في حلّة بهيّة وطبعة أنيقة ظهر إلى النور ( ديوان البرجي )، لصاحبه محمّد المكي بن عزوز البرجي الطولقي( البسكري )، على يد كاتب مثابر وباحث دؤوب وجاد هو الأستاذ عبد الحليم صيد[i]، ليهدي إلى المكتبة الجزائريّة والعربيّة إضافة جديدة في عالم الشعر والإبداع ، ويستنقذ بذلك تراثا أدبيّا كاد يعفي عليه النسيان، وتطوي صفحته الأيّام.
جاء هذا الديوان – الصادر عن دار الخليل القاسمي للنشر والتوزيع وبدعم من وزارة الثقافة ( الجزائر ) – ليضيء جانبا هاما من حياة الشيخ محمّد المكيّ بن عزوز البرجي، الفقيه القاضي الأديب ، وليسعف الباحث الأدبي والتاريخيّ بمادة غنيّة وثريّة ؛ تكشف عن شخصيّة كبيرة وقامة عملاقة من قامات الجزائر الشاهدة على الفكر والأدب والتاريخ.
وقد قام الأستاذ عبد الحليم صيد بعمليّة بحث متميّزة وجادّة لجمع الدّيوان وإخراج قصائده إلى النور في شكل ممتاز، وهذا العمل هو أقرب ما يكون إلى عمل المحققين ، إذ جمع الدّيوان من مراجع كثيرة ومتنوّعة أبرزها المراجع التي بعث بها إليه الأستاذ علي الرّضا الحسيني من سوريا ، والسيّد محمّد فؤاد القاسمي الهاملي، كما رجع إلى عدّة باحثين وكتاب ألفوا عن هذه الشخصيّة أو ذكروها في كتبهم.
الدّيوان:
قدّم للديوان الأستاذ القاسمي بمقدّمة تعريفيّة عن الشيخ محمّد المكي بن عزوز البرجي وحياته، وقدم له أيضا الأستاذ الباحث عبد الحليم صيد بمقدّمة ضافية ذكر فيها حياته بمختلف مراحلها ، وتعرّض إلى نشاطه العلمي والفكري ، وذكر مؤلفاته التي تركها بشيء من التفصيل ، كما تحدّث عن جهوده في جمع الدّيوان وإعداده للطبع ، وخطته في ذلك، ومما جاء في تلك المقدّمة قوله:
" يتألف من تسع وخمسين ( 59 ) قصيدة وثماني مقطوعات شعريّة موزعة على ستة أقسام هي التصوّف والمدح والرثاء والإخوانيات والتقاريظ والمتفرقات والكلّ بمجموع ألفين وثلاثة وستين بيتا.."
ومن اللافت للانتباه أنّ الأستاذ عبد الحليم صيد قد قام بشرح بعض غريب ما جاء في الدّيوان من ألفاظ ، والإشارة إلى ما تضمنته الأبيات من معاني قرآنيّة أو أحاديث نبويّة وأمثلة وحكم عربيّة.
وقام أيضا بعمل متميّز وهو إيراد ترجمات موجزة لكثير من الأعلام والشخصيّات التي ذكرت في قصائد الديوان، بالإضافة إلى ذلك ضبط بحور القصائد، بمساعدة الأستاذ عبد المجيد زكري ( أستاذ الأدب العربي ).
عمل جاد ومميّز:
عندما نظرت في النسخة التي أهدانيها صديقنا الأستاذ عبد الحليم صيد ، وجدت عملا رائعا يتطلب جهدا خاصا وعناية فائقة بغير شك، لاسيما في جمع القصائد من مصادرها المختلفة ، وتحقيق أبياتها ومقارنة بعضها ببعض.
قصائد الديوان:
الناظر في قصائد الديوان لا تخطئه النفحة الصوفيّة التي تضمخ جلّ قصائده، ولعلّ ذلك يرجع إلى الفترة التاريخيّة والبيئة الثقافيّة التي نشأ وترعرع فيها الشاعر ، وقضى جلّ حياته.
وقد تثير بعض قصائد الديوان لغطا كبيرا وجدلا حادّا ؛ حول التوسّل والاستغاثة بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، وهي قضيّة قديمة طالما تصارع حولها العلماء والباحثون، ولا فائدة من إثارتها مجددا في هذه الكلمات المقتضبة.
ولكي نضع القارئ في صورة مقرّبة إلى الديوان ، نعرض لبعض قصائده بشيء من البسط والتحليل السريع ، ولتكن البداية من القصائد التي طغت على جلّ صفحات الديوان وهي:
الصوفيات:
وهي القصائد التي وردت في قسم التصوّف والذي احتوى ثلاث عشرة قصيدة ، نذكر منها قصيدة بعنوان ( البائيّة في مناقب محمّد بن أبي القاسم ) ويقول في مطلعها:
عج بحيّ بـدره قلـب سبـا    وبخدر العز عنّي احتجبا
وابثث الشكوى لرحماه عسى     نظرة منه تزيح الوصبـا
سنة الله على العشاق مــا      عاشق نبـغ إلا عـذّب
لو يعير الحبّ سمعا ما ترى      مغرما بين الرّبوع انتحبا
ويواصل حديثه عن العشق والهيام لا في امرأة وجمالها ، ولكن في ممدوحه الشيخ محمّد بن أبي القاسم ، الذي يمتدّ نسبه إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذلك ما يتجلّى في قول الشاعر:
الشريف بن أبي القاسم من     ضئضئ الزهراء أمّا وأبا
مجمع البحرين جا بينهما       برزخ لا يبغيان فاصطخبا
فهو يجمع النسب إلى الزهراء من جهتيه ، جهة الأب والأمّ ، وهو نسب بلا شك عريق وشريف يقال عنه فيه أنّه( معمّ ومخول )، ولكن ما علاقة المدح بالتصوّف؟ لأنّ هذه القصيدة مصنفة في قسم التصوّف .. إنّه الممدوح ذاته إذ يعدّه الشاعر من أقطاب التصوّف ورجال الطريق العاريفين أصحاب الكشوف ، ومما يقوله فيه:
من يرد دينا يجده أو يرد     مأرب العاجل يحوي المأربا
مثل ما زمزم من ينوي به    مقصدا تمّ له إذ شربا
إلى أن يقول:
إن مدحنا العارفين انبسطوا   لشهود الحق حمدا أعربا
فهو يعتبره من العارفين بالله الذين تكشف لهم حجب المعرفة والعلم.[ii]
أمّا من قسم المديح فنأخذ قصيدة منه القصيدة التي يستهلّ بها القسم والموسومة بـ ( العناية بالمولد الشريف )، ولقد جرت العادة أن يكون ذكر الأموات رثاء وبكاء ، أمّا في ما يتعلق بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم فهو مديح وثناء كأنّه بيننا حيّ يرزق، بل هو كذلك أو ليس الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى:
( ورفعنا لك ذكرك ) وقال ( إنّا شانئك هو الأبتر )، فحق لكل شاعر أن يلهج لسانه بالمدح وقريظه بالثناء ، وهو يستفتح هذه القصيدة بقوله:
أهلا بطلعة محبوب لنا زارا     إقباله أكسب الأحزان إدبارا
أماط كرب النّوى لو دام مقتربا     لما رأينا من الأيّام أكدارا
ويتحدّث عن مقدّمات المولد النبوي وتفاصيله، ثمّ يذكر اليوم الذي ولد فيه وما وقع فيه من حوادث خارقة ومعجزات مدهشة ، حيث يقول عن ذلك:
أما ولادة خير المرسلين بدت     فيها عجائب منها الّلب قد حارا
ومن هذه الخوارق يذكر انشقاق إيوان كسرى وسقوط شرفاته ، وغيضان بحيرة ساوة وخمود نيران كسرى ..ثمّ يعرّج على مدح الشهر الذي ولد فيه النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيخصّه بالمدح والثناء.
وفي قصيدة ثانية يمدح بها هذا الشهر العظيم شهر المولد النبوي عنوانها ( في ذكرى مولد النبيّ صلى الله عليه وسلّم ) يقول في مبتدئها:
يكفيك فخرا يا شهر ربيع الأوّل     وسنى وإسعادا وعزا يكمل
ميلاد طه المصطفى المسرى به     في جحفل يا حبّذاك الجحفل
لو كنت تحصر يا ربيع بموضع     لسعت إليك جباهنا لا الأرجل
وهذه ميزة مشتركة عند الصوفيّة عموما حيث يعطون أهميّة غير عاديّة للمولد النبوي الشريف، وربما يظهر منهم فيها كثير مما يؤاخذهم عليه غيرهم ، ويعتبرونه حيد عن الجادّة وغلوّ في إظهار المحبّة قد يوقع في شراك الشرك.
وفي قصيدة يدافع بها عن نسب الشيخ عبد القادر الجيلاني بعنوان ( الرّد على علي بن محمّد القرماني )، والذي يشكك في نسب الشيخ الجيلاني يقول في مقدمتها:
عجبت لذي احتجاج بالمحال     يحاول خفض سادات الرجال
ومن خذلانه والغيّ يعمي    يؤمل فصم نسبة خير آل
بتلفيق وبهتان وزور        فآذى أهل حضرة من ذي الجلال
وفي الإيذاء إيذان بحرب    نعوذ بربنا من ذي الخبال.
وهي قصيدة جيّدة تسفر عن حبّه الشديد لآل البيت، ونفاحه عنهم والتصدّي لكل من يخطر بباله الإساءة إليهم والتعريض بنسبهم.
وفي قصيدة يمدح بها الشيخ محمّد بن أبي القاسم الهاملي، تبين عن قوّة عارضته الشعريّة وأسلوبه المتين الذي لا يبعد كثيرا في ألفاظه ومعانيه عن الشعراء الجاهليين ومن تأسى بهم من شعراء العصر الأموي وبداية العصر العبّاسي، يقول في هذه القصيدة:
أحث وفي الحشا شوق أليم     ضوامر ليس يعييها الرّسيم
أشق بها الفدافد في ظلام      وهل ينشق من وخد ظليم
وما صدّ العتاق ولا ذويها     هجير منه يسودّ الأديم
وما لفح السّموم لمن ترجى    وصال حبيبه إلا نسيم 
هي مقدّمة قويّة لو لم يعرف المرء صاحبها لقال أنّها قيلت في العصر الجاهلي أو الأموي، وهي أيضا تذكرنا بقصائد أحمد شوقي وشعراء بداية عصر النهضة، إلى أن يخلص إلى مدح الشيخ فيقول:
أروم لقاء من أحيا المعالي    فكان له بها المجد المقيم
علوما زاخرات لا تجارى    عن الأعلام مسندها فخيم
ومعظم قصائد الديوان على هذه الشاكلة ، قوّة لفظ وفخامة معنى ، وصور بيانيّة بديعة تدلّ على تمكن من الشعر وموهبة فذة ، لم تعط حظها من الدّراسة والشرح ولو تتبعناها كلّها لأغرتنا بالتطويل وكثرة التنقيب والتحليل وذاك ما يعجز عنه المقام والحال ، فنكتفي بهذا عسى أن نبلغ به التعريف والتنويه ورحم من كتب اسمه في سجلّ الخالدين بمثل عطاء الشيخ محمّد بن المكي بن عزوز، ورحم من جمع ونشر الدّيوان وأفاد به العالمين.
                 
[i] - الأستاذ عبد الحليم صيد أستاذ في اللغة العربية ، باحث في التاريخ ومهتم بالدّراسات الحديثيّة ، له عدّة أبحاث وكتب ودراسات مطبوعة ومخطوطة، له اشتغال بالصحافة والإعلام ، منتج إذاعي متعاون.
 [ii]- يعلق الناشر على هذا المعنى في الهامش بنقل كلام ابن عطاء الله السكندري في حكمه:
( الزهاد إذا مدحوا انقبضوا لشهودهم الثناء من الخلق، والعارفون إذا مدحوا انبسطوا لشهودهم ذلك من الملك الحق ).
وأنا أنقل هذا الكلام بتحفظ شديد لأنّ لي فيه رأيا يخالف الناشر الفاضل. وأمسك عنه الآن لأنّ المقام لا يناسب ذكره. ( عبد الله لالي ).
 

المراجع

elauresnews.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع