من الحقائق التي حملها التاريخ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا.
وقد حفظ الشعر تاريخ العرب وعاداتهم وتقاليدهم: في أفراحهم وأحزانهم ، في منشطهم ومكرههم، في سرائهم وضرائهمْ . فلا عجب أن يجعلوا الشعر مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا.
ومما يُرْوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة".
ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق ".
ويقول أبو فراس الحمداني:
الـشـعـرُ ديوانُ العربْ
لـمْ أعْـدُ فـيه مفاخري
ومُـقـطـعات .. رُبما..
لا فـي المديح ولا الهجا
أبـدا ، وعُـنوانُ الأدبْ
ومـديـحَ آبـائي النُّجُب
حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ..
ءِ ، ولا المجون ولا اللعب
**********
حقا – يا عزيزي القارئ– الشعر " ديوان العرب " . وقبل أن نصحبك إلى رحلة في ديوان العرب , نذكر هذه الطُّرفة اللطيفة : فقد روى أن رجلا أسرَّ إلى صديقه حديثا , وطلب منه كتمانه , وشدد عليه في ذلك . ثم سأله : أفهمت ؟ قال " بل جهلت ". ثم سأله " أحفظت ؟ قال "بل نسيت ".
والرجل يعني بإجابته هذه أنه على سر صاحبه حفيظ أمين.
إن هذه الطرفة اللطيفة تبرز لنا قيمة خلقية عظيمة , نفعها عميم , وفقدها أليم , ألا وهي كتمان السر . فلنصاحب" ديوان الشعر العربي " ؛ لنرى فيه مكان هذه الفضيلة ومنزلتها عند الشعراء .
إننا نلتقي – أول ما نلتقي – بالشاعر كعب بن سعد الغنوي فنراه لا يفخر بكتمانه لأسرار غيره فحسب , بل يفخر كذلك بأنه لا يسأل عن أسرار الآخرين:
ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتي = ولا أنا عن أسرارهم بسئول
ويقول قيس بن الخطيم:
أجـود بمكنون التلادِ وإنني
وإن ضيَّع الأقوام سرِّي فإنني
بـسرِّي عمن سائلي لضنينُ
كـتوم لأسرار العشير أمين
ويبالغ شاعر ثالث في كتمان السر مبالغة طريفة , في تصوير آسر, فيقول:
ومـسـتـودعي سرا كتمتُ مكانه
وخفت عليه من هوى النفس شهوة
عن الحِسِّ , خوفا أن ينُم به الحس
فـأودعته من حيث لا يبلغ الحس
وفي فلك الجو نفسه , يدور الشاعر جعفر بن عثمان , فيطرح الفكرة نفسها في صورة أطرف , ومبالغة أشد وأقوى , فيخاطب من أودعه سره قائلا:
يا ذا الذي أودعني سرهُ لا ترجُ أن تسمعه مني
لم أُجره قط على فِكرتي كأنه لم يَجرِ في أذني
والمعروف أن الخمر تذهب بالعقل , وتطلق اللسان ليبوح بما سكن الأعماق من الأسرار , ولكن المتنبي ينفي عن نفسه أن يكون واحدا من هؤلاء, فيقول:
وللسر مني موضع لا يناله نديم , ولا يفضي إليه شرابُ
**********
هذا وقد جاء في الأثر " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " وإذا كان كتمان السر مطلوبا في كل حال, فهو في شئون الحرب ضرورة الضرورات, وذلك في وضع خطط القتال, وتجييش الجيوش, وإعداد العدد, وتحديد لحظة الهجوم , أو ما يسمى بساعة الصفر وإن إفشاء سر واحد قد يقود إلى هزيمة نكراء . أما العمل في تكتم وسرية فهو ولا شك يقود إلى النصر المؤزر المبين, وخصوصا إذا صاحب هذا التخطيط المستمر عزم قاطع , وحزم لا يعرف التهاون .
إن أبا مسلم الخرساني قضى قضاء مبرما على الدولة الأموية في موقعة : " الزَّاب الأكبر " سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (132) , وهو يكشف عن سر نصره الحاسم في قوله:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزَت
مـا زلت أسعى عليهم في ديارهم
حـتـى ضربتهمُ بالسيف فانتبهوا
ومن رعى غنما في أرض مَسْبَعَةٍ
عـنه ملوك بني مروان إذ جهروا
والـقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
مـن نـومـة لم ينمها قبلهم أحدُ
ونـام عـنـها تولى رعيها الأسدُ
**********
عزيزي القارئ: يقول مثل هندي قديم " إن السر يمكن أن يكتم بين ثلاثة , بشرط أن يموت منهم اثنان " . ومعنى المثل : أن السر إذا باح به صاحبه لغيره , لم يعد سرا . وقد ألح " ديوان العرب " على هذا المعنى عشرات المرات : يقول الشاعر:
إذا الـمـرء أفـشـى سره بلسانه
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
ولام عـلـيـه غـيره فهْو أحمق
فـصدر الذي يُستودع السر أضيق
ويقول آخر :
إذا ما ضاق صدرك عن حديث
وإن عـاتبتُ من أفشى حديثي
وأفـشـته الرجال فمن تلوم؟
وسـري عـنـده فـأنا الملوم
**********
ومن جانب آخر , نجد ديوان العرب قد حفل بذم من يفشون أسرار غيرهم الذين ائتمنُوهم عليها :
يقول إسحق الموصلي :
أناس أمِنَّاهم فنمُّوا حديثنا فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا
ويقول لآخر :
وإنك كلما استُودِعت سرا أنَمُّ من النسيم على الرياض
**********
ونمضي في تقليب صفحات ديوان العرب , فنعثر في تضاعيفه على بعض الشعراء الذين يعلنون صراحة أنهم لن يكتموا السر , وأنهم يرفضون أن تكون صدورهم مستودعا لأسرار الآخرين . بل إن منهم من يتهم كاتمى الأسرار بنقص العقل والحماقة . يقول واحد من هؤلاء :
ولا تُودِع الأسرارأذني فإنما تصبَّن ماء في إناء مُثَلَّمِ
وقال آخر :
ولا أكـتم الأسرار , لكن أُذيعها
وإنَّ قـليلَ العقل من بات ليلة
ولا أدع الأسرار تعلو على قلبي
تـقلبه الأسرار جنبا إلى جنب
وبوح الشاعر بالسرهنا , ليس عن غدر أو خيانة أمانة, بل لأنه قدَّرَ أن حفظ السر عبء ثقيل على النفس والقلب , لا يُخلف إلا القلق والحيرة والسهاد, وهو لا يقوي على ذلك . إنها - على أية حال صراحة قد تكون محمودة عند كثيرين.
**********
عزيزي القارئ.. بعد هذه الرحلة القصيرة في "ديوان العرب" مع السر وكتمان السر , أعتقد أنك معنا : في أن حياة كل منا لها جانبان : جانب مكشوف معروف , يتمثل في مظاهر التعامل الاجتماعي , في مجالات العمل والعلم والدراسة والبيع والشراء .
وجانب خفي مستور , يتمثل في العلائق الأسرية والزوجية, وما تعلق بالصلح الخاص, وما كان في كتمانه حفظ أمانة , وإحقاق حق , وجلب نفع , دون إضرار بالآخرين .
وهذا الجانب الأخير يقتضينا أن نذكرك , ونذكر أنفسنا بقول عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – :
" القلوب أوعية , والشفاه أقفالها , والألسن مفاتيحها , فليحفظ كل إنسان مفتاح سره" .
والآن نتركك يا عزيزي االقارئ , على وعد باللقاء , في الأسبوع القادم – إن شاء الله – في حلقة جديدة من " ديوان العرب".
جابر قميحة
المراجع
islamweb.net
التصانيف
شعر شعراء أدب جابر قميحة كتمان السر ديوان العرب