د. بدر عبد الحميد هميسه
التوقيعات ضرب من ضروب الإيجاز , وفن من فنون العربية , ولون من ألوان البلاغة , ولقد ظهر هذا الفن منذ قديم الزمان فها هو الإسكندر : لما توجه تلقاء دارا رفع إليه أن دارا في ثمانين ألفا، فوقع: القصاب لا يهوله كثرة الغنم.
ورفع إليه صاحب جيشه يذكر ما يشير به بعض سقاط العسكر من اغتيال العدو، فوقع: لا تستحقرن الرأي الجليل يأتيك به الرجل الحقير، فإن الدرة الكريمة لا يستهان بها لهوان الغائص. ووقع إلى بعض قواده: حبب إلى عدوك الفرار، بأن لا تتبعه إذا انهزم.
وها هو ملك الصين: كتب إليه صاحب جيشه في ركض الترك على أطراف مملكته، فوقع في كتابه: الاحتمال حتى تمكن القدرة.
وهذا هو بطلميوس الصغر: ملك الروم: وقع حين كتب إليه عامله على الشام في انحياز بعض الملوك الكبار إلى مستقرة: لا تطمع في كل ما تسمع.
ونرسي بن بهرام: أحد الأكاسرة: رفع إليه أهل اصطخر يشكون احتباس القطر واشتداد القحط، فوقع: إذا بخلت السماء بقطرها جادت يد الملوك بدرها، وقد أمرنا لكم بما يجبر كسركم ويغني فقركم.
ورفع إليه الموبذان أن فلانا يحب ابنك فاقتله، فوقع: إن قتلنا من يحبنا وقتلنا من يبغضنا يوشك أن لا يبقى على ظهرها أحد.
وسابور بن سابور: كتب إليه عامل جور بإتيان البرد على الورد وتعذر إقامة وظيفة ماء الورد للحضرة كالعادة كل سنة، فوقع: في سلامة النفس والدين عوض عن كل فائت، فلو لم يخلق الورد لكان ماذا.
وأنوشروان: رفع إليه أن النهر الذي حفره بالمدائن قد أضر بكثير من الضياع ضياع الناس، فوقع: الضرر اليسير الخاص محتمل مع النفع الكثير العام.
ورفع إليه أن وكيل النفقات يبدأ كل يوم بأجر نفسه، فوقع: متى رأيتم نهرا يسقي أرضا قيل أن يشرب.
ورفع ليه أن بيت ماله قد شارف الخلاء، فوقع: الملك العادل لا يخلو بيت ماله.
ورفع إليه أن الرعية تعيب الملك باصطناعه فلانا وليس له نسب ولا شرف، فوقع: إن اصطناعنا إياه نسبه وشرفه.
ورفع إليه أن بزرجمهر يسأله الصفح، فوقع: إذا أحصد الزرع فلم يحصد فسد.
ورفع إليه أن في بطانة الملك جماعة قد فسدت نياتهم وهم غير مأمونين على الملك، فوقع: نحن نملك الأجساد لا النيات، ونحكم بالعدل لا بالرضى، ونفحص عن الأعمال لا عن الأسرار.
ورفع إليه ما بال الهموم لا تؤثر فيكم، فوقع: لعلمنا بسرعة انتقالها عنا وانتقالنا عنها.
ووقع إلى ابنه شيرويه: ستجني ثمرة ما جنيت والسلام عليك تسليم سنة لا تسليم رضي. انظر :الثعالبي : خاص الخاص 72.
ولقد تطور فن التوقيعات عند العرب ففي عصر الخلفاء الراشدين حينما اتسعت الدولة الإسلامية , واضطر الخلفاء والأمراء والولاة إلى الكتابة برأيهم على ما يرفع إليهم من مظالم ومطالب .
وأصبحت التوقيعات أكثر ما تكون اقتباساً من آية قرآنية أو حديث شريف أو مثل مشهور أو حكمة معترف بها .
ولقد الخلفاء والأدباء يُمتدحون بروعة توقيعاتهم , قال السيوطي عن المستظهر بالله: أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله.قال ابن الأثير: كان لين الجانب، كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير ويسارع في أعمال البر، حسن الحظ، جيد التوقيعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع. انظر : تاريخ الخلفاء 114 .
وقال الذهبي في ترجمة السلطان الناصر قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: دَانت لِلنَاصِر السَّلاَطِيْن، وَدَخَلَ تَحْتَ طَاعته المخَالفُوْنَ، وَذلَّت لَهُ العُتَاة، وَانقهرت بسيفه البُغَاة، وَاندحض أَضدَاده، وَفتح البِلاَد العَدِيْدَة، وَملك مَا لَمْ يَملكه غَيْرُه، وَخُطِبَ لَهُ بِالأَنْدَلُسِ وَبِالصّين، وَكَانَ أَسد بَنِي العَبَّاسِ تَتصدَّع لهيبته الجِبَال، وَتذل لسطوته الأَقيَال، وَكَانَ حَسَنَ الخلق أَطيف الخُلق، كَامِل الظّرف، فَصِيْحاً، بَلِيْغاً، لَهُ التَّوقيعَات المُسَدّدَة وَالكَلِمَاتَ المُؤيدَة، كَانَتْ أَيَّامه غرَّة فِي وَجه الدَّهْر، وَدرَة فِي تَاج الفَخْر. سير أعلام النبلاء 42/213.
ومن نماذج التوقيعات عند الخلفاء, وقع عثمان رضي الله عنه لرجل شكا فقرا :قد أمرنا لك بما يقيمك وليس في مال الله فضل للمسرف.
وكتب خالد بن الوليد: إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه من دومة الجندل يستأمره في أمر العدو، فوقع إليه: أدن من الموت، توهب لك الحياة.
وكتب سعد بن أبي وقاص: إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الكوفة يستأذنه في بناء دار الإمارة، فوقع إليه: أبن ما يستر من الشمس ويكن من المطر.
وكتب إليه نفر من أهل مصر يشكون مروان بن الحكم، فوقع في كتابهم: " فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " الشعراء: 216 .
وكتب الحسين إلى علي - رضي الله عنهما - في شيء من أمر عثمان ابن عفان رضي الله عنه، فوقع إليه: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
وكتب إليه الحضين بن المنذر بصفين: يا أمير المؤمنين قد أسرع السيف في ربيعة، وخاصة في أسرى منهم، فوقع إليه: بقية السيف أنهى عددا.
ووقع معاوية: نحن الزمان من رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع.
وكتب إليه الحسن بن علي - رضي الله عنهما - كتابا أغلظ له فيه القول، فوقع إليه: ليت طول حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا إليك.
وكان عمر بن عبد العزيز يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم فقد كتب إلى أحدهم يقول: (لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما اعتزلت والسلام). عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ275 .
وكتب عامل حمص إلى عمر بن عبد العزيز يخبر أنها احتاجت إلى حصن، فوقع: حصنها بالعدل، والسلام.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان في كتابه يشكوا إليه أهل العراق، فوقع: ارفق بهم فإنه لا يكون مع الرفق ما تكره ومع الخرق ما تحب.
وكتب مسلمة بن عبد الملك إلى أخيه سليمان من الصائفة بما كان منه من حسن الأثر في بلاد الروم، فوقع في كتابه: ذلك بالله لا بالمسلمة.
ورفع متظلم قصة إلى هشام بن عبد الملك، فوقع فيها: أتاك الغوث إن صدقت، وجاءك النكال إن كذبت.
وكتب نصر بن سيار: والي خراسان إلى مروان بن محمد آخر ملوك بني مروان بظهور أبي مسلم، فوقع في كتابه: احسم ذلك التزلزل من جهتك.
وكتب إليه يزيد بن هبيرة أن قحطبة قد غرق وأنه واقع أصحابه فهزم، فوقع: هذا والله الإدبار وإلا فمن سمع بميت هزم حيا.
ولما أيس مروان من أمره كتب إلى عبد الله بن علي يوصيه بالحرم، فوقع في كتابه: الحق لنا في دمك وعلينا في حرمك.
ووقع في قصة متظلم من علي بن هشام: يا أبا الحسين: الشريف من يظلم من فوقه ويظلمه من دونه فانظر أي الرجلين أنت ووقع في رقعة إبراهيم بن المهدي، وقد سأله تجديد الأمان: القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وبينهما عفو الله .
ووقع إلى الواقدي، وقد كتب يذكر دينا عليه ويستمنح: فيك خصلتان: سخاء وحياء؛ أما السخاء فهو الذي أطلق يدك فيما ملكت، وأما الحياء فهو الذي حملك على أن ذكرت بعض دينك دون كله، وقد أمرت لك بضعف ما كتبت، فزد في بسط يدك، فإن خزائن الله مفتوحة ويده بالخير مبسوطة.
وها هو أبو عبد الله: الكاتب المهدي: كتب إليه رجل يعتذر ولا يحسن، فوقع في كتابه: ما رأيت عذار أشبه باستئناف ذنب من هذا.
وجعفر بن يحي: من توقيعاته: الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل وما استنزر بمثل الجور.
ووقع في رقعة معتذر من ذنب: قد تقدمت طاعتك وسبقت نصيحتك، فإن بدرت منك هفوة فلن تغلب سيئة حسنتين. راجع : الثعالبي : خاص الخاص 72.
وقال محمد بن يزيد النحوي: بعث ابن أبي عون حاجب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى محمد بأنوار من بستانه وريحان، وكتب معه:
قد بعثنا بطيِّب الرِّيحان * * * * خيرَ ما قد جُنى من البستانِ
قد تخيَّرته لخيرِ أميرٍ * * * * زانه الله بالتقى والبيانِ
فوقع على ظهر رقعته: عونُ يا عونُ قد ضللت عن القصد وعميتَ عن دقيقِ المعاني حشوُ بيتيك "قد وقد"فإلى كم قدّك الله بالحسام اليماني . الموشح المرزباني الصفحة : 121.
إلى غير ذلك من النماذج التي تدل على براعة هؤلاء وتمكنهم من ناصية الكلام ومواقع البيان .
المراجع
saaid.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع