بسم الله الرحمن الرحيم
توطئه
إنّ علم البلاغة من العلوم التي بسطها لنا القدماء بسطاً وافياً وتوسعوا في بيانها، لأنها خرجت من رحم الاهتمام بكتاب الله المحكم السبك، الدقيق العبارة، الرصين الأسلوب، الذي يأخذ بعضه برقاب بعض، فمن خلالها نعرف إعجاز ذلك الكتاب الذي تحدى أساطين الفصاحة وأعجز جهابذتهم وفحولهم بأن يأتوا بسورة على شاكلته تسترق الأسماع، وتستعبد الإفهام، الأمر الذي جعل المتكبر الجاحد، وصاحب الصلف العاتي الوليد بن المغيرة، يقر في خنوع ويقسم بأن لكلامه حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمورق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما هو بقول للبشر. نعم إن دراسة البلاغة تمكننا من فهم هذا الكتاب الذي تنزه من شوائب اللبس، وأكدار الشبهات، وتعيننا على إدراك ما فيه من خصائص البيان، وتخبرنا عن سر متانته التي جعلته يستطيل عن الهدم ويتعمق على الاجتثاث، ولجليل خطرها، وعظيم منزلتها اتجهت همم أرباب الاجتهاد، وجهابذة أهل النظر في مختلف العصور والأزمنة إلي التأليف فيها، وإماطة اللثام عن مغازيها ومراميها، فتعددت نزعاتهم، وتباينت مذاهبهم وآراؤهم كما سنرى في هذا البحث الذي أوازن فيه بين عالمين مجيدين تمكنا من ناصية اللغة وبرعا في تأليف كتب استوعبت علم البلاغة وأحاطت بفروعه.
أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني:
المنهج والإطار:
لعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أنّ البلاغة بلغت أوج عظمتها في عهد من أربى على الأكفاء، وتميز عن النظراء، العالم الثبت أبا بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ والذي "نظر ميمنة ويسرة فلم يجد من مسائل هذه الفنون إلا نتفاً مبعثرة لا تسمن ولا تغني من جوع فشمر عن ساعد الجد، وجمع متفرقاتها، وأقام بناءها على أسس متينة،
وركز دعائمها على أرض جدد لا تنهار، وأملى من القواعد ما شاء الله أن يملي في كتابيه ((أسرار البلاغة)) و((دلائل الإعجاز)) وأحكم بنيانها بضرب الأمثلة والشواهد، حتى أناف بها على اليفاع، وقرن فيهما بين العلم والعمل، إذ رأى أن مسائل الفنون لا يستقر لها قرار إلا بكثرة الأمثلة والنماذج، فالصور الإجمالية التي تؤخذ من القواعد، إن لم تؤيدها الصور التفصيلية التي تستفاد من النماذج، لا تتمثل في الأذهان حق التمثل، ولا تنجلي حقيقتها تمام الانجلاء".[1]
ولعل هذه الأمثلة التي تخلق نوع من التجانس والألفة بين الفنون والشواهد تبين مدى فحولة هذا القطب في التفكير فالطريقة التي ابتدعها لم يتم ترويضها أو استئناسها من قبل وما خلفه من تراث علمي، ونتاج أدبي يدل على سعة ثقافته وخصوبة فكره كما يدل على أنه بصير بمذاهب الكلام، عارف بمطارح الإساءة والإحسان . ولقد ذاعت شهرته في التأليف وسارت مؤلفاته في كل صقع وواد وأجبرّ كتاب الطبقات والتراجم أن يكثروا من ذكر أسمه في مصنفاتهم ويطنبوا في وصفه بالذكاء والنبوغ ورهافة الحس ولطافة التخيل. ولقد استمد الجرجاني أجرى الكُتّاب قريحة أيدلوجيته من التراث الإسلامي و"استعان في دراسته البلاغية بما كتب في النقد والبلاغة والإعجاز قبله. يمده بالجديد فيها ذوق مثقف، وحس لغوي دقيق، وقد قرأ الكثير من دواوين الشعر، وعكف على التراث الثقافي قبله، وهضمه وتمثله، وانعكس ذلك واضحاً على ما كتبه...كما قد تأثر عبد القاهر في بعض نواحي تفكيره البلاغي والنقدي بالثقافة الإغريقية ولا سيما بحوث أرسطو ".[2] فلقد ترجم كتاب الخطابة وكتاب الشعر لأرسطو إلي العربية الأول في القرن الثالث الهجري، والآخر في القرن الرابع.
ويعتبر كتاب عبد القاهر الجرجاني ((أسرار البلاغة)) أول محاولة جادة ترمي للتمييز بين أقسام البلاغة وفروعها حيث نجد أن مؤلفه المتفنن في ضروب الخطاب قد قام بدراسة موضوعاتها دراسة وافية متأنية مكنته من اقتناص هذا الجنس من العلم فلقد انسجم سمتها وكشف لنا عن بهرجها وزينتها بيراعه المفطور على الإبداع والذي جمع ما شتّ من بعيدها وطرح الواغش عن صورتها، "فالإمام عبد القاهر لم يؤلف كتاب ((أسرار البلاغة)) لغرض ديني أو مسألة تتعلق بإعجاز القرآن، وإنما ألفه لغاية بلاغية، ووضع الأصول والقوانين، وبيان الأقسام، وذكر الفروق بين العبارات والفنون البيانية. وقد وفق الإمام عبد القاهر في إبراز الجودة الأدبية التي تأثر بصورها البيانية في نفس متذوقها، و لذلك نجده قد أوغل في الصور البيانية من تشبيه واستعارة ومجاز أيّما تفصيل، ولم يغفل الحديث عن الجناس والسجع والطباق، وقد ذكرها لبيان مزيتها وحسنها عندما يطلبها المعنى".[3]
ويبدو أن الإمام عبدالقاهر قد أقدم على تأليف ((أسرار البلاغة)) بعد تأليفه لكتاب ((دلائل الإعجاز)) الذي سما إلي العلياء، وناطح الجوزاء شكلاً ومضموناً والذي نشأ وترعرع تحت كنف القرآن، والذي دوّن فيه نظريته عن النظم، ساطعاً فيه بأن إعجاز القرآن الكريم يكمن في نظمه وليس في فصاحته، وكان المنهج الذي اتخذه في تأليف ((الدلائل)) هو"أن يكرر ويعيد الحديث عن النظم، ويكثر من الأمثلة والشرح ليقرب الفكرة ويقنع بها الناس مع ذكر الدليل تلو الدليل في وضوح لإثبات أنّ القرآن معجز في نفسه، وأنه معجز في كل زمان ومكان، ويناقش مذهب القائلين بالصرفة ويبطل حججهم بالأدلة العقلية والنقلية من القرآن الكريم والشعر الرصين".[4] أما كتابه((أسرار البلاغة)) فهو "بحث خالص في موضوعات علم البيان، بالإضافة إلي بعض ألوان من البديع هي:الجناس والسجع والطباق. وعلى الرغم من أنّ هذه المباحث قد شهدت تطوراً ملحوظاً على يد عبد القاهر إلا أنّ تقسيم البلاغة إلي علوم ثلاثة:المعاني والبيان والبديع لم يكن قد استقر حتى عصر عبد القاهر. ولعل الأمر الذي دفع المتأخرين من علماء البلاغة إلي تسمية العلم الذي يبث في هذه الفنون البلاغية بهذا الاسم:علم البيان، أن عبدالقاهر الجرجاني قد أشار في مقدمة كتابه إلي البيان الذي ميز الله به الإنسان من سائر الحيوان وهو قوله تعالى:{الرحمن،علّم القرآن خلق الإنسان،علمّه البيان}الرحمن:1-4. ويمكن إجمال الموضوعات التي تطرق إليها الجرجاني في كتابه ((أسرار البلاغة)) في ثلاث موضوعات: أولاً: حديث عن اللفظ والمعنى وتأكيد على أهمية المعنى في الكلام (التأليف) وأن الجودة فيه مردها إلي المعنى دون اللفظ، وعلى هذا فإن ألوان البديع والبيان كالتجنيس والسجع والطباق والاستعارة إنما يعود الحسن فيها إلي المعنى دون اللفظ.
ثانياً:حديث عن التشبيه والتمثيل والاستعارة مميزاً بين حد كل منها والفروق التي تميز بين معاني هذه الألوان البيانية.
ثالثاً:حديث عن الحقيقة والمجاز بنوعيه:اللغوي والعقلي ومحاولة للتمييز بين مفهوم كل نوع منهما، إلي حديث مختصر عن السرقات الشعرية".[5]
حديث عبد القاهر عن التشبيه وأقسامه:
نجد أن علماء اللغة قد اجتمعت كلمتهم، واتحدت وجهتهم على أن التشبيه والتمثيل هما وجهان لعملة واحدة وان "الشّبه والشّبيه كالمِثْلِ والمَثلِ والمثَيل وزناً ومعنى، وأن أشبهه وشابهه بمعنى ماثله فهما متفقان معنى ولا فرق بينهما. أما علماء البيان:فقد اتفقت كلمتهم على أن التشبيه أعمّ من التمثيل فكل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلاً".[6] وقبل أن يشرع الجرجاني في تعريف التشبيه يقسمه إلي ضربين:أحدهما "أن يكون من جهة أمر بين لا يحتاج فيه إلي تأول. والآخر:أن يكون الشبه محصلاً بضرب من التأول".[7] فالضرب الأول هو التشبيه غير التمثيلي الذي لا يحوج النفس إلي إعمال للذهن وكدّ للفكر لأنه واضحٌ وبينٌ فالمشبه يشارك المشبه به في الصفات والسكنات سواء كان وجه الشبه حسياً أو عقلياً، التشبيه الحسي يكون "نحو أن يشبه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه وبالحلقة في وجه آخر. وكالتشبيه من جهة اللون كتشبيه الخدود بالورد، والشعر بالليل، والوجه بالنهار. وتشبيه سقط النار بعين الديك، وما جرى في هذا الطريق".[8] أو جمع الصورة واللون كقول قيس بن الخطيم أو أبي قيس بن الأسلت مشبهاً الثريا التي تتهادى في صفحة السماء الأدهم بعنقود الكرم:
وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى كنعقود مُلاَحية حين نوّرا
فوجه الشبه يتركب من اللون والشكل فهو عباره عن اجتماع مجموعة من حبيبات الأجرام الصغيرة البيضاء التي تحلقت في صفحة تضج ألقاً وبهاءاً تشابه عنقود العنب الأبيض الطويل حينما يشع في الظلام الدامس.
أما التشبيه من جهة الهيئة فيدخل فيه "حال الحركات في أجسامها، كتشبيه الذاهب على الاستقامة بالسهم السديد، وكذلك كل تشبيه يجمع بين شيئين مما يدخل تحت الحواس، كتشبيه بعض الأصوات ببعض، مثل تشبيه أطيط الرجل بأصوات الفراريج، كقول ذي الرمة أبي الحارث:
كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس إنقاض الفراريج
يريد الشاعر أن بعض الرحل يحك بعضه، فيحصل صوت شبيه بصوت صغار الدجاج من شدة السير، واضطراب الرحل، ووجه الشبه، الاشتراك في النغمة الخاصة".[9] ومن صور هذا الصنف من التشبيه تشبيه الفواكة الحلوة المذاق بالعسل أو السكر، وتشبيه الشيء اللدن الناعم بالخز، والخشن الغليظ الملمس بالمسح وهو ثوب الشعر الجاف، أو تشبيه رائحة بعض الورود والرياحين برائحة الكافور.
أما التشبيه العقلي فهو التشبيه الذي ينعقد من جهة الغريزة والطباع"كتشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة والذئب في النكر. والأخلاق كلها تدخل في الغريزة نحو السخاء والكرم واللؤم. وكذلك تشبيه الرجل بالرجل في الشدة والقوة وما يتصل بها.
فالشبه في هذا كله بّين لا يجري فيه التأول ولا يفترق إليه في تحصيله، وأي تأول يجري في مشابهة الخد للورد في الحمرة وأنت تراها ههنا كما تراها هناك؟ وكذلك تعلم الشجاعة في الأسد كما تعلمها في الرجل".[10]
أما الضرب الثاني : وهو تشبيه التمثيل الذي يحتاج إلي تشحيذ الذهن وإعمال للفكر لأنه ليس بيناً بنفسه بل يتطلب تحصيله لضرب من التأويل والعلة في ذلك أن المشبه لم يشارك المشبه به في الصفات، وذلك "الضرب يتحقق فيما إذا كان الوجه ليس حسياً، ولا من الغرائز والأخلاق والطباع العقلية الحقيقية، ولكنه يكون عقلياً غير حقيقي، سواء أكان مفرداً أم مركباً أي غير متقرر في ذات الموصوف".[11] كقولك هذه حجة كالشمس في الظهور، أي حجة واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا ينكرها إلا من يكون بينه وبينها غشاوة أو حجاب، فالحجة المفحمة الدامغة لا يغالي في نكرانها إلا من هو"مدخول في عقله أو جاحد مباهت ومسرف في العناد، كما أن الشمس الطالعة لا يشك فيها ذو بصر ولا ينكرها إلا من لا عذر له في إنكاره. فقد احتجت في تحصيل الشبه الذي أثبته بين الحجة والشمس إلي مثل هذا التأول كما ترى".[12]
وتشبيه التمثيل يتفاوت تفاوت شديداً على حد وصف الإمام عبد القاهر فمنه ما يحتاج فيه إلي قدر من التأمل، ومنه ما يدق ويغمض حتى يحتاج في استخراجه إلي فضل رويّة ولطف فكرة.
ثم يعود عبد القاهر أدراجه إلي التشبيه والتمثيل ويقرر حقيقة مفادها أن التشبيه عام والتمثيل أخص منه، فكل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلاً، ويذكر علة هذا الانقسام مبيناً أن الاشتراك في الصفة التشبيه يقع مرة في نفسها وحقيقة جنسها، ومرة في حكم لها ومقتضى،"فالخد يشارك الورد في الحمرة نفسها، ويجدها في الموضعين بحقيقتها، واللفظ يشارك العسل في الحلاوة لا من حيث جنسه بل من جهة حكم وأمر يقتضيه، وهو ما يجده الذائق في نفسه من اللذة، والحالة التي تحصل في النفس إذا صادفت بحاسة الذوق ما يميل إليه الطبع ويقع منه بالموافقة".[13]
ومن مجموع ما ساق من أمثلة وما استدل من شواهد بانت حصاته المتقدة وعبقريته التي لا يغالي فيها أحد حينما فصّل القول في التشبيه العقلي الذي ينتزع من عدة أمور يجمع بعضها إلي بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه فيكون سبيله سبيل الشيئين يمزج أحدهما بالآخر حتى تحدث صورة غير ما كان لها في حالة الإفراد لا سبيل الشيئين يُجمع بينهما وتحفظ صورتهما. ومثال ذلك هو قوله عز وجل:{مثلُ الذين حُمِّلُا التوراة ثُمَّ لم يحمِلُوها كمثل الحمار يحمل أسفارا}الجمعة:5. فالشبه"منتزع من أحوال الحمار وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم، ومستودع ثمر العقول،ثم لا يحس بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدلالة عليه بسبيل، فليس له مما يحمل حظ سوى أنه يثقل عليه، ويكد جبينه، فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعة ونتيجة لأشياء ألفت وقرن بعضها إلي بعض".[14] ثم ينتقل بعد ذلك الإمام المفوه العبارة الرشيق الأسلوب للحديث عن التشبيه المعقود على أمرين مثل قولهم (هو يصفو ويكدر) و(يمر ويحلو) و(يشج ويأسو) و(يسرج ويلجم) مفنداً أن تكون أي واحدة من هذه الصفات ممتزجة بالأخرى. ثم يعود عبد القاهر للحديث عن الفوارق التي تتمثل بين التشبيه وبين التمثيل، "فيرى أن المثل الحقيقي والتشبيه-الذي هو الأولى بأن يسمى تمثيلاً لبعده عن التشبيه الظاهر الصريح ما تجده لا يحصل لك إلا من جملة من الكلام أو جملتين أو أكثر، حتى إن التشبيه كلما كان أوغل في كونه عقلياً محضاً كانت الحاجة إلي الجملة أكثر، وقد فرّق بين التمثيل-الذي وجه الشبه فيه منتزع من مجموع الجمل من غير فصل بينها ودون إمكانية تحقق هذا الفصل-وبين التشبيه المتعدد ، كقول المرقش الأكبر:
النّشْرُ مِسْكٌ والوجوُه دنانيرٌ وأطراف الأكفُ عَنَمْ
فالبيت يشتمل على تشبيهات متوالية يمكن الفصل بينها وليس على تشبيه مركب ينتزع وجه الشبه فيه من عدة أمور كما هو الحال في التمثيل".[15] ويقرر عبد القاهر الجرجاني في ثنايا حديثه عن التشبيه حقيقة تلقفها أعلام البلاغة من بعده أن التشبيه إذا جاء من غير جنس المشبه وجاء غريباً نادراً كان ذلك ألطف معنى وأحسن وقعاً في النفس، كما يرى أن التباعد بين الشيئين اللذين يتألف منهما طرفا التشبيه كلما كان أشدّ كان إلي النفوس أعجب، وكانت النفوس له أشدّ طرباً، ويعلل لذلك بقوله:"إن الأشياء المشتركة في الجنس المتفقة في النوع تستغنى بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبيته فيها، وإنما الصنعة والحذق، والنظر الذي يلطف ويدق في أن يجمع أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة".[16] بيد أنه اشترط لذلك شرطاً وهو:"أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهاً صحيحاً معقولاً، وتجد للملائمة والتأليف السوي بينهما مذهباً وإليهما سبيلاً، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك، من حيث العقل والحدس، وفي وضوح اختلافهما من حيث العين والحس".[17] وعبد القاهر الجرجاني الذي تفجرت حصاته بأذكى حس وأرجح بصيرة والذي أسعفته قريحته الجياشة لإيراد كل تلك الشواهد التي يفوق عددها الإحصاء، نجده قي سياق حديثه عن التشبيه وضروبه قد تطرق للتشبيه الخفي وقضية الإجمال والتفصيل في التشبيه والتمثيل فيذكر أن الجملة أسبق إلي النفوس من التفصيل،ثم يتحدث عن التشبيه المركب وهو ما يكثر فيه التفصيل، وذلك إذا كان التشبيه مركباً من شيئين أو أكثر موضحاً أنه ينقسم إلي قسمين:
أحدهما:"أن يكون شيئاً بقره المشبه ويضعه ولا يكون. ومثال ذلك النرجس(بمداهن دُرّ حشْوهُن عقيق) وتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرت على رماح من زبرجد، لأنك في هذا النحو تحصل الشبه بين شيئين تقدر اجتماعهما على وجه مخصوص وبشرط معلوم
وثانيهما:أن تعتبر في التشبيه هيئة تحصل من اقتران شيئين ذلك الاقتران مما يوجد ويكون، ومثاله قوله
غَداَ والصُبحُ تحت الليل بادِ كطْرفِ أشْهب مُلقَى الجلالِ
قصد الشبه الحاصل لك إذا نظرت إلي الصبح والليل جميعاً، وتأملت حالهما معاً، وأراد أن يأتي بنظير للهيئة المشاهدة من مقارنة أحدهما بالآخر، ولم يرد أن يشبه الصبح على الانفراد والليل على الانفراد".[18] ثم يعقد فصلاً بعد ذلك يوفي فيه الحديث عن الاستعارة ومفهوم التمثيل موضحاً أن الاستعارة حدها يتمثل في أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي ثم ينقل عن ذلك الأصل على الشرط المذكور. وهذا الحد لا يجئ من معنى التمثيل من أنه الأصل في كونه مثلاً وتمثيلاً هو التشبيه المنتزع من مجموع أمور والذي لا يحصل إلا في جملة من الكلام أو أكثر. كما أن الاستعارة تقوم على التشبيه المقصود به المبالغة، ومن الفوارق بين الاستعارة والتمثيل أن المستعير يعمد إلي نقل اللفظ عن أصله في اللغة إلي غيره ويجوز به مكانه الأصلي إلي مكان آخر لأجل الأغراض المذكورة من التشبيه والمبالغة والاختصار، والضارب للمثل لا يفعل ذلك ولا يقصده ولكنه يقصد تقرير الشبه بين الشيئين. ثم إن الاستعارة من المجاز أما التشبيه فيدخل في الحقيقة لأن له حروفاً وأسماءً وأفعالاً تدل عليه فإذا صُرْح بذكر ما هو موضوع للدلالة عليه كان الكلام حقيقة. كما أن الاستعارة تقوم على معنى الادعاء فأنت تدعّي معنى اللفظ المستعار للمستعار له والمثل لا يوجب فيه مثل هذا فلا هو يقتضي تردد اللفظ بين احتمال شيئين ولا أن يُدْعي معناه للشيء ولكنه يدع اللفظ مستقراً على أصله".[19]
ثم يمضي الإمام بعد هذا الشرح المسهب والاستدلال البديع للحديث عن السرقات مقسماً قبل الخوض عنها المعاني إلي قسمين قسماً عقلياً والآخر تخيلياً ...وهكذا يمضي عالمنا القوي العارضة في شرحه لهذا المبحث الذي أتحفنا فيه بسعة عقله الوهاج، وعصارة جهده التي صاغت له أكاليل المجد وكفلت له بأن يدوي اسمه في مجالس العلم ويتلألأ في قلائد النور.
علوم البلاغة للمراغي:
المرحوم الدكتور أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة واللغة بكلية دار العلوم، صاحب التفسير العذب المورد، والتصانيف الجامعة لشتيت الفوائد، سجلّ لنا يراعه ذلك الحسن الباهر التي تطالعه العيون وتنبهر منه الأفئدة‘ فسفره الذي لم يترك فيه بيتاً نادراً، ولا مثلاً سائراً، ولا شعراً جزلاً، ولا نثراً فاخراً، إلا حواه واستدل به في مؤلفه العظيم الفائدة، الجم النفع، والمرحوم المراغي استرخى في يده عنان القلم لأنه امتلك ناصية اللغة، وهيمن فؤاده الذكي على ضروب العلم وأصناف المعرفة التي جُبِلّ على فطرتها وتحرك في إطارها وسخر لها عمره كاشفاً لغوامضها، ومقرراً لعلومها، فتعلق بفنائه كل طالب، واستظل بفيئه كل عالم.
منهجه في تأليف كتابه:
ذكر المرحوم المراغي سقى الله قبره الغر الغوادي وأناخت حول رمسه شآبيب الرحمة، ديدنه في تأليف كتابه، موضحاً أنه اعتمد طريقة المتقدمين التي تتوسع في الشرح والبيان وتكثر من الأمثلة والشواهد، والغاية من ذلك هي"أن تستبين للقارئ خصائص البلاغة مرموقة محسوسة، ولطائف الكلام مجسمة ملموسة، ويسهل تطبيق العلم على العمل، والإجمال على التفصيل، وذلك أمثل الطرق، لبنائه على قواعد علم النفس، من تعويد الناظر الركون إلي الوجدان والحس، وطريق المتأخرين من حسن الترتيب والتبويب، وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون، ليكون أنجع في الدرس، وأقرب إلي التناول".[20]
ولعل من يطالع كتاب المراغي لوهلة خاطفة يرى سلاسة الفظ، ووضوح العبارة، ورشاقة المعنى، ويستقر في روعه أن مبدع ذلك السفر الجزيل المباحث متكئاً على سليقة عربية صرفة سلمت من الدخيل، وعلى إلمام وثيق باللغة وأسرارها، كما يستطيع أن يستشف شيئاً آخر أن فكرة الكتاب كانت واضحة المعالم عند المؤلف الملهم الذي استطاع بجدارة أن يسد فراغاً كان شاغراً في تلك العهود المنصرمة ويرفع أصار الجهل ووصمة الصغار الناتج عنه ويجعل العرب والمسلمون باختلاف مشاربهم وسحناتهم تهتك حجب تخلفهم عن ماضيهم التليد بشراع المراغي الذي وصلهم بسلفهم الغالي، ورفع عن كواهلهم عنت الحواشي والاختصارات، وطلاسم التراكيب المجملة،والعبارات الغامضة.
نجد أن المراغي استهل كتابه بتقديم نبذة في تاريخ علوم البيان ومدى الحاجة إلي وضع قواعدها، ذاكراً صروف الدهر التي جابهت هذا الضرب السامي من علوم العربية، مبيناً أن أول من دون هذا العلم هو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي أبوعبيدة معمر بن المثنى الذي وضع كتاباً في علم البيان سماه ((مجاز القران)) مستدركاً أنه "لم يكن يرد بالمجاز الوصف الذي ينطبق على ما وضع من القواعد بعد، بل هو أشبه بكتاب في اللغة توخى فيه جمع الألفاظ التي أريد بها غير معانيها الوضعية".[21]
ثم يوضح في إيجاز أهم العلماء الذين نهض على سواعدهم الفتية أركان هذا العلم. وبعد ذلك يتحدث عن حقيقة الفصاحة والبلاغة في بيان ناصع وشرح سديد، وتتوالى مباحث الكتاب وأبوابه كوكف المطر، فنرى عالمنا الذي عضّ كتابه على قارحة من الكلام يتطرق للإنشاء والتمني والاستفهام والأمر والنهي والنداء والذكر والحذف ومزاياه وشروطه، ثم يفصّل القول في التقديم وأقسامه والفرق بين النكرة والمعرفة مع إعطاء نماذج للتنكير والتقييد، كما تحدث بإسهاب عن الخروج عن مقتضى الظاهر، ليعقبه بفصل في فصل من ستة مباحث عن القصر وتعريفه في اللغة والاصطلاح، ثم يتحدث بعد ذلك عن الفصل والوصل الذي بيبن فيه دقة مسلكه وعظيم خطره، ويوفي الحديث عن الإيجاز والإطناب والمساواة، ويهضب في حديثه عن أسرار البلاغة في الإيجاز والإطناب.
حديث المراغي عن التشبيه وأقسامه:
الكاتب الرشيق العبارة، والمنمق العبارة، بعد أن أتى على كل تلك الفصول التي أحصيناها، أطنب في شرح حقيقة التشبيه وجليل فائدته، معرفاً التشبيه لغة بالتمثيل، واصطلاحاً بإلحاق أمر (المشبه) بأمر (المشبه به) في معنى مشترك (وجه الشبه) بأداة وهي (الكاف وكأن وما في معناهما) لغرض أي لفائدة..ثم يتحدث بعد ذلك عن أركان التشبيه موضحاً أنها أربعة وهي: المشبه، والمشبه به، ويسميان بالطرفين، ووجه الشبه، وأداة التشبيه. وفي سياق حديثه عن الجدوى من التشبيه ذكر أن فائدته تتمثل في إيضاح المعنى المقصود مع الإيجاز والاختصار، فقول علي كالأسد يغنينا عن التفصيل، ونعت علي بقوة البطش وشدة المراس، وعظمة الشجاعة، وما إلي ذلك من أوصاف الأسد البادية للعيون".[22]
ثم في المبحث الثاني يقسم الطرفان إلي حسيين وعقليين ومختلفين، وإلي مفردين ومركبين ومختلفين، ذاكراً أنّ الحسيان ما يدركان هما أو مادتهما بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، وبهذا التفسير دخل في الحسي شيئان: ما كان للطرفان فيه مشتركين، إما في صفة مبصرة كتشبيه الحور الحسان بالياقوت والمرجان في قوله تعالى:{كأنهن الياقوت والمرجان}الرحمن:58. أو في صفة مسموعة كتشبيه الصوت الحسن بالموسيقى، والأسلحة في وقعها بالصواعق، أما في الصفة التي تعتمد على التذوق كتشبيه الفواكه الحلوة بالعسل، والريق بالخمر، وفي الصفة التي تقوم مزاياها على الاستنشاق والشم، كتشبيه رائحة الرياحين المجتمعة بالغالية وهي أخلاط من الطَِيبْ ، والنكهة بريح العنبر، أما في الصفة الملموسة كأن يشبه الجسم الطري بالحرير في النعومة.
والعقليان ما لم يدركا، هما ولا مادتهما بإحدى الحواس، كتشبيهم الضلال عن الحق بالعمى، والعلم بالحياة، والمختلفتان إما بأن يكون المشبه عقلياً والمشبه به حسياً، كما يشبه العدل بالقسطاس.
والمفردان إما مطلقان، كما في تشبيه الشعر بالليل، والمخاطب بالحالم، في قوله:
تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم
وأما مقيدان بوصف أو إضافة أو ظرف أو حال، أو نحو ذلك، مما يكون له تعلق بوجه الشبه، كقولهم لمن يفخر بما ليس له، كالحادي، وليس له بعير.
وأما مختلفان، والمقيد هو المشبه، نحو قول المتنبي:
وإذا الأرض أظلمت كان شمساً وإذا الأرض أمحلت كان وبلا
أو بالعكس كقول الخنساء:
أغرٌّ أبلج تاتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
وإما مركبان كقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فالشبه هو "مجموع الغبار والسيوف المتألقة في خلاله والمشبه به هو الليل الذي تتهافت كواكبه، إذ لم يقصد تشبيه الغبار بالليل والسيوف بالكواكب، بل عمد إلي تشبيه هيئة السيوف وقد سلت من أغمادها، وه تعلو وترسب وتجيء وتذهب وتضطرب اضطراباً شديداً وتتحرك إلي جهات مختلفة، وكذا إلي هيئة الكواكب في تهاويها وتصادمها وتداخلها واستطالة أشكالها عند السقوط".[23]
وفي المبحث الثالث تحدث المراغي تقسيم التشبيه باعتبار الطرفين إلي ملفوف ومفروق، وهو أن يؤتى بالمشبهات أولاً على طريقة العطف، أو غيرها، ثم يؤتى بالمشبهات بها كذلك، ويسمى حيئنذ تشبيهاً ملفوفاً ومثاله قول امريء القيس يصف عقاباً بكثرة اصطياد الطيور:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ولدى وكرها العناب والحشف البالي
فقد شبه الرطب من قلوب الطير بالعناب، وشبه اليابس العتيق منها بالحشف البالي.
أما التشبيه المفروق فهو أن يؤتى بمشبه ومشبه به، ثم بآخر وآخر، ويسمى تشبيهاً مفروقاًكقول ابن سكرة:
الخد ورد والصدغ غالية والريق خمر والثغر كالدر
ثم يتحدث المراغي في إيجاز غير مخل عن مبحثه الرابع الذي خصصه للحديث عن تقسيم التشبيه باعتبار الطرفين إلي تشبيه تسوية، وتشبيه جمع مع إيراد الأمثلة والشواهد التي تدعم صحة ما ذهب إليه، وفي المبحث الخامس يتحدث عن وجه الشبه ذاكراً أنه الوصف الخاص الذي قصد اشتراك الطرفين فيه...فمن أراد أن يشبه حركة أو هيئة بغيرها فعليه أن يتطلب أمراً يشترك فيه الطرفان، كما فعل ابن المعتز حين يقول:
وكأن البرق مصحف قار فانطباقاً مرة وانفتاحا
فهو لم ينظر إلى جميع صفات البرق، بل نظر إلي انبساط يعقبه انقباض وانتشار يتلوه انضمام، فشبه ذلك بمصحف يفتحه القارئ مرة، ويطبقه مرة أخرى".[24]
وفي المبحث السادس يتحدث المرحوم المراغي في كتابه الذي حوى علم البلاغة في ثوب قشيب، ولفظ بديع، عن تقسيم التشبيه باعتبار الوجه إلي تمثيل وغيره، موضحاً أن التمثيل تشبيه وجه منتزع من متعدد أمرين، أو أمور، كقوله:
وكأن النجوم والليل داج نقشُ عاج يلوح في سقف ساج
فوجه الشبه هيئة مأخوذة من أشياء بيضاء مستديرة لامعة في وسط أسود
وعن الفرق بين التشبيه والتمثيل أوضح المرحوم المراغي أن التشبيه أعمّ من التمثيل، فكل تمثيل تشبيه دون عكس إذ التمثيل مختص بما كان وجه الشبه فيه منتزعاً من متعدد.[25] وعن تأثير التمثيل في النفس يقول:"إذا وقع التمثيل في صدر القول بعث المعنى إلي النفس بوضوح وجلاء مؤيداً بالبرهان، وإذا أتي بعد استيفاء المعاني كان:
1-إما دليلاً على إمكانها، كقول المتنبي:
وما أنا بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام
2-أو تأييداً للمعنى الثابت، كقوله:
ونار لو نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
وفي المبحث السابع يتحدث علمنا الثبت عن التشبيه المجمل وهو الذي لم يذكر فيه وجه الشبه، ذاكراً أنه ينقسم إلي قسمين:
1- قسم ظاهر يفهمه كل أحد كأن يشبه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه والحلقة في وجه آخر.
2- خفي لا يعرف المقصود منه ببديهة السمع، بل يحتاج إلي تأويل كقول كعب بن معدان الأشعري في وصف بني المهلب(هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها)، فهذا يحتاج إلي فضل تأمل ورفق، ولا يفهمه إلا من ارتفع عن طبقة العامة ودخل في عداد الخاصة. بعد ذلك يتحدث عن أدوات التشبيه وهي الكاف، وكأن، ومثل، ونحوها مما يفيد المعنى بعد المماثلة والمشابهة، نحو:فجعلهم كعصف مأكول، كأنهم الياقوت والمرجان، وإنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه...إلي آخر الأية الكريمة. ثم يتحدث عن أقسام التشبيه باعتبار الأداة، موضحاً أن التشبيه باعتبار الأداة ينقسم إلي تشبيه مؤكد وهو ما حذفت منه الأداة".[26]، نحو: هم البحور عطاء حين تسألهم وفي اللقاء إذا تلقاهم بهم
ومنه ما أضيف المشبه به إلي المشبه، كقوله:
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلي مصباح رأيك تزده ضوء مصبح
3- تشبيه مرسل، وهو ما ذكرت فيه الأداة، نحو
كأن عيون النرجس الغض حولنا مداهن درّ حشوهن عقيق
4- التشبيه البليغ، وهو ما ذكر فيه الطرفان فقط وحذف منه الوجه والأداة، وسبب تسميته بذلك أن حذف الوجه والأداة يوهم اتحاد الطرفين وعدم تفاضلهما فيعلو المشبه إلي مستوى المشبه به، وهذه هي المبالغة في قوة التشبيه، ومن أمثلته:
فالأرض ياقوتة والجو لؤلؤة والنبت فيروزج والماء بلور
طلعن بدوراً وانقبن أهلة ومسن غصوناً والتفتن جآذرا
فاقضوا مىربكم عجالا إنما أعماركم سفر من الأسفار.
ثم يفصل الحديث عن أغراض التشبيه مع ذكر الأمثلة والشواهد التي تساعد على الاستيعاب وتمكن من ترسيخ القواعد التي نثرها بين طيات كتابه في الحافظة فلا تغادرها إلا بعد لأى.
حول المنهج الذي انتهجه العالمين الجليلين:
لا شك أن الإمام الجرجاني قد قعّد علم البلاغة وسطع نجمها في عهده، وهذا ما أجمع عليه الدارسون لعلوم اللغة العربية وفروعها، لقد حاز الإمام الجرجاني على قصب السبق في تقريره للكثير من قواعدها، إضافة لوضعه نظرية النظم في النقد العربي من خلال كتابيه (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز). ونجد أن العالم الجرجاني الذي دار الكثير من علماء اللغة الذين أتوا من بعده في فلكه ولزموا غرسه في بسط الحجج وتدعيمها بالشواهد التي ترتبط بالذهن وتلازمه، بل نجد أن الكثير من الأيات القرآنية والأشعار التي طرحها في كتابه عند الدرس والتحليل استشهد بها من أتوا في عقبه ولم يحيدوا عنها، ولم يستطيعوا لوى عنقها، ونجد أن الإمام الجرجاني لم يكن يأصل لتلك القواعد بطريقة تثير الضجر وتجعل الملل والرتابة يخامر من يطالع هذه القواعد، بل كانت طريقته في التنويع تتسم بالأصالة والابتكار إضافة لمتانة الألفاظ وقوة السبك وروعة التحليل البياني للظواهر البلاغية. ولكن لعل الشيء الذي يقدح في مروج الجرجاني الزاهية تعهده للمسائل التي نثرها من قبل ومعاودته لها بالشرح والاستطالة في كل مرة يعرج إليها. ولعل تأثير الجرجاني وفضله على الكل امتد ليشمل المرحوم الدكتور المراغي ويتجاوزه ليؤثر فينا نحن الذين نعيش على ظهر البسيطة الان، والمراغي سدد الله خلته لم يكتفي فقط بالشروح المبتذلة والحواشي التي تجلب الكدر والنفور لقارئها بل سعى لأن يضع كتاباً يبث في دخائل أمة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الاعتزاز بهذا التراث وهذه اللغة الغنية بالمفردات والتراكيب وبهذه الحضارة التي امتدت لتشمل أقاصي الدنيا، نجد أن المنهج الذي اتخذه المراغي سهل الكثير من العنت الذي كان يتجشمه الطالب وبما واتاه الله من سعة في العلم ووضوح في الرؤية كاد كتابه هذا أن يصل إلي ذروة من الكمال، فهو بعبارة سهلة ولفظ رشيق يجلي عنّا غوامض هذا العلم، ويرسل لنا من قيثارته ألحاناً شجية تحببنا فيه، رأيناه في كتابه لا يكتفي فقط بالشرح المسهب، والشواهد البينة، بل يعضدها بالتمارين التي تجعل الطالب يستقر في ذهنه هذا العلم ويغدو متمكناً فيه ملماً بضروبه وخباياه. فجزاهم الله عنّا خير الجزاء وجعل ما سكباه من جهد في ميزان حسانتهم.
خاتمة:
الحقيقة التي أحب أن أوردها في خاتمة هذا البحث أن الجرجاني ذلك العبقري الذي لم يفري أحد فريه لم يكتفي فقط بمطالعة الكتب التي ألفها الجهابذة الذين سبقوه من كتب ناوشت الدهر وصاولت الزمان ولم تذهب ديباجتها كثرة التقليب، ولكنه عمد إلي دراستها دراسة وافية متأنية وتقليب النظر فيها الفينة بعد الأخرى حتى خرج علينا بهذه الدرر التي تملأ شعاب القلب بالإعجاب، وكذلك المراغي لم يكتفي بالجانب التنظيري الذي يولد الملل والنفور و يغرس في النفوس السأم من الإقبال عليه، فخلا كتابه من الجمود وطغيان المصطلحات المستخلصة من كتابات السابقين.
1-المراغي،أحمد مصطفى،علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع (بيروت:دار الكتب العلمية،ط4، 1422هـ/2002م) ص:8.
[2] -علام،عبدالعاطي غريب على،البلاغة العربية بين الناقدين الخالدين الجرجاني وابن سنان الخفّاجي (بيروت:دار الجيل،ط1، 1413هـ-1993م) ص:30.
[3] - المرجع السابق،ص:35.بتصرف يسير.
[4] - المرجع السابق،ص:34.
[5] -حمودة،سعد سليمان،البلاغة العربية (مصر:دار المعرفة الجامعية،د،ط، 2001م) ص:160-177-208.بتصرف.
[6] - علام،عبد العاطي غريب على،البلاغة العربية بين الناقدين الخالدين الجرجاني وابن سنان الخفّاجي،ص:155.
[7] -الجرجاني،عبد القاهر،أسرار البلاغة،تحقيق:محمد الفاضلي (بيروت:المكتبة العصرية،ط2، 1420هـ/1999م) ص:69.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع