فصل جديد، أو مأساة جديدة تضاف إلى سلسلة المآسي التي مرت بالأمة! ابتدأها التتار، ولم تنته بعد على أرض فلسطين وأفغانستان وفي صفحاتها مذبحة جنين، وهرات، والفلوجة، وحماة! لا يُنسي بَعضُها بَعضاً -كما يقول المكتوون بها- ولكنها تنكأ الجراح، وتبعث الألم في جسد الأمة المكلوم.
قد يكون العدو الجزار غريباً، ويفعل ما يفعل حسداً، عدواناً، استهانة، تخلفاً، همجية؟!!
أو قد يكون حاقداً موتوراً بين ظهراني الأمة، يترقب فرصة تغفل فيها عنه وعن واقعها! فينقض بأحقاده التي أصبحت مشروعاً، وبأحلام يقظته المتخلفة لتغدو منهج عمل مستقبلي؟! وهذا ما حدث في سوريا كلها، وفي حماة بالذات بعد أن تحول جيش الوطن الذي كان يحمي الحدود إلى أداة قمع وتدمير بيد الذي ترك الحدود وسلمها للعدو؟! يقول الدكتور الشاعر أحمد سليمان الأحمدي في قصيدة له بعنوان[1] (موثبة).
يـا جيشُ! حاشا أن تـبدَل سنةً
إني أُعـيذك أن تـروحَ معادياً
يا جيشُ، جزءٌ أنت من شعبي، و
الـغادرون بجيشـهم، وسَـجية
فَرُّوا نـَعاماً مـن صفيرِ عدوهم
أيـهددون عدوَّهـم وسـلاحُهم
* * *
* * *
* *
فتُسَبَ في تـاريخنـا وتُـعيَّرا
شعبَ البلاد، وأن تهادن قيصرا
ما شعبي سوى جيش أعز وأكبرا
في مَـنْ يروم تسلطاً أن يغدرا
وعلى الشقيق تراهمُ أسـدَ الشرى
في صدرنا؟! ذهِلَ الوغى وتحيَّرا
ويؤكد هذا المعنى الشاعر الكبير عمر أبو ريشة في قصيدته (عودة المغترب)[2]. وقد عاد -رحمه الله- إلى الوطن في كفن؟! وهاهو ذا يصف ذلك الانحراف الذي جعل البنادق توجه إلى صدر الشعب -وقد دفع ثمنها- بدلا من أن توجه إلى العدو المتربص، فغدا القاتل الذي ينفذ الأوامر قتيلاً؛ لأنه إنما يقتل أهله ومواطنيه.
أرأيتَ كيف اغتيلَ جيشُكَ وانطوت
وانفض مـوكبُ كلِّ نسرٍ لو رأى
* * *
بـالغدر رايةُ كـلِّ أروعَ أصيدا؟
لعُلاك وِرداً فـي النجوم لأوردا
وتثبت الوقائع والأيام فداحة الجريمة البشعة التي حطمت الجيش الأبي، وقد ذاق يهود منه الأمَّريْن، ليصبح -حاشاه- مجموعات وسرايا تنهب الآمنين وتهدر الكرامة، وقد تولى كِبر هذه الشناعة مَنْ ترك الحصون، وأمر بقتل العزل الأبرياء..
ويصور أبو ريشة بقافية تنزف دماً، وتسكب أدمعاً، إذ لم يكن هولاكو أقسى قلباً، وألأم عنصراً مما صنع هؤلاء بحماة؟ فإذا كان دجلة قد اصطبغ بالسواد لكثرة ما ألقي فيه من كتب فإن العاصي اصطبغ بالدم لكثرة ما ألقي فيه من جثث ضاقت بها المقابر وقد زادت على الثلاثين ألف ضحية؟!
ترك الحصونَ إلى العِدا متعثراً
سِـكِنُه فـي شـدقـه، ولعـابُه
مـا كان هـولاكو، ولا أشباهُه
هذي حَماةُ عروسة الوادي على
هـذا صلاحُ الدين يُخفي جُرحَه
سَرَواتُ دنـيا الفتح هانتْ عنده
ما عَفَّ عن قذف المعابد باللظى
كـم سُـجَّدٍ لله فاجَـأَهم، ومـا
عَرَفْـتُهم الـجُلىَّ أهِـلةَ غـارةٍ
* * *
* * *
* * *
* * *
*
بـفراره، وأتى الحمى مستأسـدا
يجري على ذكر الفريسة مُزْبـدا
بـأضلَّ أفئـدةً، وأقسـى أكبُـدا
كِـبرْ الحِداد، تُحيل طَرفاً أرمـدا
عنها، ويسأل: كيف جُرحُ أبي الفدا
وأصاب منها مـا أقـام وأقعـدا
فـتناثرت رِمَـماً، وأجَّتْ موقـدا
كـانوا لـغير الله يومـا سجـدا
وغزاةَ ميـدانٍ، وسـادة منتـدى
ويؤكد الدكتور سفر الحوالي في قصيدته المطولة (ملحمة الشام)3 ما أكده أحمد سليمان الأحمد وعمر أبو ريشة، من أن المذبحة وكل مذبحة تنزل الأمة تكون مقدمة لخيانة تتبعها، وهذا ما أثبته التاريخ فنكبة بغداد الأولى على يد التتار، سبقها خيانة ابن العلقمي والطوسي، ونكبة بغداد المعاصرة لم تكن عن هذا الأمر بعيدة.
سـودٌ خياناتهم، حمـرٌ جرائمـهم
فروُّا وهم في ذرا الجولان يا عجبا
وأعـلنوا أنـها في يومها سقـطت
فـالظالـمون لهم يوما سيفـجؤهم
تـاريخُـنا هـكذا حـيناً عمـالقةٌ
* * *
* * *
*
وحسـبُهم أنَّ إحـداها (حزيرانُ)
من اليهود، وهم في السهل ما بانوا
والساقـطون هـم الحكام إذ خانوا
إذا تَسـربَلـهم نـارٌ وقـطـران
غـرٌ، وحـيناً طواغِيتٌ وأوثـانُ
وأما شاعر الأقصى الأستاذ يوسف العظم4 فلا تذهله المأساة -على الرغم من جسامتها- ولا الجريمة- على الرغم من بشاعتها؛ لمِا يعرف عن المدينة من جهاد وتمسك بالحق ونصرة للعرب والمسلمين على مدار التاريخ. بل إنه ليبصر من خلال الركام ورائحة الموت شعاع نهوض، وفجراً مشرقاً! يقول في قصيدته (حماة يا أغرودة المجد):
أنـتِ فجرٌ لغد مستبشرِ
أنـتِ عنوانُ جِهادٍ خَطهُ
أنـتِ ترتيلة ُعِزٍ وهدى
أنتِ سيفُ الحق إذ تحمله
أنتِ خفاقٌ على هام العُلى
* * *
* * *
*
وشعاعٌ من ضِياء الحَرَمِ
شعبُكِ الحُرُّ بأزكى قلمِ
وشمـوخٍ وجهـادٍ مُلْهَمِ
راحةً المؤمن، كفُّ المسلمِ
في يد الحرِ كريمِ الشيمِ
ولكن يؤلمه أن أولئك الشهداء كانوا يعدون أنفسهم لقتال يهود ولتحرير فلسطين ونصرة أهلها، وقد فعلوا ذلك مرات:
إيهِ يا أبطال يا جندَ الهدى
وعَقَـدْتمُ صـفقة رابحة
سوف تمضون إلى بارئكم
* * *
*
كم بنيتم من صروح الكرم
ونـجوتم من عـذاب مؤلم
وتـدوسون جباه الأنـجم
وأما الباغي ولو ظن نفسه قوياً، وخدع الآخرين بقوة ظلمه، وتعاظم بطشه فإنه:
سـيُولي صاغراً مندحراً
كَفه خِزيٌ وعـارٌ مذ غدا
والغَدُ المُشرق يحكي للدنا
* * *
* * *
يتلاشى في ظـلام القِدمِ
فـي صَغارٍ ونهارٍ مظلمِ
ثورةَ الحقِ وغدر المجرمِ
وفي قصيدة (صرخة حماة) للشاعر خالد عبد الله السعيد5 يسترجع الشاعر صفحات التاريخ، فلا يجد مثيلاً للمذبحة فيستدعي فرسان الأمة بعد أن اهتزت أكفانهم في مضاجعهم.
من بطن حمص أرى المسلول منتفضا
ومن دمشق صلاح الدين ممتشق
وإن صرخت بصوت الغوث في حلب
***
***
***
فخالدٌ بجنود الحق يلتحق
سيفاً به زمرة الحشاش تختنق
أبو فراسٍ أتى كالـنجـم ينطلـق
وأما قصيدة محمد الحسناوي6 (كيف إن كانت وطن) فتنقل صورتين متضادتين للمدينة، الأولى:
مدينة لا كالمدن
أطيارهـا غادية
تغريدها تسبيحة
* * *
* * *
نهر وبستان أغن
رائحة عـلى فنن
لله في أسمى لحن
والأخرى:
أصبح قاعا صفصفا
مئذنة تهوي ومحرا
لما عراهـا عاصفٌ
* * *
* * *
* * *
ما كان معمور السكن
ـبٌ ينوحُ في الدِّمَنْ
وقاصف مـن المِحن
فأي يد آثمة تلك التي حولت جمالها قبحاً، وربيعها حزناً وخريفاً، فحماة مدينة الشعراء والعلماء والمجاهدين فهل يستطيع الطغاة أن يضربوا عليها غـُلالات الصمت لتصبح نسياً منسياً، كما فعلوا بمقابرها التي تحولت إلى ساحات، ومساجدها وأحيائها التي تكدست بين أنقاضها آلاف الجثث، لتصبح بعد ذلك فنادق سياحية؟!
ولكن هل انتهى كل شيء؟، وهل سيكون ليل الطغاة سرمداً؟! لا، فالظلم له نهاية والليل له آخر، ودم الشهداء لن يمضي هباء، ودين الله أقوى من كل طاغوت، وبذلك يختم الحسناوي قصيدته (حماة)
ثلاثـون ألفاً قضوا شهداء
فسورية العرب لا تستضام
* * *
* * *
غيارى، ونقضي بهم ما نشاء
وديـن مـحمد لـيس يسـاء
ولا ينسى وليد الأعظمي7 شاعر الإسلام الكبير ما حل بالمدينة وما تتصف به من غيرة وحمية، وهو يرثي أحد علمائها الأعلام بقصيدته (سكت الهزار) فيصف مصاب المدينة وما كانوا يخبئونه لها من قبل، وقد هاله ما سمع، وهي المدينة التي كان مُنشِدُوها يصدحون بأشعاره في نصرة الإسلام وإظهار محاسنه، فيخاطب الفقيد ومن ورائه المدينة المجاهدة:
وحَماة لا تنسى نِداك مُحذراً
وترُدُّ كيد المعتدين بنحرهم
أبناؤها الصيدُ الكرام تحملوا
فنساؤها اللبوات في ساح الوغى
عانوا من الأهوال كل فظيعة
في كل ناحيةٍ جريحٌ يلتوي
* * *
* * *
* * *
مما تخبئه الليالي السودُ
وتذبُّ عن أحسابها وتذودُ
فوق الذي حَمَلَ الكرام الصِّيدُ
ورجالها عند اللقاء أسودُ
منها تكاد الراسيات تميدُ
وشهيدةٌ مبرورةٌ وشهيدُ
وللدكتور الشاعر أحمد الخاني8، وهو أحد أبناء مدينة حماة ديوان بعنوان (لحن الجراح) يتغنى فيه بجمال مدينته ويؤكد على انتمائه لها، ويبث حزنها، ويشكو إلى الله تسلط الطغاة عليها وعلى سوريا.. ويذكرها ويتأوه من أجلها في أكثر من قصيدة، فهي رمز لكل مدينة حرة أبية!! يقول في قصيدته (حماة في العيد) يصور الحزن الذي عمها ويستذكر ما نزل بها:
جاءنا العيدُ فطرنا فَرحا
رُبَّ محراب به يبكي الفتى
جاءه الجزارُ في محرابه
* * *
*
وتذكَّرنـا فَعُـدنا تُرحَـا
خشية الرحمن، ماذا جرحا
نبّـآني، فلـمـاذا ذبـحا؟
ويضيف الشاعر عدنان علي رضا النحوي9إلى الجراحات التي ضمها ديوانه (جراح على الدرب)، جرحا جديداً في حماة بقصيدته المطولة (النواعير) وقد زادت على مئة بيت، يصف في أولها جمال المدينة، وتعرضها لهجمة الذئاب وأنياب الأفاعي في شباط 1982م، شهر المذبحة، فيستصرخ لديار الشام كل ذي مروءة ونخوة، فالنواعير غدت أطلالاً، والعمران أصبح مسكناً للأشباح، وآلات الحرب تسحق أكوام البشر.
تتلوى على أنـين الضحايا
والضحايا على الضحايا وأنقا
هاهنا لوعة الأمومة شدتْ
وبقايا النداء من فمها الداوي
* * *
* * *
*
والتياع وصـرخةٍ واضطراب
ضٌ طوَتها مخضبات الإرهاب
طفـلها بين صرخة واحتراب
صـداهُ يَغيبُ خلـف الهضاب
إن مصيبة حماة ومأساتها ذكرته بوطنه فلسطين الذي تعرضت مدنه لمثل هذا على يد يهود؟! فما الذي يجمع بين الجزارين على الرغم من عداوتهم المصطنعة وتهديداتهم الخرقاء والجوفاء! ما الذي يجمعهم سوى الحقد على الأمة. تاريخاً مشرقا،ً وإسلاماً منقذاً، وعروبة مضحية؟!!.
ويطلق الشاعر عبد المحسن حليت مسلـّم 10في قصيدته ( حماة ) صرخة مدوية وهو يرى ويسمع ما حل بالمدينة المجاهدة :
أكاد ألمح هولاكو فتتبعه عينـِي ، و من حوله الأحقاد ُ تنتشرُ
أراه يسفك ما الرحمن حرّمه من الدماء و لا يـُبقي و لا يذرُ
وأنتِ ما زلتِ تحت الهول جاثمة كأن عمرك بالأهوال ِيـُختصر
تستصرخين و ما في الساح معتصم ولا عزائم ُ إلا آدها الخَـوَرُ
ويبقى الشعر مؤرخاً لأحداث جسام في زمن بات الصدق في التاريخ حلماً عسير المنال، فبعد أنا يتلقى التاريخ ضربة التـزييف القاضية، لا غرو أن يفقد الذاكرة، أو يكره على تضليل ضحاياه من الأجيال اللاحقة كما جاء في التقديم لملحمة: نقوش على محاريب حماة ليحيى البشيري11 التي جاءت أنات ألم، وزفرات غضب، وصيحات جهاد فيها من الألم أصداء لشدو النواعير وحديث الشهداء، وفيها من الغضب عالم ينبض بالأحاسيس والمشاعر الفياضة، فضمت اثني عشر لوحة حزن وحملت عناوين تدل على فصول المأساة.
أي ذكرى يا ابنة العاصي
تمر أي ذكرى؟
ودمانا لم تزل تهديكِ عطرا
حملت للفتح بشرى
أطلعت للحق فجرا
وشباط الثأر عاد
حاملا جرحا ونار
ولهيبا ودمار
وللمأساة ألف صورة وصورة من خلال الهدم والحرق والقصف والقتل والسحل وانتهاك قدسية الأمومة، وبراءة الطفولة:
عندما يرتسم الحزنُ على وجه الطفولة
عندما تُذرف دمعات ٌعلى أم قتيله
عندما يبحث في الأنقاض عن ثديٍ رضيعُ
عندما يصرخ من جوع ، وآهات تضيع؟!
أي خير أيها العالم يبقى؟
أي خير بعدما يذوي الربيع؟
ويظل لكل مذبحة مسمى تعددها الملحمة، وتبرز آلامها (مذبحة الأحياء – مذبحة المآذن – مذبحة المؤذنين – مذبحة المقابر – مذبحة المعتقلات) فيبكي لها الأحياء، وأما في (الموتى يتكلمون) فيضج الأموات وقد طفحت المقابر بجثث ثلاثين ألفاً أو يزيدون من أبناء المدينة؟!
فبأي مكان يقبرهم
لم يبق مكان في الحفر
أيعود لينبش من دفنوا
من أيام، ليواريهم؟
فالتربة ضاقت بالجثث
وتكدس بالحفر الموتى
وينطوي الزمان وتمضي الأيام وتبقى حزازات النفوس كما هي، وقد أثخن الطواغيت واستنبتوا الهتافة المنافقين من كل لون وجنس، وغدت شام العروبة والإسلام وكراً للشعوبية الصفوية ترتع في حماها، وشعبها الأسير، بنخبه، بعلمائه مشرد مهجر، أو مكمم الأفواه، مغلول اليدين.
هوامش :
(1) شاعر سوري، نشرت قصيدة في نشرة النذير - العدد 96 / تاريخ 1/1/1987.
(2) شاعر سوري، أشارت إلى قصيدته المذكورة دراسة جامعية عنوانها: عمر أبو ريشة عاشق المجد.
(3) الدكتور سفر الحوالي : عالم و داعية سعودي ، نشرت الملحمة في موقعه .
(4) الشاعر يوسف العظم أردني : القصيدة في ديوانه ( عرائس الضياء) .
(5) خالد عبد الله السعيد : شاعر فلسطيني ، القصيدة في ديوانه ( كيف السبيل).
(6) محمد الحسناوي : شاعر سوري ، القصيدتان في رابطة أدباء الشام 2007
(7) وليد الأعظمي : شاعر عراقي ، الأعمال الشعرية الكاملة .
(8) أحمد الخاني ، شاعر سوري ، القصيدة في ديوانه : ( لحن الجراح).
(9) عدنان علي رضا النحوي : شاعر فلسطيني . ديوان : (جراح على الدرب).
(10) عبد المحسن حليت مسلـّم : شاعر سعودي ، القصيدة في ديوان ( مقاطع من الوجدان).
(11) يحيى البشيري : شاعر سوري ، ملحمة (نقوش على محاريب حماة).
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية