في هذا الشهر مرت علينا الذكرى الحادية والسبعون لوفاة الهمشري التي كانت في 14 من ديسمبر 1938م بعد حياة قصيرة لم تتجاوز الثلاثين عاما؛ لينضم إلى قافلة المبدعين الذين ماتوا في ريعان شبابهم كهاشم الرفاعي الذي مات في العشرينات من عمره، وكأبي القاسم الشابي الذي توفي عن ثمان وعشرين عاما؛ فالنبوغ والإبداع لا يعترفان بسن ولا يتقيدان بعمر؛ فسيبويه صاحب الكتاب الذي يعد قرآن النحو مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة والإمام النووي صاحب المجموع وشرح مسلم وكتب أخرى مات في الأربعينات من عمره...إلخ
ولعل الهمشري لا يعرفه الكثيرون؛ لقصر حياته، وعدم الاهتمام بما كتبه متناثرا على صفحات مجلة أبولو منذ صدورها 1932 وحتى وفاته 1938، إلى أن قام صديقه صالح جودت وجمعها وحققها في ديوان أصدرته الهيئة العامة للكتاب بمصر 1974 أي بعد ما يقرب من أربعة وأربعين عاما.
ومنذ ذلك التاريخ أعيدت قصائد الهمشري من أجداثها لتكشف عن شاعر مبدع عكف بعض الباحثين والنقاد على دراستها كالدكتور علي عشري زايد –رحمه الله- الذي استشهد بشعره على ظاهرة تراسل الحواس التي تعني أن يستعير الشاعر صورة تكون لحاسة الشم مثلا فيجعلها للعين أو للأذن، فيذكر مثلا أن تراسل الحواس وسيلة من وسائل تشكيل الصورة الشعرية التي عني بها الرمزيون، وشاعت هذه الوسيلة من وسائل التصوير الشعري في القصيدة العربية الحديثة، وأسرف فيها بعض الشعراء وبخاصة في بداية فترة التأثير الرمزي في الشعر العربي المعاصر .. ومن هذا قول الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري:
هيهات.. لن أنسى بظّلكِ مجلسي
وأنا أُُراعي الأفقَ نصفَ مُغمِّضِ
خنقتْ جفوني ذكريات حلوةٌ
من عطركِ القمَريّ والنغم الوَضي
فانساب منكِ على كليل مشاعري
ينبوعُ لحنٍ في الخيال مُفضَّض
وهفتْ عليكِ الروحُ من وادي الأسى
لتعبَّ من خمر الأريجِ الأبيض
إن محمد عبد المعطي الهمشري الذي ولد في شمال دلتا مصر عام 1908، وعاش بين فلاحيها في طبيعة ساحرة جعلت أحاسيسه ومشاعره تنطلق من كلاسيكية الشعر القديم إلى استنطاق الطبيعة في فلسفة رومانسية خاصة جعلته يقبل على روادها في الغرب من أمثال شلي، وكيتس، وبيرون، ليكون هذا الفكر موافقا جماعة أبولو التي أصبح رائدا من روادها، وشاعرا من شعرائها، ليقول عنه الشاعر فاروق شوشة: "في شعر الهمشري سمات جماعة شعراء أبولو وخصائصه الفنية التي تميزت بجموح الخيال، والإغراق في الصور الشعرية، ونزعة التأمل والهيام بالطبيعة الحية والجامدة، بالإضافة إلي تدفق الإيقاع والحرص علي الموسيقية التي تنساب في يسر وطبيعية، لا تكلف فيها ولا اصطناع".
إن هذه الرومانسية التي امتزجت بدماء الهمشري جعلته يخاطب محبوبته بكبرياء الفلاح الذي تغنى له فقال:
أجل أنت فاتنة إنما
أرى عزة النفس لي أفتنا
لئن كان عندك سحر الجمال
فسحر الرجولة عندي أنا
وإن كثرت في هواك القلوب
فإن الشباب سريع الفنا
ولئن كان الهمشري عنيفا في الأبيات السابقة فإننا عندما نقرأ بعضا من شعره نحس بالرقة والانسيابية والجمال؛ فإذا كان الشاعر العربي القديم قد تغنى بالجمل والخيمة والفرس فإن الهمشري قد تغنى بالشجر والدواب في أسلوب جميل ومن أقواله:
جاموستي يا ساحرة.. جوبي الحقول الناضرة
تنقلي.. تنقلي
يشدو لك العصفور.. ويهمس الغدير
تنقلي.. تنقلي
خطوتك الحسناء.. يمشي بها الرجاء
تنقلي.. تنقلي
ويسير في القصيدة كلها على هذه الوتيرة التي يبدو أنها جعلت أهازيج لذلك الفلاح الذي يعاني مشقة الحرث والزرع؛ فتكون له تخفيفا، ولأجواء التعب تلطيفا.
وظل الهمشري يغني للفلاح حتى مات بمرض لم يستغرق معه أياما معدودات، تلك الوفاة التي يحكي عنها رجاء النقاش بقوله: إن القصة بدأت بشعور الهمشري بآلام في معدته، وكان الهمشري في أتم صحة وعافية وكان مثالا حياً لعنفوان الشباب، وعندما أحس بآلام شديدة في المعدة تم عرضه علي الطبيب الكبير الدكتور عبد الله الكاتب الذي اعتني به عناية كبيرة، لكن القدر كان أقوي من هذه العناية، فقد تبين أن الشاعر يشكو من الزائدة الدودية، وكان الهمشري يميل إلي البدانة، فلما بدأ الجراح جراحته لاستئصال الزائدة كانت هذه الزائدة ترقد تحت بضع طبقات من الدهن تحجبها، واستغرق البحث عنها ثلاث ساعات، شاء القدر أن تصاب الأمعاء خلالها بالشلل، وظل الهمشري علي هذه الحال وجسمه ينتفخ ثلاثة أيام متواصلة، إلي أن كانت صبيحة اليوم الرابع عشر من ديسمبر سنة 1938 حيث أسلم الروح.
وهكذا انتهت حياة شاعر من أجمل شعراء مصر وأكثرهم موهبة ورقة وعذوبة في القرن العشرين هو الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري، وكما يقول صالح جودت فإن بعض الشعراء العالميين الذين كان للهمشري يحبهم ويقتدي بهم قد ماتوا شهداء في الحرب مثل بيرون، أو غرقي في البحر مثل شيلي، أو ماتوا بمرض شديد في الرئة مثل كيتس، أما الهمشري فقد ذهب ضحية عملية جراحية سهلة، ينهض منها أضعف الناس في يومين، هي الزائدة الدودية، ولكن القدر لم يشأ للهمشري ـ علي قوة بنيته ـ أن ينهض منها بعد عناء أربعة أيام في المستشفي.
وفي السنبلاوين بالدقهلية في شمال مصر حيث كان ميلاد الهمشري، تم دفنه، ولا تزال مقبرته المتواضعة هناك.
المراجع
الموسوعة الالكترونية العربية
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية