدَّ
وأذنِ الـصُّـبْـحَ أنْ يَلُوحَ لعَيْنِي
وادْعُ نَـدمـانَ خَلوتي وائتِناسي
واسـقِـنـا يـا غُلامُ حتّى تَرانا
خَـمـرةً قـيـلَ إنّهم عصَرُوها
مُـذْ رآهـا فَـتَـى العَزِيزِ مَناماً
أعْـقَـبَتْهُ الخَلاصَ مِنْ بَعْدِ ضيقٍ
سَ ، وهَـيِّءْ لَـنـا مَكاناً كأَمْسِ
نِّ وامَـلأ مـن ذلك النُّورِ كأسي
مـن سَـناها فذاكَ وَقتُ التَّحَسِّي
وتَـعَـجَّلْ واسْبِلْ سُتُورَ الدِّمَقْسِ
لا نُـطِـيـقُ الـكَلامَ إلاّ بهَمْسِ
مـن خُدودِ المِلاحِ في يَومِ عُرسِ
وهـو فـي السِّجْنِ بَيْنَ هَمٍّ ويَأْسِ
وحَـبَـتْـهُ السُّعودَ من بَعدِ نَحسِ
وليس محمود سامي البارودي ببعيد عنه ولا ناءٍ عن ذكرها فيقول مـُجِيدًا ومبدعًا:
فَادْرَأْ هُمُومَ النَّفْسِ عَنْكَ إِذَا اعْتَرَتْ
فـالـعـيـشُ ليسَ يدومُ في ألوانهِ
مِـنْ خَـمْرَةٍ تَذَرُ الْكَبِيرَ إِذَا انْتَشَى
لـعـبَ الزمانُ بها ، فغادرَ جسمها
حَمْرَاءُ ، دَارَ بِهَا الـحَبَابُ فَصَوَّرَتْ
لاَ تَـسْـتَـقِـيـمُ الْعَيْنُ فِي لَمَعَانِهَا
تَـعْـشُو الرِّكَابُ ، فَإِنْ تَبَلَّجَ كَأْسُهَا
حُـبِـسَـتْ بِأَكْلَفَ ، لَمْ يَقُمْ بِفِنَائِهِ
حَـتَّـى إِذَا رَقَـدَتْ ، وَقَرَّ قَرَارُهَا
تَـسِـمُ الْـعُـيُـونَ بِنَارِهَا ، لَكِنَّهَا
فـاصقلْ بها صدأ الهمومِ ، وَلا تكنْ
وَاعـلـمْ بـأنَّ الـمرءَ ليسَ بخالدٍ
بـالـكأسِ ؛ فهيَ على الهمومِ حسامُ
إِلاَّ إِذَا دَارَتْ عَــلَـيْـهِ الْـجَـامُ
بـعـدَ اشـتعالِ الشيبِ وَهوَ غلامُ
شـبـحـاً تـحـارُ لدَركهِ الأفهامُ
فـلـكـاً تـحـفُّ سماءهُ الأجرامُ
وَتـزِلُّ عـنـدَ لـقـائـها الأقدامُ
سـاروا ، وإنْ زالَ الـضياءُ أقاموا
نـورٌ ، وَلـمْ يـبـرحْ عليهِ ظلامُ
سـلـسـتْ ؛ فـليسَ لذوقها إيلامُ
بـردٌ عـلـى شُـرَّابـهـا وَسلامُ
غـرًّا تـطـيـرُ بـلـبهِ الأوهامُ
وَالـدهـرُ فـيـهِ مـصحةٌ وَسقامُ
وأما ذكر الخمر عند الشعراء الإسلاميين فغير خافٍ عنَّا.
نَجدُه يكثرُ؛ إذ يعرِّضون بما تفعلُه الخمرُ من غيابٍ عن الكون والسُّكر في حبِّ الله تعالى. وكلُّ ما يذكروه من بابِ المجاز والتشبيه على الأصل وهو المخامرةُ والغِياب عن الحوادث والرُّسوم.
ومن أوائل هؤلاء الشعراء وأشهرهم الشيخ مُحي الدين بن عربي، فيصرِّح عن مقصِده بذكر الخمر في شعره قائلا:
ألا كلُّ ما قد خامر العقلَ خمرةٌ وإنْ كانَ في مزرٍ وإنْ كانَ في تبعِ
فهذا هو مقصدهم في ذكر الخمرة لا كما يُفهَم من أنه إلحادٌ وخروج عن رِبقَة الإسلام !
ويقول:
واشرَبْ سُلافةَ خَمِرها بخمارها ، واطربْ على غردٍ هنالكَ تُنشدُ
وسلافةٌ منْ عهدِ آدمَ أخبرتْ عنْ جنةِ المأوى حديثاً يُسْندُ
ويقول أيضا:
مَنْ لِفَتًى دَمعتُهُ مُغرِقَةٌ ، أسكَرَهُ خَمرٌ بذاكَ الفَلَجِ
ونقرأ في شعر أبي عبد الله البُوصِيري صاحبِ قصيدة البردة المشهورة ما يقول:
مولىً تلذُّ لنا أخبارُ سؤددهِ كأنَّ أخبارهُ من حسنها سمرٌ
فلَوْ أدَارَتْ سُقاةُ الرَّاحِ سِيرَتَهُ عَلَى النَّدَامى وحَيَّوْهُمْ بها سكِرُوا
ويقول مُبدعًا:
أريحُ الصبا هبتْ على زهرِ الربا فأصبح منها كل قطرٍ مطيبا
أم الرَّاحُ أهْدَتْ للرِّياحِ خُمارَها فأسكرَ مسراها الوجودَ وطيبا ؟
وأما سلطان العاشقين ابن الفارض، فهو يكثر في شعره ذلك، على معانٍ مختلفة ومُتباينة، فيقول في بيته الأَخَّاذ:
شَربنا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً سَكِرنا بها مِن قَبلِ أن يُخلَقَ الكَرْمُ
وننتشي بقول عبد الرحيم البُرَعي حيث يقول:
و منْ لكَ بالزيارةِ منْ حبيبٍ
صبيحٌ في لمى شفتيهِ خمرٌ
سـقيمُ اللحظِ أورثني سقاماً
حمتهُ البيضُ والأسلُ الظباءُ
كـأنَ مـزاجها عسلٌ وماءُ
و فـي شفتيهِ للسقمِ الشفاءُ
ويقول واصفًا ومشبِّهًا:
وبنتُ عشرٍ سقاها الحسنُ خمرَ صبا فالقلبُ منها بغيرِ السكرِ سكرانُ
ونحن ننتظر شاعرَ الفقهاء عبدَ الغني النَّابُلُسِي صاحبَ شعرِ الحبِّ والقُربِ، لِيُبيِّنَ لنا ما يَقصد بذكر الخمر في الشعر، فيجيبُ قائلا:
صريحُ كلامي في الوجودِ وإيمائي
هـو الـبحرُ عنه لا يزول كلامُنا
وكـلُّ كـلامٍ قـد أتـى مُـتكلِمٌ
صـحت أمة من بعد ما سكرَتْ به
وقـامـت لـه في حضرةٍ أقدسية
عـلـيكَ نديمي بارتشافِ كؤوسِها
وما الكأسُ إلا أنتَ والرُّوحُ خمرُها
وفـي عالم الكَرْمِ الذي قد تعرَّشت
وخذْ منه عنقودًا هو الجسم ثم دعْ
ولا تـكسِرِ الراووق إنَّ الصفا به
إلى أن ترى وجهَ الزُّجاجة مشرقًا
فـإن هـنـاك الـدَّن دندن فانيًا
وأقـبـلتِ الحسناءُ بالرَّاح تنجلي
سـجـدنـا إليها أَي: فنينا بحبِّها
وحَـاصِـلـة أن الـجميع ستائرٌ
سـواءٌ وإعـلاني هواهُ وإخفائي
فعَن موجِه طورا وطورا عن الماء
بـه فهو منه عنه في رَمزِ أسماءِ
فـكـانَ بـها نُورًا أضاءَ بظلماء
هي الشمسُ عنها الكل أمثالُ أفياءِ
فـفـي كـأسها منها بقيةُ صَهباء
تحقق تَجدْ في السكر أنواعَ سراء
عـناقيدُه قفْ واغتنم فضل نَعماء
كـثـائـفُـه واحفظْ لطائفَ لَألاءِ
وحـلِّل وركِّب في أصولٍ وأبناءِ
وذات الـحُـميا في غلائل بيضاء
وجاء الدواءُ الصِّرف يذهبُ بالداء
عـلى يَدها يا طيبَ راحٍ وحسناءِ
وذلـك لـمـا أن أشـارت بإيماء
عـلى وجهها الباقي فعجل بإفناء
فأفتانا بأن الحاصل والخلاصة هو الرَّمز لا المعنى الحقيقي، وأن الوقوفَ عند الظَّواهر هو من قِصَر النظر. فما ذكرهُ الخمرةَ إلا جسرًا لمعنى أرادَ الوصول إليه، فكنَّى بها كما هو شَأن الشعراء في إِخفاءِ حبِّهم وخوفهم من أنْ يَنَالَه من ليس أهلٌ لَه...
وبهذا العَرْضِ الذي مرَّ من تضمين الشعر الكلام عن الخمر من وصفها ومدحها والتشبيه بها والثناء عليها والتحذير منها والكناية بها إلى غير ذلك مما يريده الشاعر، - يتضح أن هناك من ذكر على الحقيقة ومن ذكر على المجاز.
وأنه ليس ثَـمَّة حَرَج من الرَّمْز بها أو الحديث عنها في غير مدحٍ وثناءٍ وترغيبٍ، من نظرة فقهية. والله أعلم.
أما من نظرة أخرى فنرى أن اتِّحاد الصور في الشعر قد توجد عند المتقدمين والمتأخرين، وأن الكلام عن شيء محدد –كالخمر مثلا- شائع في شعر كلٍّ منهما، وأنه قد تتكرر الصورة نفسها أو حتى الكلام نفسه بأحرفه كما قرأنا في قول حسان بن ثابت:
ولقد شربتُ الخمرَ في حانوتها، صهباءَ، صافية ً، كطعمِ الفلفلِ
فإننا وجدنا الأخطل كرَّر الشطرَ نفسه فقال:
ولقدْ شربتُ الخمرَ في حانوتها ولعبتُ بالقانياتِ كلّ الملعبِ
فإما أن يكون قد أخذَ الشطر من قول حسان، أو يكونا اتفقا بالكلام نفسِه، فإنْ كان الأخطلُ قد أخذ الشطر من حسان ولم يُلمِح أو يُصرِّح بذلك فهو سارقٌ.
وقد وقع –الاتفاق بالشعر- مِن غير واحدٍ من المتقدمين؛ فيُروى بيتٌ واحد لغير شاعرٍ، وتُروَى صورة متَّحدة لشاعرين أو أكثر، فإذا رُوي بيت أو شطر لشاعرين، فإن كان أحدهما متقدم فالبيت يكون له، ويكون المتأخر إما سارقًا أو مُوافِقًا.
والاتفاق جائز ولا مانع من وقوعه؛ إذ قد تتفقُ الأقوال بصورةٍ واحدةٍ أو كلام متَّحد، وليس الكلام ولا الصور بمنحصرة بشخص ولا تتعدى لغيره، فاللغة والمعاني والصور ملك للجميع.
وبالله التوفيق... والله أعلم.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية